الأسبوع الماضي لم يكن عاديًا، ولكن شهد زخمًا عديدًا من الأحداث والمناسبات، وما بين أحداث الدماء والقتل والترويع وتدمير الأوطان يتصادف سنويًا حدثان مع بعضهما البعض، وللوهلة الأولى، وبالنظرة السريعة ربما يعتقد الناظر أن الحدثين ليس بينهما رابط يربطهما، وبالتعمق والنظرة الدقيقة سنكتشف أن بينهما عاملًا مشتركًا يكمن في مبدأ أساسي اسمه الوسطية والاعتدال والحفاظ على اللحمة الوطنية والنسيج القومي، وحماية وطننا الغالي مصر من شعار الفرقة وصراع العصبية اللادينية وبث الخلاف ونشر الفتنة..
من الفأل المبهج، ومن تعاود الزمان بذكرياته العطرة، وفي السادس من يناير الحالي صادف ذكرى ميلاد الإمام الأكبر الـ 79.. أحمد الطيب الإمام الـ50 لمشيخة الأزهر الصوفي.. إمام السلام.. صاحب الفكر الإصلاحي المعتدل، والذي يحمل فلسفة سماحة الإسلام، ويرفع شعار قيمه النبيلة التي لا تميل إلى التشدد أو تجنح للتطرف أو تدعو للوصاية على دين الآخر أو تقبل الإفراط والمبالغة في الانتماء، جاء يوم مولده المبارك مع احتفالات عيد الميلاد المجيد، وزيارته على رأس وفدٍ من المؤسسات الدينية لتهنئة الأخوة المسيحيين بأعيادهم المجيدة.
إن الطيب فوق ما يحمله من مسئوليات جسام لإظهار يسر وسماحة شريعة الإسلام، هو حامل لواء الوسطية والتنوير ومطبقهما على أتم وأكمل وجه، وهو يعمل على ذلك بكل سعيه وجهده منذ توليه مسئولية مشيخة الأزهر، ومن قبلها رئاسة جامعة الأزهر وقبلهما منذ توليه دار الإفتاء المصرية..
لقد رسخ وأكد أن كل المصريين مسيحيين ومسلمين أخوة في الإنسانية والوطن.. يجمعهما شريان الوحدة الوطنية المتين، ويربطهما النيل الفياض بفيض من الحب الغامر لبلدهم الغالية مصر.
لقد وجه الطيب رده على المتشددين والمتربصين لنشر الفتنة الطائفية والفرقة وتدمير الوطن مثلما نجحوا في تدمير دول أخرى؛ بسبب نشر الفتنة الطائفية والعصبية المقيتة والقبلية البغيضة؛ حيث قال الإمام الأكبر: إن التهنئة للإخوة المسيحيين ليست مجاملةً أو هي مجرد شكليات ظاهرية، وإنما هي أسس من تعاليم ديننا الحنيف وإسلامنا السمح، مؤكدًا أن الإنجيل، الذي يدعو إلى محبة الناس، قد خرج من مشكاة الرحمة والمحبة والتعايش السلمى، كما خرج الإسلام تمامًا بتمام، وقد وصف القرآن الإنجيل والمنزل عليه فقال (وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ ۖ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ) (المائدة 46) وأردف الإمام قائلاً: إن القائلين بتحريم تهنئة المسيحيين بأعيادهم، وعدم مشاركتهم أوقات الفرحة والمساواة، إنما هم أصحاب «فكر متشدد لا يمت للإسلام بصلة»..
ولم تعرف مصر هذا الفكر المتشدد قبل سبعينيات القرن الماضي.. قائلاً:
إن الإسلام الحق هو الذي يعلمنا الأخلاق الحميدة وفقه التسامح وروح الإخاء والترابط.. انطلاقًا من قول رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فيما صح من حديث: «إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا، وإن أبغضكم إليَّ وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون» قالوا: يا رسول الله قد علمنا «الثرثارون والمتشدقون»، فما المتفيهقون؟ قال: «المتكبرون»... ويقول أيضًا: إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق».
إن الإمام الطيب يمثل صورة الوسطية، وهو رمز الاعتدال والتنوير، ورمز الزهد والورع، وهو دائمًا يردد ثلاثة أشياء فقط تكفيني من الدنيا: (جلباب وطبق فول ورغيف)، وهو بهذا القول يبعث برسائل مضمونها غايةً في الأهمية مفادها: أن الدنيا لاتساوي عنده شيئًا، وأن الأخوة المسيحيين في مصر، هم مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات، وأن هناك جذورًا متينةً عميقةً من المودة والصداقة والتآلف والتعارف بين قطبي الأمة المصرية مسلميها ومسيحييها هي راسخة في القلوب كرسوخ الأوتاد في الأرض، ممتدة في التعامل تؤتي ثمارها كل حين، قطوفاً من المودة والأخوة والمحبة المتبادلة.
إن إمام السلام الطيب حرص على تأسيس بيت العائلة المصرية منذ أكثر من عشر سنوات، بعد حادث كنيسة القديسيْن بالإسكندرية عام 2011؛ للتأكيد على أن مصر كانت دائمًا، وستظل، وطنًا يتسع للجميع يقبل التعددية ويلتزم الوسطية ويتمسك بالإنسانية، ولم ولن تفلح محاولات القلة في بث الفتنة والعزلة بين أبناء هذا الوطن المحصنين دائمًا بوعىٍ حقيقي، وأن الأزهر والكنيسة قد التَقَيا فيه من أجل تحصين مصرَ والمصريين من فتنٍ أحدقت بالبلاد ودمَّرت مِن حولنا أوطانًا ومجتمعاتٍ، بل وحضاراتٍ ضاربةً بجذورها في قديم الأزمان والآباد وراح ضحيَّتَها الملايينُ من الأرواح.
ولاشك أن قداسة البابا تواضروس بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية أيضًا يبادل الإمام الأكبر الطيب نفس الشعور والرؤية والتي تعكس الروح الأخوية التي تجمع المصريين مسيحيين ومسلمين.. وإننا نؤكد أن تلك الروح لم تكن تتم إلا في ظل وتحت مظلة قيادةٍ حكيمة متمثلة في شخص الرئيس السيسي تدعم ذلك وتنتهج نفس النهج القويم الذي يرسخ مبدأ الوحدة والمساواة، علاوةً على حرص الرئيس السيسي سنويًا على مشاركة احتفالات الأخوة المسيحيين أعيادهم، وإرسال رسائل عدة خلال مشاركته، أهمها أن مصر مسلميها ومسيحييها، مهما يحاك ضدهم، هم كالرجل الواحد بقلب ونبض واحد، وأن هناك اصطفافًا لمواجهة ومجابهة كل التحديات والأزمات في خضم ما يمر به العالم، وما تمر به المنطقة من مؤامرات ودسائس..
حفظ الله مصر قيادة وشعبًا، وحفظ قادتها الدينية والوطنية، وحفظ الله أزهرها وإمامه وشيوخه الأجلاء، ورعى الله كنائسها وقسيسيها الكرماء، وأدام الله مآذن مساجدها متعانقةً مع منارات كنائسها؛ لتشهد على عظمة تلك الوحدة الوطنية بين المصريين المسلمين والمسيحيين، والتي تغنى بها قديمًا الشيخ إبراهيم سليمان في أرجوزته السهلة الوطنيةَ، وهو يعتلي منبر الأزهر الشريف، وبين ساحة كنائسها القديسة:
الشيخُ والقسيسُ قسيسانِ * * * وإنْ تشأْ فقُل هما شيخانِ
كل عام ومصرنا الحبيبة وشعبها بكل طوائفه وقياداته ومؤسساتها في أمن وأمان، وكل عام والأخوة المسيحيين بخير، وكل عام وفضيلة الإمام الأكبر بخير وصحة وسعادة، دمت لنا نبراسًا للحق والعدل.