دونالد ترامب يناور بقوة لفرض الهدوء في الشرق الأوسط؛ لأنه يرغب في التصدي لقضايا الداخل بالولايات المتحدة، وبات واضحًا أن ترامب لا يزال حريصًا على تحقيق السلام بأي ثمن، باستثناء التورط في حرب أخرى من الحروب التي لا نهاية لها.
ولقد بدأت تتسرب تفاصيل المحادثات الصعبة بين مساعدي ترامب ورئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو، والأخير يساوم ويطلب ثمنًا باهظًا، ويبالغ في قيمة "هديته" بوقف إطلاق النار وصفقة غزة، وجدد ترامب مؤخرًا تهديده بأن "يفتح أبواب الجحيم" على الشرق الأوسط، إذا لم تفرج حماس عن الأسرى الإسرائيليين المحتجزين في غزة قبل وصوله البيت الأبيض في 20 يناير.
ورفضت حماس تهديدات ترامب، وقال القيادي بالحركة طاهر النونو: "من الأفضل أن يفكر ترامب في إنجاح جهود الوساطة وإنهاء الحرب في غزة، بدلا من التهديدات التي لن تجلب سوى مزيدٍ من الدمار والقتل لشعبنا الفلسطيني".
وفي الوقت نفسه يثير ترامب التهديدات حتى آخر المدى، ولكنه ينتظر الطرف الإيراني والعربي لكي يتفاوض معهم حول "ثمن إغلاق أبواب الجحيم" في الشرق الأوسط، وبالرغم من أن ترامب يواجه بيئة عالمية متغيرة أقل قبولا لأسلوبه المعتاد في إبرام الصفقات، ولكن يرى أن البيئة الإقليمية تغيرت بعد سقوط الأسد وحرب لبنان، والضغط على حزب الله وإيران.
ويراوده الأمل بأنه ربما الأطراف المنخرطة في الصراع قد ضعفت، وربما وصلت لقناعة بأن الوقت حان لأخذ استراحة، وعقد صفقات مؤقتة انتظارًا لجولة أخرى من الصراع في الشرق الأوسط، وتعزز قناعات رجال ترامب أن الرئيس الإيراني المعتدل، مسعود بزشكيان، يبدي علنا استعدادًا للتفاوض قائلا: "سواء أحببنا ذلك أم لا، سنضطر للتعامل مع الولايات المتحدة على الساحتين الإقليمية والدولية.
وأغلب الظن أن الجميع له مطالب، وسوف يحاول الحصول على مكاسب والدفاع عن الأمن القومي لبلاده، وهذا على الأقل هو "خبرة السنين" في هذه المنطقة المضطربة من العالم.
ويصف العديد من الخبراء في مجال الشئون الأمريكية سياسة ترامب الخارجية بأنها مليئة بالغموض والتعقيد؛ إذ يكفي المرور بشكل موجز على تصريحات ترامب تجاه الصين وروسيا، خاصةً في سياق الحرب في أوكرانيا، ليتضح مدى هذا الغموض، ومع ذلك، فإن سياسة ترامب الخارجية تجاه الشرق الأوسط تعتبر واضحة إلى حد كبير، ومن بين مجموعة واسعة من قضايا الشرق الأوسط، فإن نهج ترامب تجاه حرب غزة واتفاقيات أبراهام والملف الإيراني أكثر وضوحًا من أي موضوع آخر.
وأحد الوثائق التي توضح خارطة طريق سياسة ترامب تجاه الشرق الأوسط، وخاصة إيران، هي “الوثيقة الإستراتيجية للجمهوريين لعام 2025”. تعتبر هذه الوثيقة بمثابة بيان حزبي للجمهوريين لعام 2025، وهي تقرير مكون من 900 صفحة تم إعداده بواسطة مؤسسة “هيريتاج” في عام 2022 بمشاركة أكثر من 900 خبير.
وتناول التقرير تقييم السياسات الداخلية والخارجية للولايات المتحدة في جوانب البيروقراطية، والاقتصاد، والرفاهية، والقانون، والبيئة، وفي الوقت نفسه، نقد نهج إدارة بايدن وتقديم توصيات سياسية للمرشح الجمهوري في انتخابات 2024، ويطلق العديد من الخبراء على هذه الوثيقة “خارطة طريق حكومة ترامب” لعام 2025. وتشير الوثيقة أيضًا إلى السياسات الأمريكية في الشرق الأوسط، حيث تتمحور هذه السياسات حول إيران باعتبارها “العدو” الرئيسي للولايات المتحدة في المنطقة.
وبعبارة أخرى، قامت الوثيقة بصياغة السياسات الأمريكية في الشرق الأوسط من خلال معاداة إيران وتعريفها كأكبر تهديد للولايات المتحدة في المنطقة، وينتقد التقرير سياسة بايدن الخارجية في الشرق الأوسط، وخاصة فيما يتعلق بإيران، قائلاً: “قدمت إدارة بايدن مساعدات مالية للحلفاء الإقليميين للولايات المتحدة لم تحقق المصالح الأمنية الأمريكية”.
وفي جزء آخر من الوثيقة، يُشار إلى اتفاقية أبراهام باعتبارها أهم مبادرة للسياسة الخارجية لإدارة ترامب: “تم تصميم اتفاقية أبراهام بهدف تحويل إيران إلى “المسألة الرئيسية في الشرق الأوسط” وإبعاد النزاع بين العرب وإسرائيل عن محورية قضايا المنطقة”.
وبناءً على ذلك، توصي الوثيقة بما يلي:1
- أن تكون المساعدات الأمريكية في الشرق الأوسط تخدم المصالح الأمنية للولايات المتحدة.
2- بدلاً من تقديم مساعدات مالية مباشرة، يجب على الولايات المتحدة أن تعمل على تعزيز ودعم القطاع الخاص والشبكة التجارية بين العرب وإسرائيل.
3- أن تكون المساعدات الأمريكية للحلفاء الأمريكيين في إطار تعزيز “اتفاقية أبراهام”.
4- قطع المساعدات الأمريكية للدول مثل العراق ولبنان والجماعات الفلسطينية طالما أنها تتعاون بشكل مباشر أو غير مباشر مع إيران.
5- أن تكون المساعدات الأمريكية في خدمة تغيير نمط التدخل الأمريكي في الشرق الأوسط من “الوجود” إلى “التأثير”.
ما ورد في هذه الوثيقة قد تم طرحه سابقًا من قبل ترامب ومستشاريه، كما تحتوي هذه الوثيقة، رغم التهديدات السابقة لمسئولي الحزب الجمهوري تجاه إيران، على تحذير إستراتيجي للمسئولين وصناع القرار في طهران مفاده أن ترامب قد اختار إستراتيجيته تجاه إيران، وأنه بمجرد دخوله البيت الأبيض، سيبدأ في تنفيذها.
ومن جانبه يقول محمد حسيني سفير إيران السابق لدى الرياض أن ما هو مؤكد هو أن إيران لا يمكنها أن تطبق النموذج الذي اعتمدته مع إدارة بايدن مع إدارة ترامب، ولقد كان النموذج الإيراني تجاه إدارة بايدن “لا حرب ولا مفاوضات مباشرة”.
ويرى أنه من المتوقع أن تتجه إيران نحو نموذج “الحرب والمفاوضات المباشرة” في الوقت نفسه.
وينصح حسيني حكومة طهران بقوله: "لكن قبل أن يفرض النظام الدولي هذا النموذج على إيران بتكاليف باهظة، من الأفضل تصميم نموذج مناسب لمواجهة تهديدات ترامب، بحيث يتم الحفاظ على كرامة إيران مع تأمين أقصى فائدة وطنية وتقليل التهديدات المحتملة."
ويقول هؤلاء الخبراء إن ترامب يواجه عقبات جدية في تنفيذ تعهده بإقناع إيران بالتخلي عن برنامجها النووي، وستكون المشكلة التي تواجه ترامب هي أن لدى طهران دوافع جديدة لامتلاك أسلحة نووية؛ حيث عانت قوة ردع إيران التقليدية، خلال الأشهر الأخيرة، من فشل كبير ضد إسرائيل، بعدما قضت إسرائيل تقريبًا على القيادات العليا لحلفاء إيران في "حزب الله" و"حماس"، بما في ذلك بشن ضربات داخل إيران، وفي وقت سابق، اقترح قائد كبير في الحرس الثوري الإيراني أن تراجع إيران "عقيدتها النووية" في مواجهة التهديدات الإسرائيلية، والآن أصبحت إيران أقرب كثيرًا لامتلاك السلاح النووي مما كانت عليه في عام 2018، حينما رفض ترامب الاتفاق النووي الذي تفاوض عليه سلفه باراك أوباما.
ومن بين الأمور التي قد تغير الحسابات الإيرانية لصالح التعجيل ببرنامجها النووي تأكيد المسئولين الأمريكيين والإسرائيليين أن الهجوم الانتقامي الذي شنته إسرائيل على إيران أدى إلى تدمير منشأة نشطة لأبحاث الأسلحة النووية.
وقد حذر المتشددون في إيران علنا من أن مثل هذه الدرجة من الضعف الإستراتيجي غير مقبولة بالنسبة لهم، وقال كمال خرازي مستشار المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي نحن لدينا القدرة على تصنيع الأسلحة، وليس لدينا أي مشكلة في هذا الصدد".
ويبقي أن الكثير من الخبراء يرون أن البيئة الدولية أكثر قسوة، وثمة تداخل كبير ما بين الصراعات الدولية ما بين الغرب بقيادة واشنطن والشرق بقيادة روسيا والصين، وهو ما يجعل من غير المحتمل أن تنتهي الحروب في أوكرانيا والشرق الأوسط، التي أرهقت جميع الأطراف، في أي وقت قريب.
وقبل أن يتسلم ترامب مقاليد السلطة نشهد تصعيدًا ضد روسيا، وهجومًا ضد خط الأنابيب "ستريم ترك" الذي ينقل الغاز الروسي إلى أوروبا من خلال تركيا.
وأغلب الظن أن ترامب ستكون مشكلته مع مؤسسات الدولة العميقة، ومع رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو، فهو يريد الحصول على "ثمن باهظ"، بل ثمن لم يحصل عليه من قبل، وهذا الثمن من 3 عناصر، أولها الاعتراف بضم الضفة واستيطان غزة وضم الجولان، والثاني المشاركة في ضرب برنامج إيران النووي عسكريا، والثالث إقناع مزيد من الدول العربية وخاصة السعودية في الانضمام إلى اتفاقات أبراهام دون إقامة دولة فلسطينية، وعلاوة على ذلك دعم عسكري غير مسبوق، ودعم مالي كبير للتعويض عن خسائر الحرب، وأخيرًا دعم مستقبل نتنياهو السياسي.
وفي المقابل لن يمنح العرب ولا أيران ترامب "شيكًا على بياض"، فحتى إغلاق أبواب الجحيم في الشرق الأوسط "بثمن".