باتت لحظة الحقيقة تقترب بقوة في علاقات إيران بالدول العربية، وخاصة مع قرب دخول الرئيس الأمريكي ترامب البيت الأبيض، والأهمية الخاصة لهذا الحدث هو تزامنه مع تطورات حرب غزة ولبنان وسقوط الأسد، وما إذا كانت المنطقة تتجه نحو تصعيد جديد أم صفقة كبرى برعاية واشنطن، ووسط هذا كله سؤال حول علاقة طهران مع دول الجوار.
لقد مرَّت العلاقات الإيرانية العربية بمنعطفات مختلفة، عبر مراحل زمنية ممتدة، تأرجحت فيها ما بين الصراع وما يشبه الانفراج، ومنذ قيام الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، مرَّت العلاقات بين طهران والعواصم العربية والخليجية بفترات متفاوتة ومتقلبة بين الصدام والتعاون، لقد كانت العلاقات التاريخية بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية ودول مجلس التعاون الخليجي متقلبةً؛ بسبب تدخل العوامل الجغرافية والدينية والثقافية والسياسية والأمنية، ورغم أن عدة حكومات في إيران من الطيفين الإصلاحي والأصولي حاولت إقامة علاقات جيدة مع دول مجلس التعاون، إلا أن العلاقات كانت متوترة وأحيانًا مقطوعة لعدة سنوات.
ورغم أن إستراتيجية التهدئة في السياسة الخارجية الإيرانية بدأت مع الولاية الثانية لرئاسة الراحل أكبر هاشمي رفسنجاني، وحظيت باهتمام خاص خلال رئاسة الإصلاحي محمد خاتمي، إلا أنها خلال فترة رئاسة محمود أحمدي نجاد، أصبحت العلاقات بين إيران والعواصم الخليجية معقدة ومتوترة بسبب تباين وجهات النظر بين الجانبين تجاه الثورات العربية، وعلى الرغم من أن طهران حاولت تحسين علاقاتها مع دول مجلس التعاون الخليجي خلال رئاسة حسن روحاني، إلا أنه لأسباب داخلية والظروف الإقليمية والدولية السائدة في تلك الفترة، ظلت العلاقات الثنائية متوترة.
لكن الحكومة الأصولية الثالثة عشرة في إيران برئاسة الراحل إبراهيم رئيسي، من خلال تبني واتباع إستراتيجية دبلوماسية الجوار، تمكنت من تحسين علاقات طهران مع دول مجلس التعاون الخليجي بعد 7 سنوات من التوتر، بدعم من مراكز صنع القرار في داخل البلد، وعلى الرغم من تطبيع العلاقات بين طهران والرياض وتحسن العلاقات بين دول مجلس التعاون الخليجي وطهران، لا يوجد تقدم ملموس في العلاقات السياسية والاقتصادية الثنائية.
ويسيطر على اهتمامات المراقبين والخبراء مسألة مستقبل العلاقات الإيرانية الخليجية، لذا فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل ستتبنى طهران نهجًا أكثر واقعية في سياستها الخارجية للحد من التوترات مع جيرانها، وتحسين العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية مع عودة الإصلاحيين إلى السلطة في إيران؟ للإجابة عن هذا السؤال، يمكن القول إنه بناء على المتغيرات الداخلية والإقليمية والدولية، يمكن تصور أحد احتمالين، إما مزيد من التعاون أو تدهور الأمور بشأن مستقبل العلاقات بين إيران والدول العربية ودول مجلس التعاون الخليجي في عهد رئاسة مسعود بزشكيان.
بعد فوزه في الانتخابات، أكد الرئيس الإيراني الإصلاحي الجديد مسعود بزشكيان مرارًا على تحسين العلاقات بين إيران ودول الجوار..
ولقد أظهرت تجربة قطع العلاقات بين طهران والرياض، وخفض مستوى علاقات دول مجلس التعاون مع طهران بعد عام 2016 ودعم بعض دول مجلس التعاون لإستراتيجية الضغط القصوى لترامب أهمية وجود علاقة ثنائية مستقرة لإدارة التوترات، ولعل متغيري التهدئة الإقليمية الشاملة بين الأطراف المتنافسة في الشرق الأوسط خلال السنوات الثلاث الماضية، وتجربة العلاقات المستعادة بين إيران والسعودية، قد تجعل من شعار التهدئة مع الجيران وسياسة الجوار والجيران أولويةً لحكومة مسعود بزشكيان استمرارًا وامتدادًا لإستراتيجية الحكومة الثالثة عشرة، والتي يمكنها تثبيت العنصر المهم المتمثل في خفض التصعيد وإقامة علاقات ثنائية مستقرة، وبطبيعة الحال، فإن المملكة العربية السعودية والجهات الفاعلة الأخرى في مجلس التعاون متفائلة.
أيضًا بشأن سياسة الحكومة الجديدة هذه، واستنادًا إلى عقود عديدة من العلاقات في ظل التوتر والصراع المفتوح في فترة ما بعد الربيع العربي، فإنهم جادون بشأن استقرار العلاقات الثنائية والحفاظ على الاتصالات.
وبطبيعة الحال، مر أكثر من عام على عودة العلاقات بين إيران والسعودية، وحتى الآن لم يحدث شيء بالنسبة للعلاقات التجارية والاقتصادية بين طهران والرياض.
وفي غضون ذلك، هناك عدة عوامل محلية وإقليمية ودولية لها تأثير على مستقبل العلاقات الإيرانية الخليجية، فعلى المستوى الداخلي، فإن الرئيس في إيران ليس صاحب القرار النهائي في مجال السياسة الخارجية، ولقد كان تعدد الجهات الفاعلة في عملية السياسة الخارجية لجمهورية إيران دائمًا عاملًا ثابتًا، وعلى الرغم من أن الرئيس يلعب الدور الأهم في السياسة الخارجية لإيران بعد المرشد الأعلى للثورة الإسلامية، إلا أن المؤسسات مثل مجلس الشورى، والمجلس الأعلى للأمن القومي، ومجمع تشخيص مصلحة النظام، والحرس الثوري، ووزارة الاستخبارات لها دور مهم في تشكيل العلاقات الإيرانية الخليجية خلال رئاسة مسعود بزشكيان.
وفي الوقت نفسه، وعلى المستوى الدولي سيكون لإدارة ترامب في الولايات المتحدة، والغموض المخيم على الملف النووي الإيراني، والإسراع بعملية التطبيع بين إسرائيل والسعودية، واستمرار الحرب في اليمن، و يمكن لعوامل کحرب غزة واحتمال تفجر الحرب ثانية بين حزب الله وإسرائيل، والإسراع في ملف التطبيع بين إسرائيل والسعودية، والنزاع على حقل الدرة الذي تشارك فيه الكويت أيضًا، أن يكون لها تأثير سلبي على مسار خفض التصعيد في مستقبل العلاقات الإيرانية الخليجية.
وعلى المستوى الدولي، سيكون للسياسة الأمريكية لإدارة ترامب المقبلة، والغموض الملحق للملف النووي الإيراني تأثير كبير على المستوى العلاقات الإيرانية الخليجية خلال رئاسة بزشكيان.
وعلى الرغم من التحديات، فتوجد فرص كبيرة لتعزيز التعاون الاقتصادي بين إيران ودول الجوار،
ففي حالة رفع العقوبات الاقتصادية عن طهران يمكن أن يفتح ذلك الأبواب أمام استثمارات جديدة في البنية التحتية والطاقة والتكنولوجيا وتعاون تجاري أوسع.
ومن المحتمل أن تساهم المشاريع المشتركة في تعزيز التكامل الاقتصادي وتخفيف التوترات السياسية، وقد تجد دول الخليج في إيران شريكًا إستراتيجيًا لتطوير قطاعات جديدة، خاصة أن دول مجلس التعاون الخليجي تسعى لتنويع اقتصادها بعيدًا عن النفط.
ومن الجدير بالذكر أنه يمكن لإيران ودول مجلس التعاون التشاور مع بعضها البعض حول الخطوات التي يمكن للجانبين اتخاذها بشأن توسيع العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية الثنائية من خلال إنشاء مجلس تنسيق مشترك، حول حماية البيئة، وإنشاء وتعزيز غرف التجارة المشتركة وتوسيع التجارة الثنائية، وعقد مؤتمرات مشتركة، وهذه كلها من بين الأمور غير الخاضعة للعقوبات.
ويبقى أن المشهد معقد، ويقول الخبراء العرب إن أول مشكلة في التعامل مع طهران هي أن الرئيس الإيراني ليس صاحب القرار النهائي في رسم سياسات بلاده، ويشير هؤلاء إلى مشكلة تعدد الجهات الفاعلة في عملية السياسة الخارجية الإيرانية، وهو يمثل عامل إرباك، وعدم يقين بشأن التوجهات الإيرانية، وما إذا كانت مرحلية أم توجهات ثابتة.
وفي المقابل يتعين أن ندرك أن سياسات الدول لا تتعلق كثيرًا بالأشخاص ولا تختلف الأمور بشأن التوجهات السياسية الكبرى للدولة إن كانت الحكومة يمينية أو يسارية في الغرب أو محافظة أو إصلاحية في إيران، أو منفتحة أو حذرة في الدول العربية.
وفي نهاية المطاف فإن الدولة العميقة هي من تصنع سياسات النظم وإستراتيجياتها، وهي من تحدد السياسة الخارجية للبلاد، والحكومة بشكل عام والخارجية بشكل خاص ينفذان السياسات الكبرى.
وبرأي غالبية الخبراء، فإن ما يتغير بتغيير الحكومات سواء في واشنطن أو إيران هو خطاب الحكومة وطريقتها في تنفيذ القرارات المتخذة.
وفي الوضع الراهن فإنه في حال خرجت مفاوضات الظل غير المعلنة بين واشنطن وطهران، والمباحثات غير المباشرة الجارية بين عناصر من إدارة ترامب وشخصيات إيرانية بنتائج إيجابية، ستتحسن العلاقات الإيرانية العربية بوتيرة أسرع.
وأغلب الظن أن نتائج ما حدث في المنطقة؛ سواء حرب غزة ولبنان وسقوط الأسد، والوضع الداخلي والأزمة الاقتصادية في إيران سوف تسهم في مسار علاقات طهران بدول الجوار، إلا أن العامل الأهم هو تقدير العواصم العربية لحالة إيران، وهل باتت ضعيفة، وبالتالي تجاهلها أو جريحة ينبغي الحذر منها، أو دولة جوار قوية منفتحة بصدق ويجب التعامل معها وفق أجندة مصالح عربية.