ارتبطت أم كلثوم بعلاقة وثيقة مع أساطير الصحافة المصرية، ربما قل أن نجد لها مثيلا فى تاريخنا الفنى والصحفى، بدأت علاقة أم كلثوم بالصحافة والصحفيين، منذ بداياتها الفنية فى الربع الأول من القرن العشرين، واستمرت حتى وفاتها فى عام 1975، بدأت بمحمد التابعى وكامل الشناوى، مرورا بمصطفى وعلى أمين، ومحمد حسنين هيكل وإحسان عبدالقدوس وغيرهم، وكل من هؤلاء لديه ذكريات كتبها عن تلك العلاقة المتفردة مع سيدة الغناء العربى، ذكريات ومواقف تعكس مدى اهتمام أم كلثوم بالصحافة، وهو اهتمام لا يخلو من بُعد إنسانى.
موضوعات مقترحة
محمد التابعى وصداقة نصف قرن
بدأت علاقة التابعى بأم كلثوم مبكرا، منذ أن كان يكتب مقالات نقدية بجريدة الأهرام باسم «حندس» فى عامى 1924و 1925، وفى مايو 1925 غنت أم كلثوم على مسرح الأوبرا الملكية، بناء على طلب من جورج أبيض، وهنا حدث لوم كبير على جورج أبيض، لأنه استعان بأم كلثوم، فكتب التابعى مدافعا عنها قائلا:» لم لا تغنى أم كلثوم فوق مسرح الأوبرا، وقد غنت قبلها توحيدة ومنيرة، ولو أننى كنت ممن أوتى العلم بالأنغام، ودساتيرها لأبحث لقلمى شيئا من التفصيل والوصف، لذلك الصوت السماوى، لكنى لا أستطيع شيئا حتى، وأرانى عاجزا عن أفيه حقه من الوصف، ذلك الأثر الذى يحدثه فى نفسى صوت أم كلثوم، كل ما أستطيع قوله إنما هو سبحان من وهب للنغم أثره، وسبحان من جعل للصوت الجميل سحره، أحلى ما فى صوتها طهارته وصدقه للنغمة والعاطفة التى يجب أن يثيرها لفظ القصيدة».
ومن هنا بدأت علاقة أم كلثوم بالتابعى، وهى العلاقة التى توطدت مع الأيام ولم تنقطع حتى وفاتها، وكانت أم كلثوم من أكبر مشجعى التابعى، على إنشاء جريدة أو مجلة خاصة، وعندما صدر العدد الأول من آخر ساعة فى 14 يوليو 1934، اتصلت به تطلب العدد قبل طرحه للبيع، إذ كانت عازمة على السفر إلى باريس، ولم تنتظر أن يرسل لها إياه بالبريد، وقد استطاع التابعى أن يحصل على أول مذكرات لأم كلثوم ونشرها فى آخر ساعة فى عامى 1937 و 1938، وهى المذكرات التى حررها محمد على حماد، وكتب التابعى كثيرا عن ذكرياته معها وفى كتابه «ألوان من القصص»، يكتب عن ذكرياته معها فى رأس البر، وقد كانت أم كلثوم من أهم الشخصيات التى أعطت لمصيف رأس البر شهرة واسعة، وذلك وقت الحرب العالمية الثانية، عندما ابتعد معظم المشاهير عن الإسكندرية لقربها من مناطق القتال، وعندما غيرت أم كلثوم مصيفها إلى رأس البر، تطلع الكثيرون لهذا المصيف . وقال التابعى: كانت لى عشة صغيرة على شاطئ البحر مباشرة، وأنا من هواة رأس البر، حتى ومن قبل قيام الحرب، وكانت عشتى الصغيرة أشبه بدار ضيافة للأصدقاء، فقد كنت أرجوهم أن يقيموا معى و يؤنسوا وحدتى، وكانوا يتفضلون بقبول الرجاء.»
ثم يتابع قائلا:» كنا نخرج للنزهة على شاطئ البحر، سيرا على الأقدام، و غالبا إلى حيث كانت تجلس أم كلثوم، كانت تقيم فى عشة فى آخر المصيف، إلى الجنوب، وكانت أم كلثوم تجلس دائما أمام عشتها على الشاطىء، تحت مظلة، وفى يدها كتاب، وكنا نحييها ونجلس على الرمال حولها، وبعد أن توزع نكاتها علينا بالعدل والقسطاس، كانت أحيانا تسألنى:
- طابخين إيه النهارده عندكم؟
وكنت أحيلها على، سليمان نجيب، لأنه كان الوحيد الذى يهتم بالمطبخ و ما يجرى فيه، والوحيد الذى كان يشترك مع الطاهى الأوسطى أحمد فى إعداد قائمة الطعام، وكانت الأطباق المفضلة عند أم كلثوم هى البط على الطريقة الدمياطية، والأوز بالملوخية، والرقاق، وورق العنب والكوارع، واللحم والحمام، فإذا تصادف أن يكون أحد هذه الأطباق فى قائمة طعام اليوم، قالت المطربة الذواقة على الفور:
- طيب اعملوا حسابى بأه....جاية أتعشى النهارده معاكم !
وكانت السهرات التى تحضرها أم كلثوم – تسخر من الذين يأكلون بشهية، وتسخر من الذين يأكلون بدون شهية، وتروى القصص، أو تتحدث عن الحرب، أو فى السياسة الداخلية، أو خبرا عن هذا وذاك، وعندما نتناول سيرة أحد المصطافين أو إحدى المصطافات، وغالبا الاثنين معا!
وتصرخ أم كلثوم:
- أعوذ بالله من لسانكم اللى زى المبرد!
ولكنها – مع ذلك تشترك معنا بنصيب الأسد فى الحديث!
وفجأة ننتبه لشىء ما، وتخفت الأصوات ثم تسكت تماما، فقد بدأت أم كلثوم (تدندن)، وهى تبتسم لنا كأنها تتحدانا أن نستمر فى حديثنا إذا استطعنا! ويعلوا النغم قليلا، قليلا، ويتجمع ويرتفع، ثم ينطلق قويا يجلجل، وتختفى الابتسامة وتتوه عيناها، فقد نسيتنا جميعا ونسيت كل ما حولها، وهى تغنى لنفسها ! «
وعندما تزوج محمد التابعى، ورزق بأول مولود له عام 1952، وقد أطلق على أول مولود له نفس الاسم أيضاً وهو محمد التابعى، أما الاسم المخفف أو «الدلع» فقد كان «كوكى»، وفور علم كوكب الشرق أم كلثوم بذلك الحدث السعيد، همت بزيارة صديقها الحميم لتهنئته وذكرت السيدة هدى التابعى، أنها لم تر زوجها باكياً فى حياته إلا مرة واحدة وهى عندما أمسك بالجريدة، وقرأ خبر وفاة أم كلثوم، فقد سقطت الجريدة من يده، واهتز جسده من شدة البكاء، وبعد عام وعدة أشهر لحق محمد التابعى بأم كلثوم.
وكما كانت علاقة أم كلثوم بالتابعى وطيدة، فكذلك انتقلت تلك العلاقة لأشهر تلامذته وهما مصطفى وعلى أمين، وكما شجعت التابعى على إنشاء مجلته أسهمت أيضا فى صدور جريدة أخبار اليوم عام1944 ، حيث تبرّعت بـ 18 ألف جنيه، وهو رقم ضخم وقتها، وطلبت من مصطفى أمين، أن يظلّ الأمر سرّاً بينهما، لكنه جهر بالأمر، وهو ما أغضبها، حيث خشيت أن يطالبها أصدقاؤها بالتبرع لجرائدهم، وعندما أسس التوأمان مجلة «هى» عام 1964، نشر لها على أمين مذكرات فى ثلاث حلقات مزينة بريشة الفنان الكبير « بيكار»، وكانت المذكرات من تحقيق على أمين، وقال عنها:» كانت تختار كل كلمة فى المذكرات بنفس الدقة التى تختار بها كلمات أغنياتها، كانت تغيَر وتبدل وتحذف وتضيف، ثم تطلب منى أن أمزق الصفحة وأبدأ من جديد.»
مصطفى أمين ينفذ أكبر مؤامرة على أم كلثوم
وفى عام 1965، نفذ مصطفى أمين ما أطلق عليه وقتها « أكبر مؤامرة على أم كلثوم»، وذلك أثناء عمله فى آخر ساعة كمديرا للتحرير، ووقتها كانت أم كلثوم تعرض دائما عن الحوارات الصحفية، منذ خمسة عشر عاما، فأرسل إليها محررا بالمجلة منتحلا صفة مهندس يعمل فى الخارج، وبالفعل استطاع إجراء حوار معها، ونشرت الصحف إعلانا مثيرا عن العدد المقبل من مجلة آخر ساعة ومحتوى الإعلان يقول: “المفاجأة.. التفاصيل الكاملة لأذكى وأنجح مؤامرة على أم كلثوم، إن تفاصيل هذه القصة أقرب إلى روايات السينما: مليئة بالمفاجآت ولحظات الخطر والمواقف الحرجة”، واستمر نشر الإعلان حتى ليلة صدور العدد المرتقب من آخر ساعة فى 2 يونيو 1965، وطوال ذلك الأسبوع انهالت الرسائل على آخر ساعة، ولم تكف أجراس التليفون والقراء يسألون: ما المفاجأة التى أعلنتم عنها فى العدد المقبل، وكانت المؤامرة هى فخ دبر لأم كلثوم، وهزم ذكاءها لأول مرة فوقعت فيه دون أن تدرى.» وبالفعل صدر العدد المرتقب، وعلى غلافه صورة أم كلثوم والتابعى وكامل الشناوى، وسليمان نجيب، تلك الصورة التى ترتدى فيها أم كلثوم بنطلونا وتتوسط التابعى وكامل الشناوى، وكان هذا هو أول نشر لتلك الصورة التى أصبحت، الآن إحدى أشهر صور سيدة الغناء العربى، وكتب تحت الصورة: “مفاجأة أخرى هذه الصورة التى التقطت لها بالبنطلون وستسأل كوكب الشرق نفسها، اليوم كيف حصلت آخر ساعة على الصورة”، ووقتها وصف المحرر الوصول لأم كلثوم، على أنه أصعب من الدخول فى فيتنام أو أنجولا، فالطريق إلى أم كلثوم لم ينجح فى اجتيازه صحفى واحد منذ خمسة عشر عاما، وفى كل خطوة منه أقامت أم كلثوم حائطا كحائط برلين، مع فارق واحد هو أن حائط برلين له بوابة تفتح أحيانا فى المناسباتّ.
وبعد شهر من هذه المؤامرة، التى تعكس عمق العلاقة بين مصطفى أمين وأم كلثوم، تم القبض على مصطفى أمين، فى قضية التجسس الشهيرة، وبعد سنوات كتب مصطفى أمين، فصلا كاملا عن أم كلثوم فى كتابه»مسائل شخصية»، وحكى فيه كيف وقفت بجانبه، ودافعت عنه فى وقت لم يجرؤ أحد على فعل ذلك، وبعد وفاة عبدالناصر ذهبت أم كلثوم تدافع عن مصطفى أمين مرة أخرى، عند أنور السادات وأخذت وعدا بالإفراج عنه، وهو ما حدث فى مطلع عام 1974 .
محمود عوض وأم كلثوم التى لا يعرفها أحد
حاول الكاتب الصحفى الكبير محمود عوض، هو الآخر اختراق أسوار أم كلثوم الحصينة، وكتب عبارته الشهيرة « أن أم كلثوم قد اتخذت قرارا اختياريا سابقا، وهو أن تعيش حياتها بين قوسين» لكن عوض بدأ شيئا فشيئا يحاول إقناعها أن تفتح القوسين، حتى يعرف الناس كل حياتها كل شخصيتها كل تفكيرها، وأخيرا بدأت تتكلم بعد محاولات استمرت سنة كاملة، لكى تروى له أشياء كثيرة، كان يظن محمود عوض أن كل لقاء له مع أم كلثوم، لن يستغرق سوى ساعة بالكثير، ولكنه مع كل لقاء يكتشف أن الساعة تتوقف، ليستمر اللقاء أحيانا خمس ساعات، ليجمع تلك الحوارات فى كتاب من أهم الكتب، التى نشرت عن حياة أم كلثوم وهو كتاب « أم كلثوم التى لا يعرفها أحد».
أم كلثوم صحفية ومذيعة
ولم تكن علاقة أم كلثوم بالصحافة، مجرد صداقة فقط مع كبار الصحفيين، ونشر مذكرات، ولكنها كتبت العديد من المقالات فى مجلات آخر ساعة وروزاليوسف، والإثنين والدنيا والمصور والهلال، وقد حاول مصطفى أمين جمعها فى مكتبه بأخبار اليوم عام 1945، مع الموسيقار محمد عبدالوهاب، ونجح بالفعل فى جمعهما معا، وجلست أم كلثوم على كرسى مصطفى أمين، وأجرت حوارا مع عبد الوهاب، وكان الحوار معدا للنشر، لكن عبدالوهاب رفض نشر الحوار، ولم يصل إلينا من تلك الجلسة التاريخية سوى صورة تجمع السيدة أم كلثوم جالسة على المكتب وبجوارها عبدالوهاب، ولكنها عادت مرة ثانية، لتؤدى دور الصحفية والمذيعة، وذلك عام 1967، فى شهر رمضان وذلك بإجراء حوار صحفى إذاعى مع الأستاذ محمد حسنين هيكل والذى كانت تربطه بها علاقة أثيرة أيضا ، ونشر الحوار فى مجلة آخر ساعة فى ديسمبر 1967 وظهر الحوار مصحوبا بصورة للاثنين، تظهر فيها أم كلثوم وهى ممسكة بسماعة تسجيل، وترفعها أمام وجه هيكل لتسجيل ما يقوله، وقالت المجلة فى مقدمة الحوار: «فتحت أم كلثوم حوارا سياسيا مع الأستاذ محمد حسنين هيكل حول أحداث الساعة وتطورات الموقف، ووقفت أم كلثوم - لأول مرة - فى موقع الصحفى، ووجهت منه أسئلتها إلى هيكل عن مؤتمر القمة العربى المقبل فى الرباط، وعن دور الأمم المتحدة فى أزمة الشرق الأوسط»، وقالت أم كلثوم لآخر ساعة بعد انتهاء الحوار: إن هيكل كان واضحا وصريحا كعادته دائما».
وتحدث هيكل كثيرا عن أم كلثوم وكذلك عن هذا اللقاء الإذاعى الذى جمعهما معا، وقال إنها كانت تذاكر جيدا الأسئلة وتسأل فى كل التفاصيل وتهتم بكل الملاحظات.» ومما ذكره أيضا عنها قال:»إنها سيدة لديها إرادة قادرة أن تثبت نفسها، لكن عندها إرادات أخرى، أصيلة، صديقة، لما اختلفت مع الرئيس السادات، وكان اللقاء معى مشكلة، وبرغم ذلك جاءتنى، ولم أجد رجالا كثيرين مثلها، ورأيتهم أمام السياسيين والسلطة بنوع من الانكسار، أم كلثوم لم يكن لديها انكسار بوجه السلطة.»
ولم تكن أم كلثوم بعيدة عن هيكل، فقد زارته فى الأهرام عدة مرات ومنها عام 1961 عندما احتفل هيكل ببلوغ نجيب محفوظ الخمسين من عمره، ونظم احتفالا كبيرا وكان هذا حدثا تحدثت عنه مصر لفترة طويلة وقتها، فلقد احتشد فى الحفل عشرات الكتاب والفنانين وكان على رأسهم أم كلثوم وتوفيق الحكيم، وفى ذلك الحفل قالت أم كلثوم كلمة قصيرة: «لقد أسعدنى نجيب محفوظ برواياته وقصصه، وأرجو أن يسعدنى خمسين عاما مقبلة.»
واهتز نجيب محفوظ وانتفض يرد على أم كلثوم بصوت هادئ قائلا: «إذا كانت كتاباتى قد أسعدت أم كلثوم ، فماذا يستطيع إنسان أن يفعل إزاء إحساسه بأنه أسعد مصدر سعادته.»
ولم تتوقف أم كلثوم عن تقمص دور المذيعة والصحفية، فعادت فى رمضان عام 1969 فى إذاعة البرنامج العام، لتحاور إحسان عبدالقدوس على نفس النهج الذى حاورت به هيكل مع فارق الأسئلة، حيث كانت الأسئلة الموجة لإحسان لها علاقة بالأدب والجيل الجديد من الشباب والشعر والغناء،
ربما عشق أم كلثوم للكتابة وصداقتها بالصحفيين الكبار، كانت نتيجته غرامها بكتابة مذكراتها الشخصية، سواء كمقالات متفرقة كما فعلت هى بقلمها فى عدة مقالات أو بإملاء مذكراتها على صحفيين، وقد تكررت هذه الحالة عدة مرات، وبدأت فى عام 1937 مع آخر ساعة ثم عام 1964 فى مجلة « هى» ومع محمود عوض عام 1969 وأخيرا فى جريدة الجمهورية فى يناير 1970 عندما نشر المهندس « محمد الدسوقى « سلسلة من المذكرات بعنوان المذكرات الخاصة بأم كلثوم، وكان إحسان عبدالقدوس، قد نشر خبرا مثيرا عام 1957 فى مجلة روزاليوسف، يؤكد أن أم كلثوم قد تركت مذكرات خطية عام 1947 أثناء عملها فى فيلم « فاطمة « مع المخرج أحمد بدرخان، ويذكر الخبر المنشور فى حياة أم كلثوم، أنها أودعت المذكرات لبدرخان مع وثائق أخرى مثل عقود حفلات والتصاريح التى كانت تستخرجها للغناء فى الموالد والأفراح، وكذلك بعض الصور والخطابات، ثم أخذت المذكرات مرة أخرى من أحمد بدرخان وأودعتها فى بنك مصر ثم قبلت أن تتركها مجددا مع بدرخان بشرط ألا تنشر إلا بعد وفاتها .ومات أحمد بدرخان عام 1969 قبل أم كلثوم بست سنوات وماتت أم كلثوم بعده ولم يعثر حتى الآن على هذه المذكرات المخطوطة.