يجري العمل حاليًا بوتيرة متسارعة على إدماج الذكاء الاصطناعي ضمن الأنشطة الاقتصادية حول العالم، وسط وعود بإضافة تريليونات الدولارات إلى الاقتصاد العالمي خلال السنوات القليلة المقبلة من خلال تعزيز الإنتاجية في مختلف القطاعات.
قد يعمل الذكاء الاصطناعي على تسريع النمو الاقتصادي بشكل كبير، ويعزز الإنتاجية، وأن يسهم في تغيير معادلة كفاءة الطاقة والتحول الأخضر، ويساعد البلدان التي تعاني من الشيخوخة في سوق العمل.
وبات الذكاء الاصطناعي أحد عوامل الإنتاج الجديدة في العصر الراهن، والقادر على إحداث نقلة نوعية في دعم النمو الاقتصادي، وإحداث تحولات جذرية في طريقة العمل عبر مختلف القطاعات؛ عبر أتمتة المهام المتكررة، مما يحرر العمال للتركيز على وظائف أكثر إبداعًا، وإستراتيجية، وتحليل البيانات بشكل أسرع، وأكثر دقة، ومساعدة الشركات على تطوير منتجات وخدمات جديدة تلبي احتياجات العملاء بشكل أفضل.
وعود الذكاء الاصطناعي
تشير التقديرات المتفائلة للمنتدى الاقتصادي العالمي إلى أن الذكاء الاصطناعي يمكنه أن يضيف نحو 16 تريليون دولار إلى الاقتصاد العالمي خلال خمس سنوات، مما يجعله أحد أهم العوامل المؤثرة على مستقبل الاقتصاد.
وتتوقع دراسة نشرتها إيكونوميست أن تصل قيمة السوق العالمية للذكاء الاصطناعي إلى 1.5 تريليون دولار بحلول عام 2030، وأن يصبح الذكاء الاصطناعي شريكًا إستراتيجيًا في اتخاذ القرارات الاقتصادية، مما يساعد على تقليل المخاطر وزيادة العائدات.
ورصدت الدراسة أن الشركات التي تستثمر في الذكاء الاصطناعي، شهدت زيادة في الإنتاجية بنسبة تصل إلى 20%، مما يشير إلى قوة هذه التكنولوجيا في تحسين الأداء المالي للشركات.
ويُتوقع أن يُحدث الذكاء الاصطناعي تحولًا جذريًا في المشهد الوظيفي في الاقتصادات المتقدمة، حيث يمكن أن يتأثر نحو ثلثي الوظائف به، وحوالي نصف الوظائف المعرضة لهذه التكنولوجيا يمكن أن ينتفع من إدماج التكنولوجيا الجديدة، وهو ما يعزز إنتاجيتها.
سباق دولي على الذكاء الاصطناعي
لجني الفوائد الاقتصادية، أصبحت الدول في سباق محموم لتطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي، ودمجه في مختلف القطاعات الاقتصادية، إذ لم يعد الأمر يقتصر على الشركات العالمية.
تُعد الولايات المتحدة رائدة في مجال الذكاء الاصطناعي، فهي تضم غالبية الشركات العملاقة التي تقوم بتطوير هذه التقنية في العالم، ويحظى هذا القطاع بدعم حكومي، عبر تشريع يقدم حزم دعم للشركات لإنشاء مصانع لأشباه الموصلات والرقائق في أمريكا.
هذا التوجه يُتوقع على نطاق واسع أن يزيد، خاصة مع دخول الرئيس المنتخب دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وإصراره على إعادة التصنيع إلى الولايات المتحدة، وأخذ زمام المبادرة في مواجهة الصين.
على الجانب الآخر، ظهرت الصين كقوة رئيسية في مجال الذكاء الاصطناعي، حتى إن شركاتها العاملة في هذا المجال، باتت تنافس فعليًا الشركات الأمريكية بقوة، إذ طورت منتجات خاصة بها مشابهة، مثل النماذج اللغوية الضخمة، وتقنيات التعرف على الوجوه، وكان آخرها نموذج «Deep Seek» البديل الصيني لـ«شات جي بي تي».
أما أوروبا فتواجه خطر التخلف عن الولايات المتحدة والصين في تطوير وتطبيق الذكاء الاصطناعي؛ نتيجة نقص التمويل والتأخر في قوة الحوسبة لدعم الأبحاث، والفشل في الاستفادة الكاملة من الحجم الكبير للاقتصاد الأوروبي.
ومن المرجح أيضًا أن تصبح الهند، بجذورها القوية في التكنولوجيا الرقمية، وسوقها الداخلية الضخمة والمتنامية، واحتياطياتها العميقة من رأس المال البشري الهندسي، قوة متنامية.
هيمنة على تقنيات AI
من الواضح أن السباق على جني مكاسب الذكاء الاصطناعي ينحصر على عدد محدود من الدول، وحفنة من كبريات الشركات العالمية التي تمتلك موارد ضخمة يمكنها تبني وتطوير التقنيات الجديدة، وهو ما يجعلها أكثر هيمنة على السوق، ويزيد بالتالي من فجوة التفاوت الاقتصادي بين الشركات الكبرى والشركات الصغيرة والمتوسطة خاصة، وبين الدول المتقدمة والدول النامية بصفة عامة.
وتوقع تقرير لصندوق النقد أن تكون نسبة التعرض لتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في الأسواق الصاعدة والبلدان منخفضة الدخل هي 40% و26%، على التوالي.
وتشير هذه النتائج إلى أن اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية تواجه اضطرابات مباشرة أقل من الذكاء الاصطناعي.
وفي الوقت نفسه، لا يمتلك كثير من هذه البلدان البنى التحتية أو القوى العاملة الماهرة اللازمة للاستفادة من منافع الذكاء الاصطناعي، الأمر الذي يزيد من مخاطر ما قد تفضي إليه هذه التكنولوجيا بمرور الوقت من تفاقم في عدم المساواة بين البلدان.
وفي السياق ذاته، أجرى الصندوق تقويمًا لمدى جاهزية 125 دولة، على مؤشر الجاهزية للذكاء الاصطناعي الذي يقيس مدى الاستعدادات في مجالات مثل البنية التحتية الرقمية، وسياسات رأس المال البشري وسوق العمل، والابتكار والتكامل الاقتصادي، والتنظيم والقواعد الأخلاقية.
وتبين من نتائج التقويم أن الاقتصادات الأغنى، بما فيها الاقتصادات المتقدمة وبعض اقتصادات الأسواق الصاعدة، مجهزة على الأغلب بشكل أفضل لاعتماد الذكاء الاصطناعي، مقارنة بالبلدان منخفضة الدخل، وإن كان هناك تباين كبير على مستوى البلدان.
وحصلت سنغافورة والولايات المتحدة والدنمارك على أعلى الدرجات في المؤشر، بناء على النتائج القوية التي أحرزتها في كل الفئات الأربع التي يتتبعها.
إستراتيجيات مطلوبة
ترجح معظم السيناريوهات أن الذكاء الاصطناعي سيفضي إلى تفاقم عدم المساواة بين دول الشمال والجنوب، فقد تستفيد بقية الأسواق الناشئة (كمستهلكة)، بشكل كبير من تطبيقات الذكاء الاصطناعي التي يتم إنتاجها غالبًا في الولايات المتحدة والصين على مدى السنوات القليلة المقبلة على الأقل.
وللتحول من الاستهلاك إلى التطوير والإنتاج أي اللحاق بركب التقدم في هذا المجال، ينبغي لاقتصادات الأسواق الصاعدة والنامية أن تعطي الأولوية لوضع أساس قوي من خلال الاستثمارات في تطبيقات الذكاء الاصطناعي، واتباع إستراتيجية شاملة تركز على بناء القدرات البشرية، وتطوير البنية التحتية الرقمية، وتعزيز الشراكات الدولية، ودعم ريادة الأعمال والابتكار، ووضع سياسات تنظيمية وتشريعية.
ومن المفيد أيضًا تنظيم حملات لتوعية الجمهور بفوائد الذكاء الاصطناعي ومجالات استخدامه، وتعزيز الثقة بالتقنيات الجديدة من خلال تسليط الضوء على تطبيقاتها الإيجابية.
وتوجيه تقنيات الذكاء الاصطناعي لمعالجة التحديات المحلية مثل الصحة، الزراعة، والتعليم، ودعم المشاريع التي تحقق تأثيرًا اجتماعيًا واقتصاديًا مباشرًا.
أصبحت حقبة الذكاء الاصطناعي حقيقة، ونحن لا نزال قادرين على أن نضمن إمكانية تحقيقه للرخاء الذي يعم الجميع.