Close ad

كاواباتا ياسوناري.. إبداع حقيقي ونهاية حزينة

12-1-2025 | 13:20

الروائي كاواباتا ياسوناري مبدع الرواية اليابانية.. أول أديب ياباني وآسيوي ينال جائزة نوبل للآداب عام 1968م ويعبر بالأدب الياباني إلى العالمية.. أعماله الأدبية تمثل قمة الإبداع الأدبي الياباني، ففي أدبه نجد قدرة الأديب على الاحتفاظ بالروح والتقليدية والهوية اليابانية، رغم تسرب الفكر الغربي الحديث لليابان.. وكان متميزًا عن رفاق مشواره الأدبي.

ولد كاواباتا ياسوناري في عام 1912 في محافظة أوساكا إحدى أهم مدن اليابان الحديثة جنوبي طوكيو كان.. أبوه طبيب لديه تذوق أدبي خاص.. وفقد والديه وهو طفل، وعاش مع عائلة والدته الموجودة في أوساكا.. وبعدها توفيت جدته، فتبناه جده الذي لم يكن يرى ولا يسمع فكان جثة هامدة تنبض فقط.. وكان كاواباتا يجلس بجانب سرير الجد، ويقرأ في الأعمال اليابانية الكلاسيكية القديمة، ومات الجد أيضًا وهو في الرابعة عشرة. 

درس والد الأديب الطب.. ومات نتيجة لما كان يعانيه من مرض في الصدر.. ولحقت به الأم بالمرض نفسه.. فكان الجميع من حوله يحملون له مشاعر الحب والعطف والشفقة لاعتقادهم أنه أيضًا سيموت بالمرض الرئوي الذي ورثه عن والديه.. وقد ذكر كاواباتا في قصته "رسالة إلى أبي وأمي".. أنه لا يعتقد أنه سيقضي حياته فقط في انتظار الموت.. فهو لا يعتقد أنه لا يوجد إنسان لم يفكر في المرض والموت، وذكر ذلك أيضًا في رواية "ميلاد الكاتب".

فرؤية كاواباتا أن الكُتاب لا يولدون مرة واحدة.. كما أن الدماء التي تجري في عروقه من والده لا تكفي للإبداع.. لذلك فإن من يستطيع الحفاظ على آخر شعلة يستطيع أن يكون كاتبًا.. من هنا نستطيع أن نفهم طريقة تفكير كاواباتا من المقولة التالية: "إنني بوصفي كاتبًا أحافظ على آخر شعلة من دماء عائلتي حتى لا تفنى". 

إذن فقد أدرك ياسوناري حقيقة الموت بالفعل منذ فترة طفولته، وشعر بضعف نشأته، وقد ألقى شعوره بالوحدة وبنيته الضعيفة ظلالًا رقيقة على كتاباته.

كتب الأديب مذكراته أثناء رعايته لجده.. ونشرت تحت عنوان "مذكرات شاب في السادسة عشرة jurokusai no nikki".. 

وعندما قام بكتابتها لم يكن يعتقد أنه سيصبح كاتبًا في المستقبل.. فقد كانت تأخذ الطابع الواقعي.. ولهذا بدأ أدبه يتجه إلي الأسلوب الواقعي.. وبعدها وفي عام 1921م أصر الكاتب على دراسة الأدب الغربي.. فالتحق بقسم الأدب الإنجليزي بكلية الآداب جامعة طوكيو الإمبراطورية.. وفي أثناء دراسته الجامعية قام بإعادة إصدار المجلة الأدبية " shinshicho" التي كانت قد توقفت لفترة.. وذلك بالتعاون مع طلاب آخرين.. ونشر في تلك المجلة روايته "مشهد يومي تذكاري shokonsai- ikkei".. وجذبت انتباه الكاتب المعروف "kikuchi- kan" من أدباء المدرسة الواقعية الجديدة.. كما تعرف أيضًا على الأديب الروائي "yokomits- riichi" مؤسس حركة الإدراك الحسي الأدبية الجديدة.. واشترك معه في تأسيس المجلة الأديبة " bungei-jidai".. التي أصبحت صوتًا للنزعة الحسية الأديبة الجديدة "shinkan-kakuha".

وفي هذه المجلة نشر الأديب كاواباتا ياسوناري سيرته الذاتية "راقصة إيزو izu-no-odoriko" التي تعد نموذجًا لبواكير أدبه.. حيث تصف أيام شباب الكاتب عندما التقى بفتاة الجيشا أثناء رحلته إلى شبه جزيرة إيزو حين كان طالبًا في المدرسة الثانوية.. فهذه الرواية تصف وتصور لنا أيام شباب الكاتب العاطفية الفياضة.. وبداية اتجاه الكاتب إلى "نزعة الإدراك الحسي الجديدة shinka-nkakuha".. فقد كتب قصته هذه بأسلوب حسي تأملي.

واستطاع كاواباتا أن ينهل الأساليب الجمالية اليابانية الكلاسيكية.. مثل الأسلوب الجمالي "mono-no-aware" أي الأحاسيس العميقة للعاطفة والحزن في التعبير وأيضًا الإحساس الجمالي للأسلوب "وابي wabi" أي الذوق الجمالي الهادئ للأسلوب وأيضًا الأسلوب الجمالي "سابي sabi" أي البساطة الجمالية للأسلوب كل هذه الأحاسيس الجمالية نجدها في الأدب الياباني الكلاسيكي وخاصة في أشعار "الواكا waka "وأشعار" الهايكو haiku " التقليدية.. تأثر الأديب كاواباتا ياسوناري كثيرا بالحركة الرمزية الفرنسية المعاصرة التي أصبحت مدرسة أدبية عالمية بلغت أوجها في القرن التاسع عشر على يد مجموعة من الشعراء الفرنسيين مثل "ملارميه ستيفن" و"فيرلين بول" و"جان آرثر.. وعلى الرغم من ذلك حاول الأديب كاواباتا ياسوناري بجانب ذلك العودة إلى جوهر الروح اليابانية.. وأيضًا إلى المفاهيم التقليدية اليابانية الأدبية بعاطفة فياضة.. فقد أدى ذلك إلى نمو عبقريته الأدبية، واستطاع ان يخلق من كونه كاتبا يجدد فقط.. 

فقد كان يحاول في أعماله الأدبية الحديثة إظهار مواطن الجمال الموجودة في الكلاسيكيات اليابانية القديمة والعمل على مواكبتها للعصر الحالي.

ومن أبرز أعماله الأدبية كما نوهنا سابقًا "مذكرات شاب في السادسة عشرة jurokusai-no- nikki".. تتسم بالطابع الواقعي.. وهو ما يوضح لنا أن الكاتب كاواباتا استطاع أن يتجه إلى الأسلوب الواقعي في السرد.. وأنه قد تمكن أيضًا من الوقوف على أبواب عالم الأدب.. ومع كتابة هذه المذكرات التي كتبها.. كان يلجأ إلى الأدب الياباني الكلاسيكي لمعرفة الأسلوب الجمالي الغامض الرقيق.. وفي سن التاسعة عشرة من عمره عام 1918م في الخريف.. قام بأول رحلة إلى شبه جزيرة إيزو.. التي تقع في الجنوب الغربي من طوكيو.. وهي عبارة عن مصيف ومنتجع ريفي.. وتقابل في طريقه مع مجموعة من الفتيات الراقصات الرحالة التي تعرف بفتيات الجيشا في اليابان.. وكتب أحداث تلك الفترة من المغامرات.. وهى مع فتاة من فتيات الجيشا.. أحبها وكان يتردد على الأماكن التي كانت تتردد عليها فكتب قصته تحت عنوان "راقصة آيزو izu-no- odoriko" عام 1918م. فهي سيرة ذاتية تحكي أيام شباب الكاتب المولعة بالعاطفة الجياشة وتعد نموذجًا لبواكير آدابه.

وفي عام 1923م أي في سن الثالثة والعشرين تعرضت اليابان وبالأخص منطقة طوكيو ويوكوهاما لزلزال كبير تسبب في إحداث حرائق ضخمة في أنحاء طوكيو ويوكوهاما.. وفي تلك الآونة التحق الأديب كاواباتا مع محرري مجلة " bungei shunju" التي كان يصدرها الأديب "كيكو تشي كان kikuchi kan" ونشر بها قصته "جنازة المشاهير kaiso no meijin".

وأيضًا من أبرز الأعمال الأدبية روايته "بلاد الثلج yukiguni".. حصل بها على الجائزة الدولية في الفنون، وقد نالت هذه الرواية اهتمامًا كبيرًا بما كتبه النقاد عنها من تعليقات.. 

ورواية "صوت الجيل yama-no-oto" فتلك القصة والسابقة كتبتا بعد الحرب العالمية الثانية.. ويتناولان الأحداث التي حدثت خلال الحرب.. استطاع الكاتب بإدراك حسي رقيق.. أن يوضح الأحاسيس الغامضة التي تكمن في اللاشعور الإنساني.. وكشف بعض المشاعر الحزينة لأبطال الرواية.. فبعد هزيمة اليابان العسكرية في الحرب العالمية الثانية اهتم كاواباتا مثل أدباء اليابان الآخرين الذين عاصروا الهزيمة بالدمار الذري في هيروشيما ونجازاكي.. واهتم بشخصية المثقف الياباني من الطبقة الوسطى التي تنظر إلى الثقافة الغربية والأمريكية التي تدفقت مع الاحتلال.. كالشبح القادم لهتك عرض الروح اليابانية.. وبجانب تلك الأحاسيس نجد أن الرواية تحتفظ في نفس الوقت بالأحاسيس الجمالية التقليدية اليابانية التي نوهنا عنها سابقا.. 

وفي شهر نوفمبر من العام نفسه قام كاواباتا بزيارة لرؤية المناطق التي دمرتها القنبلة الذرية في هيروشيما ونجازاكي.. ونشر الأديب قصته "الراقصة maihime" في جريدة أساهي.. وفي عام 1957م قام برحلة إلى إنجلترا.. من أجل حضور مؤتمر أعضاء نادي القلم الدولي، وفي شهر سبتمبر من العام نفسه.. بذل الأديب مجهودًا كبيرًا عندما كان رئيسًا لنادي القلم الدولي فرع اليابان في مسابقة أندية القلم الدولي التاسعة والعشرين، التي افتتحت في طوكيو.. 

وفي عام 1958م قام الأديب كاوا باتا برحلة إلى منطقة "أوكي ناوا Okinawa" التي كانت واقعة تحت السيطرة الأمريكية من آثار هزيمة الحرب العالمية الثانية ونشر قصته "أوائل هبوط الثلج على فوجي".. وفي العام نفسه أصيب الأديب بمرض التهاب الكبد الوبائي.. ودخل مستشفى جامعة طوكيو للعلاج، وفي عام 1961م في شهر نوفمبر حصل الأديب على وسام الثقافة من الإمبراطور.

حصل الأديب الروائي الكاتب كاواباتا ياسوناري على جائزة نوبل للأدب عام 1968م، ويعد أول ياباني وأول آسيوي ينال هذه الجائزة.. ويعتبر من أكثر الروائيين المحدثين الذين نالوا الاحترام بما أبدوه في كتاباتهم النقدية من ولاء وحماس للماضي.. وفوز الأديب كاواباتا بالجائزة له معان كثيرة أهمها: أن الأدب الياباني بدأ يأخذ طريقه إلى العالمية فترجمت أعماله إلى لغات العالم الغربي والأمريكي وقدمت أعماله أيضا للسينما.. واختياره لجائزة نوبل للأدب نتيجة لتجاوب القراء الأجانب لأعماله الأدبية، فقد ترجمت رواياته من اليابانية إلى الإنجليزية والفرنسية والألمانية إضافة إلى ذلك التجاوب الحسي المباشر بين الجمهور الياباني والأديب.

وقد قالت الأكاديمية السويدية بستوكهولم عند منحه الجائزة: "لقد مُنح الروائي كاواباتا الجائزة لأسلوبه القصصي البارع الذي يعبر بإحساس عظيم عن جوهر وروح الفكر الياباني.. وأيضًا نالها لقدرته الأدبية الفائقة للتعبير عن العقلية اليابانية.. وأيضًا فقد كان أسلوبه مثيرًا للعواطف والذكريات.. وأيضًا لولائه الشديد للمبادئ والمفاهيم الجمالية التقليدية.. فقد كان يؤمن بالمبدأ الجمالي التقليدي الياباني المعروف باسم "اليوجن yugen" أي الإحساس الجمالي العميق.. والأفكار الجمالية التقليدية الأخرى مثل "مونو نو اورايه mono no aware" أي الأحاسيس العميقة للحب والحزن، وأيضًا المصطلح الجمالي مثل "وابي wabi" أي الذوق الجمالي الهادئ.. والمصطلح الجمالي الآخر "سابي sabi" الإحساس بالسكينة في جو من الوحدة والانعزال.. فقد كان الأديب كاواباتا يفضل العزلة والوحدة فيشعر بالطمأنينة وراحة البال في عزلته".

وعندما سمع الأديب كاواباتا نبأ فوزه بجائزة نوبل للأدب.. قال في تواضع ذوي النفوس الكبيرة: "إنني محظوظ.. إن أعمالي الأدبية أقل قيمة من إنتاج الأدباء اليابانيين المعاصرين.. ولا بد أن الفضل يرجع إلى المترجم الذي نقل بعض قصصي إلى اللغة الإنجليزية.. إن أعمالي ينقصها كبر الحجم والشعور بالقوة ".. ومن أهم أسباب اختيار كاواباتا لنيل الجائزة هو أنه مكن العالم من التعرف على جوهر وروح الفكر الياباني والثقافة والحياة اليابانية.

وقد حضر الأديب كاواباتا ياسوناري حفل تسليم الجائزة بالزي الرسمي الياباني وألقي محاضرة عنوانها: أنا واليابان الجميلة.. واستطاع من خلال المحاضرة إظهار جوهر الروح اليابانية والأحاسيس اليابانية الطبيعية تجاه الطبيعة وقد بدأ المحاضرة بإلقاء قصيدة قديمة تقول: 
في الربيـع زهر الكــــرز 
في الصيف طائر الوقــواق 
في الخريف القمــــــر 
وفي الشتاء الثلج صاف بارد 
وقال: "إن مثل هذه العلاقة الوثيقة بين الإنسان والطبيعة هي من أبرز سمات الأدب الياباني فالطبيعة أيضًا من الدوافع الإيحائية للأدب" وأضاف الأديب قائـلاً: "عندما نرى جمال الثلج وجمال القمر، وعندما نرى جمال الزهر المتفتح، وعندما نحس بجمال الفصول الأربعة، حينئذ نفكر في أقرب الناس إلينا ونتمنى لو شاركونا متعتنا".

والعلاقة التي تحدث عنها الأديب كاواباتا ياسوناري بين الإنسان والطبيعة تجعلني أتحدث عنها بفيض من التفصيل.. فمظاهر الطبيعية عند اليابانيين بمثابة الدين فالشعب الياباني مرتبط ارتباطا روحيا بالطبيعة فالشعب الياباني يترقب فصول السنة بشغف فمثلا شجرة الكرز التي تزدهر خلال أسبوعين في فصل الربيع ينتظرها اليابانيون بفارغ الصبر.. وزهرة الكرز ترمز للمحارب المخلص الذي يستعد للموت في سبيل وطنه.. فاليابانيون أحب الشعوب للطبيعة فهم يتقبلون راضيين تقلبات الطبيعية كما هى.. من تغيرات في الأرض والسماء والبحر ومن أعاصير وبراكين وزلازل.. وقلما نجد قصيدة شعر واحدة من الأدب الياباني تخلو من وصف مشاهد الطبيعة في ثنايا سطورها.. فالشعراء في اليابان منذ القدم وفي الوقت الحاضر ينظرون فيها إلى الزهور المنتشرة في الربيع ويصغون فيها إلى تساقط الأوراق في الخريف.. فتلك هي التي الهمتهم الشعر ممزوجا بمسحة حزن رقيقة.. وهذا ما تحدثنا عنه في المبادئ الجمالية التقليدية اليابانية مثل "مونونو اواريه mono no aware" أي الإحساس بالحزن الرقيق.

ونعود بالحديث عن الأديب الياباني وجائزة نوبل فالشعب الياباني شعر بسعادة كبيرة حين نال الأديب جائزة نوبل.. لأنهم يعتقدون أن في ذلك دليلًا على تقدير العالم للأدب الياباني الذي خرج للعالمية بفضل هذا الأديب الكبير الذي يعتبر الجسر الأدبي والفكر الذي يربط اليابان بالغرب.

وبعد أربعة أعوام من الشهرة العالمية يهرب الأديب كاواباتا إلى منتجعه الخاص قرب مدينة كاماكورا التي يتحدث عنها كثيرًا في رواياته القصيرة.. وهناك ينتحر الأديب.. فأعتقد أنه ربما انتحر حزنًا على تلوث جوهر الروح اليابانية بالثقافة الغربية والاحتلال الأمريكي لليابان بعد الحرب العالمية الثانية.. وحزنًا على الصراع بين الروح اليابانية والروح الغربية.. تاركًا رفاق مشواره في الساحة الأدبية اليابانية.. كان رائدًا للرواية اليابانية.. ترك كاواباتا رصيدًا كبيرًا من الإبداع لتلاميذه ومحبيه.. وإن كان غيابه والصورة التي رحل بها سببًا في أحزان الكثيرين.

* أستاذ بقسم اللغة اليابانية جامعة القاهرة وأستاذ زائر بكلية اللغات جامعة الأهرام الكندية

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة