كان (مُراد) ابنَ تاجر ثري، في سوق الذهب، والده رجل أعمال، ذائعُ الصيت، يُتاجر في المجوهرات والأحجار الكريمة، وكان الابن جوادًا كريمًا، مع أصدقائه والناس، أيما كرمٍ، وهم بدورهم، يُحبونه ويُجلونه ويُقدرونه كثيرًا.
دارت الأيام دورتها، وتبدلت الأمور، وانقلبت الأحوال، إذ مات الأب، وافتقرت الأسرة، بعد غناها.
انطلق الشاب باحثاً عن أصدقاء الماضي، لعلهم يساعدونه، فعلم أن (سعد) أعز أصدقائه، والذي كان مراد يُكرمه، ويُغدق عليه، قد توسعت تجارته، وصار المال عنده أكثر من الأرز! فتوجه إليه، عسى أن يجد عنده عملًا، أو سبيلًا لإصلاح الحال.
فلما وصل باب القصر، بهيئته الرثة، استقبله الخدم، فذكر لهم صلته بصاحب الدار، وما كان بينهما من مودة قديمة، فذهب الخدم فأخبروا صديقه بذلك، فنظر إليه هذا الصديق، من خلف ستار، ليرى شخصًا فقيرًا مُعدمًا، فرفض لقاءه، وطالب الخدم بأن يُخبروه، أن صاحب الدار، لا يمكنه استقبال أحد!
خرج الرجل متألمًا حزينًا مُندهشًا، كيف ضاعت المودة، وكيف ماتت الضمائر، وكيف انحدرت القيم، وكيف غاب الوفاء، وكيف انعدمت المروءة؟!
عاد (مراد) أدراجه، مكسور القلب، وانطلق بعيدًا عن هذا المكان الموحش، لتحدث الأعجوبة! فقريبًا من داره، يصادف ثلاثة رجال، تملأُهم الحيرة، وكأنهم يبحثون عن شَيْءٍ، فقال لهم ما أمر القوم؟ قالوا له نبحث عن رجل يدعى فلان ابن فلان، وذكروا اسم والده، فقال لهم: إنه أبي، وقد مات منذ زمن، فحوقل الرجال، وتأسفوا عليه، وذكروا أباه بكل خير، وقالوا له: إن أباك كان يتاجر بالمجوهرات، وله عندنا قطع نفيسة من المرجان، كان قد تركها عندنا أمانة، وأخرجوا كيسًا كبيرًا ممتلئًا عن آخره، بهذا الحجر الكريم، فدفعوه إليه ورحلوا، والدهشة تعلو وجهه، وهو لا يصدق ما يرى، ومايسمع.
ذهبت السكرة، وجاءت الفكرة! وتساءل، أين أجدُ اليومَ من يشتري هذا المرجان؟ فبيعه يحتاج إلى أثرياء، والناس في بلدته، ليس فيهم من يملك ثمن قطعة واحدة!
سار في طريقه حيرانَ، وإذ بامرأة مهيبة، تقدم بها العُمر، عليها آثار النعمة والخير، فقالت له: يا بني، أين أجد مجوهرات للبيع في بلدتكم؟ فتثبت الرجل في مكانه، وتيبست قدماه، وهاله ما يسمع، ليسألها، عن أي نوع من المجوهرات تبحث؟ فقالت: أي جواهر، جذابة الشكل، مهما كان ثمنها، فسألها إن كان يعجبها المرجان؟ فقالت له نعم المطلب، فأخرج بعض القطع من الكيس، فاندهشت المرأة لما رأت، فابتاعت منه بعضها، ووعدته بأن تعود لتشتري منه المزيد، وهكذا جاء اليسر بعد العسر، وعاد (مراد) إلى سوق الذهب، وعادت تجارته تنشط وتتقدم، وحلت البركة، فتذكر بعد حين، ذاك الصديق الغادر، الذي لم يؤدِ حق الصداقة، فبعث له ببيتين من الشعر:
صحبتُ قومًا لئامًا، لا وفاءَ لهم،،
يدعون بين الورى بالمكرِ والحيَّلِ..
كانوا يُجلونني مذُ كُنتُ ربَ غنى،،
وحينَ أفلستُ عدوني من الجُهَلِ..
فلما قرأ سعد، هذه الأبيات، آلمته، ورد عليها شعرًا كذلك:
أما الثلاثةُ قد وافوك من قِـبَـلي،،
ولـم تـكـن سـببـًا إلا من الحيلِ..
أما من ابتاعتِ المرجانَ والدتي،،
وأنتَ أنتَ أخي، بل مُنتهى أملي..
وما طردناك من بخلٍ ومن قللٍ،،
لكنْ عليكَ خَشينا وقفةَ الخجلِ..
حقًا، الكريم لا يُضام، والوفاء من شيم الكرام، وأهل الحق لا ينسون الفضل بينهم، وصنائع المعروف تقي مصارع السوء..
الناسُ للناسِ مادامَ الوفاءُ بهم،،
والعسرُ واليسرُ، ساعاتُ وأوقاتُ..
وأكرمُ الناسِ ما بينَ الورى رجلٌ،،
تُقضى على يدهِ، للناسِ حاجاتُ..
لا تقطعنَّ يدَ المعروفِ عن أحدٍ،،
ما دُمتَ تقدرُ، والأيـامُ تاراتُ..
قد ماتَ قومٌ وما ماتتْ فضائلُهم،،
وعاشَ قومٌ وهم في الناسِ أمواتُ..
قالَ المُعلمُ الأولُ، صلي اللهُ عليه وسلمَ: تَدْرُونَ ما يقولُه الأسدُ في زَئِيرِهِ؟ قالوا: اللهُ ورسولُهُ أعلمُ، قالَ: (صلى الله عليه وسلم): يقولُ: اللهم لا تُسَلِّطْني على أحدٍ من أهلِ المعروفِ..