Close ad

تجربة إبداعية جمعت بين المتناقضات.. «حانة الست»

8-1-2025 | 05:32
تجربة إبداعية جمعت بين المتناقضات ;حانة الست;أم كلثوم
محمد بركة
الأهرام العربي نقلاً عن

منذ صدور روايتى الأولى «الفضيحة الإيطالية» 2005، وحتى روايتى الجديدة «مهنة سرية»، التى تصدر بالتزامن مع معرض القاهرة الدولى للكتاب فى يناير المقبل، لم أمر بتجربة إبداعية جمعت بين المتناقضات مثلما حدث فى روايتى « حانة الست» الصادرة عن دار «أقلام عربية» فى القاهرة قبل عامين.

موضوعات مقترحة

 شعرتُ أثناء كتابة هذا النص، الذى دوّخنى برحيق النشوة المسكرة بحالة من السحر الأخاذ تتملكنى، أم كلثوم بجلالة قدرها تنزل من عليائها على قمة جبل المجد لتقص علىّ، أنا العبد الفقير إلى مولاه، أسرار وخفايا حياتها الشخصية، همست لى أم كلثوم بأن أنسف الرواية الرسمية حول سيرتها الذاتية الرسمية، وخصتنى ببواطن الأحداث وأطلعنى على المسكوت عنه، من  سياقات نفسية واجتماعية وضعت «الست»، فى أزمات وصراعات وجراح ومآس لا تنتهى. 

الغموض المعتم مع وضوح الشمس، الشجاعة مع الخوف، الزهو مع الخجل، مباهاة العالم مع الرغبة فى التوارى بعيدا عن الأنظار. هكذا انتابتنى مشاعر متضاربة من الشىء ونقيضه عبر عام من الكتابة والبحث والمعاناة اللذيذة. 
زارتنى أم كلثوم، حقا وصدقا، فى المنطقة الرمادية بين الصحو والمنام لتهمس فى أذنى: 
- واللهِ العظيم ثلاثة أنا أبسط من البساطة، لم أتعمد خلق تلك الهالة من القداسة حولى صورتى وتاريخى يا طيب، أصلا كلنا أولاد تسعة وشعارى السرى فى الحياة كان: خليها على الله وقل يا باسط!
كانت ثومة بذكائها الفطرى الخارق، وقدرتها المذهلة على فرز معادن الناس قد أدركها طرف من غضبى بسبب هالة القداسة، المزيفة للحق والحقيقة، التى تكاد تضعها فى مصاف الملائكة وتوارثناها من جيل إلى جيل، استشعرت بروحها الأثيرية ما انتاب روحى من فكرة محددة، مفادها أننا بهذا السلوك، نكرر قصة الدبة التى قتلت صاحبها حين أرادت أن تهش الذبابة عن وجهه، فقذفته بحجر. تكمن عبقرية «ثومة» فى أنها شيدت أعظم أهرامات المجد فى الغناء والموسيقى، برغم ما مرت به من عوامل محبطة من فقر وتنمر، وتسلط ذكورى وفوارق طبقية مؤسفة. كانت بشرا من لحم ودم وغيرة وأشواق وروح تنافسية، لا ترحم وتعطش لا يرتوى إلى العظمة. 
أردت أن أعبر عن حبى لكوكب الشرق، وفخرى بمنجزها الاستثنائى من خلال إعادة اكتشاف عبقريتها واستعادة « الوجه الآخر»، فى حياتها واسترجاع « المسكوت عنه « و» المخفى» فى وقائع سيرتها الحافلة بالدراما الإنسانية، أردت أن أقول إنها لو كانت ملاكا بجناحين، أو قديسة ممنوع الاقتراب منها أو التصوير من لدنها، فلا جديد أن تكون عبقرية الصوت، مذهلة الغناء، ولاختفى فى قصتها كل ما هو ملهم أو يدعو للتأمل. 
ما أسهل الكلام.. وما أصعب التطبيق!
فى ظل مناخ ثقافى عربى، يضيق بكل ما يخالف الثابت أو يشكك فى المستقر، آلمنى اتهام الرواية بأنها « تشوّه صورة أم كلثوم»، وضاعت صرختى سدى فى صحراء التيه، وأنا أؤكد للقوم أن كل ما يشكل لكم صدمة هى حقائق قالتها أم كلثوم نفسها، وأقرت بها سواء فى الكتاب المرجعي، صغير الحجم، كبير الدلالة، لمحمود عوض « أم كلثوم التى لا يعرفها أحد» أو أحاديثها المتناثرة للصحف فى سياقات تاريخية متفاوتة، لاسيما ما اصطلح على تسميته بـ « المذكرات» ونُشر فى الستينيات عبر حلقات مسلسلة بصحيفة « الجمهورية». 
عانت أم كلثوم، من سخرية الشيخ عبد العزيز «شيخ الكُتاب» منها، كان فظا وقاسيا فى تعليم الأطفال حفظ القرآن، كما كان شقيقها الأصغر «الشيخ خالد» يمارس ضدها سلوكا لا يمكن تسميته إلا بـ «التسلط الذكوري». الأغرب أن والدها «الشيخ إبراهيم» قام بـ «صفعها» ثلاث مرات فى سياقات مختلفة، منها مرة وهى فى بدايات الشهرة وأمام الناس فى البنك الزراعى. زوجها، طبيب الجلدية الشهير حسن الحفناوى، قام فى لحظة غضب بتوجيه صفعة لها هو الآخر فى موقف من مواقف الخلافات الزوجية الحادة، وهو ما استدعى تدخلا شخصيا من الرئيس جمال عبد الناصر. 
وهنا أود الإشارة إلى أكثر من نقطة، مثل هذه النوعية من المواقف والمعلومات التاريخية «الصادمة» موثقة بمراجع منها «المصدر الأول» وهو أم كلثوم نفسها، كما أن تلك المواقف لا تنتقص من قدر «ثومة»، إنما تفعل العكس، وترفع شأنها وتزيد من عبقريتها، فسيدة الغناء لم تعش كإنسانة حياة هنيئة ذات سلام داخلي، ولاحقتها المنغصات بضراوة حتى وهى فى أوج شهرتها. ورغم أن الرواية، أى رواية،  هى نص إبداعى مطلق الحرية وليست بحثا تاريخيا، أو هكذا يُفترض، إلا أننى آثرت وضع قائمة طويلة من المراجع التى توثق الجزء التاريخى فى النص. 
أقبية التاريخ
النقطة الأخرى هى أن مثل تلك المواقف ترد فى المصادر التاريخية فى عدة أسطر، لكن روح ثومة التى تقمصتنى أبانت لى عن حجم الألم الذى اعتصرها والغصة النفسية التى ابتلعتها، فتحولت الكلمة إلى صفحة والسطر الواحد الأرشيفى إلى فصل كامل فى الرواية، عبر خيال المؤلف ولغته. 
النقطة الأهم هو أن تلك المواقف والحقائق ترقد فى أقبية التاريخ المظلمة الباردة، لكنى لاحظت أن هناك حالة من «التواطؤ العام» على نسيانها أو تناسيها أو تجاهلها بحجة أن « ما فات مات» و» نحن أولاد اليوم» و»دع الخلق للخالق». 
جلبت لى الرواية بعض الشهرة والنجاح والانتشار، لكنها جلبت أيضا الشتائم والتجريح والهجوم الشرس، الذى لا يقوم على منطق أو موقف عقلانى. لست نادما، فقد أردت من خلال رواية «حانة الست» أن أمنح شيئا من الحرارة و الدفء لسيرة ذاتية لسيدة عظيمة، لكن تقديسها جعلها صورتها المصقولة، البراقة واللامعة، تفتقد للبعد الإنسانى، وهو ما كانت أم كلثوم نفسها ترفضه فى حياتها. 
ولتقريب الصورة، إليك هذا المثال، حين بدأ نجم أم كلثوم يلمع، شعرت منيرة المهدية بالرعب من الخطر، الذى تحمله المطربة الشابة الصاعدة وبدا أن عرش الغناء الذى تتربع عليه بات مهددا، وحين بدأ نجم أسمهان يلمع، شعرت «ثومة»، أن ثمة ما يهدد مجدها وأن الوافدة الجديدة تحمل الخطر، لقد تكرر نفس السيناريو القديم. إنها لحظة نفسية معقدة ومشحونة عبرت عنها أم كلثوم فى الرواية بقولها: 
هل يتكرر الأمر معى؟ 
يخبو نجمى بالتزامن مع توهج أخرى قادمة من بلاد الشام لتفتن المصريين فى نسائهم وذوقهم الموسيقى؟
بشامة حسن وسيجارة لا تغادر شفتيها الشهيتين، هل تحرق قلوب الرجال؟
يغسل الجميع يدهم منى، ويركزون مع اللعوب القادمة من جبال الدروز؟
تصغرنى بثلاثة عشر عاما، فهل تصبح أم كلثوم الجديدة، مضافا إليها فتنة طاغية؟ 
أذكر تلك الليلة التى تنكرتُ فيها على هيئة سيدة شعبية ترتدى «ملاية لف» سوداء مع البرقع، وذهبتُ إلى صالة «مارى منصور» بشارع عماد الدين لأعاين البنت الجديدة على الطبيعة، عدت والهم عفريت صغير يركبنى ويُدلى ساقيه عند أكتافى. 
سمعتها وليتنى ما فعلت.
صوت ليس كمثله شىء. 
نقى كالمطر.
يستولى على القلب مثل دمعة فى عين طفل.
رحماك من هذا الشجن الذى يغمر حنجرتها كما تغمر المياه حقول الأرز». 
الرواية إذن هى المزيج الصعب من «حقائق تاريخية» تواطأ الجميع على تغيبيها و»خيال» لدى المؤلف أو بالتعبير النقدى الذى لا أحبه «تخييل»، هكذا ستهتف أم كلثوم بكبريائها المعهود: 
«أنا ستكم وتاج راسكم.
كوكبكم الدرى الخالد.
كنت وسأبقى سيدة غنائكم الــذى صــار مــن بعــدى غريبا يثـير بضحكاتــه الهستيرية الصاخبــة المزيد مــن الأسى. اخــترت أن أطـل عليكـم فى هـذا التوقيـت بروحـى أو شـبحي، قـرروا أنتـم، حيـن نضجـت فتياتكـم بمـا يكفـى ليتداولـن عبـارة: (رمـوا بى للذئـاب وعدت قائــدة للقطيــع). 
هــذه المقولــة التــى يشــتعل بها عالمكــم الافتراضى هـى التجسـيد الرائـع لخلاصة تجربتى فى الحياة. تلـك التجربـة التـى لم تقدروهـا حـق قدرهـا فتنظـر لى أجيـال جديـدة عـى أننـى مجرد موميـاء ملكيـة أخـرى تقبـع فى غرفـة مظلمـة بمتحف الحضارة». 

التنكر فى زى رجل
تكشف أم كلثوم بنفسها إستراتيجية الرواية حين تقول فى مقدمة النص: «سـكنت جسـد كاتبـى، خبـرت هواجسـه، وبيـدى الشريفة رفعـت الغطـاء عـن بئـر مخاوفه: سـتكتبنى بحـب فـلا  تخش  أحـدا. قـل لمن قـد يلومـك: عظمـة أم كلثـوم الفعليـة تتجـلى عـر اكتشـاف الحقائق الخاصة بحياتها، وليـس بإضافــة المزيد مــن الأساطير. قــل: يــا قومــى آن الأوان أن نحبهــا بطريقــة جديــدة عــر اكتشــاف إنســانيتها». 
عاشت أم كلثوم أجمل سنوات عمرها تتنكر فى زى رجل، نتيجة فرمان قاس من والدها الذى شجعها على الغناء فى الموالد ثم الأفراح، ثم الحفلات، تحت إشرافه، بشرط أن تبدو كأنها رجل، المشكلة أن هذا الموقف، المضاد للطبيعة البشر والأشياء، طال أكثر من اللازم، حتى إن بعض المصادر التاريخية، تؤكد أن أم كلثوم ظلت تظهر على هذا النحو حتى نهاية العشرين أو ربما بدايات الثلاثين من العمر. 
ذات يوم قررت ثومة أن تقوم بالمواجهة التى تأجلت كثيرا، أن ترفع لواء التمرد المحسوب، قائلة عبر الرواية:
« - لـن أكـون رجـلا  بعـد الآن يـابا، سـأظهر عـلى المسرح  كفتـاة كمـا خلقنى ربى! 
نبرة  التصميــم فى صوتى فاجأتنــى أنــا نفــسى، مــن أيــن جئــت بهذا الحسم؟ هــل كنــت أنــا التــى تتكلــم أم امــرأة لم يُخلــق مثلهــا فى البلاد؟ 
تهـاوى والــدى عــلى مقعــده مثــل أســد منــزوع المخالب، أحاط رأسـه بكفيـه، مهمـا يفعـل فلـن أشـفق عليـه، لابد مـن هـذه المواجهة التـى تأخـرت كثـيرا. 
- كبرتِ يا أم كلثوم!
 لم أعلــق.
 كنــت فى انتظــار حركتــه المقبلة عــلى رقعــة شــطرنج تُدعــى حياتى».
لقد كانت «حانة الست»، بالنسبة لى أكثر من مجرد رواية، إنها زيارة غير مسبوقة لأم كلثوم ولمصر، وللتاريخ الذى يمكن أن يصنع المستقبل، أو يردنا أسفل سافلين هذا الزمان، يتوقف الأمر فقط على زاوية رؤيتنا له وكيفية تعاملنا معه.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا: