نشأتُ مغموراً لأذنى فى الموسيقى الغربية عموماً، والكلاسيكية منها بخاصةً، بعيداً بحكم دراستى وعملى عن الموسيقى الشرقية، وإن كنت دائماً ما أقدرها بشكل نظري، ولكنها كانت بعيدة عن روحى ووجدانى، ووجدت دائماً أن موسيقى برامز وبيتهوفن ومالر وغيرهم من عمالقة الموسيقى الكلاسيكية، هى ما تخاطب عقلى وقلبى.
موضوعات مقترحة
لكن، ولسبب غير معلوم، ضبطت نفسى متلبساً بعد بلوغى الأربعين، أنسجم مع أغنيات أم كلثوم عندما أسمعها فى المقاهى، والتى لا يكاد يخلو مقهى فى القاهرة من موسيقاها، وتطورت فى داخلى مساحة من الإعجاب المتحفظ بها، فكنت لسذاجتى - التى أعترف بها الآن - أرى وقتها أن الموسيقى “المونوفونية”، ذات اللحن الواحد، والتكرار التى تتميز به الأغانى العربية عامة، وأغنياتها على وجه الخصوص، فيه نوع من النقصان الموسيقى، وأن الموسيقى، لابد أن تحتوى على بعض الهارمونى والقوالب المتماسكة، لكى تسعى للكمال الموسيقي، ودونها، تكون الموسيقى مجرد مسودة موسيقية، لم ترق بعد للمرحلة النهائية التى تسمح لها بالعرض على الجمهور.
إلى أن عهدت إلى مهرجانات بعلبك الدولية العريقة، بتقديم تصور جديد لتكريم أم كلثوم لافتتاح دورة المهرجان التى تزامنت مع الذكرى الخمسين لاعتلاء الأسطورة المصرية لخشبة المهرجان (الأسطورى أيضاً)، فتقدمت - ظناً منى - أنى أصلح ما أفسده الدهر، بتصور أوركسترالى لأغانى أم كلثوم. رأيتها فرصة سانحة لهرمنة تلك الألحان الرائعة، وإعطاء تلك الأغنيات بعداً آخر، بَعدَ اللحن والإيقاع، ألا وهو الهارمونية والتلوين الأوركسترالى، وهى مغامرة - فى حدود معلوماتى - لم تحدث من قبل. تحمست جداً، وبدأت كما هو متوقع بسماع كل ما يقع فى يدى من أغنيات لها: بدأت أولاً فى البحث عن تسجيلات الاستوديو، لأنها عادة ما تكون ذات جودة أعلى من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنها تكون ذات إعادات أقل (الأمر الذى كان يناسب ذائقتى وقتها)، ثم بدأت فى العمل على الأغنيات التى اخترتها، ووجدت إعجابى المتحفظ يتحول إلى إعجاب صريح، ووجدتنى أستمتع أيما استمتاع، بإيجاد حلول فنية للتعارض الذى يظهر فى بعض الأحيان بين تقنيات وجماليات الموسيقى الشرقية والربع تون، وبين البناء الأوركسترالى وصرامته ودقة حساباته، وحاولت فى أحيان كثيرة، أن أضع توزيعاً أوركسترالياً جديداً فى كل مرة تعاد فيها الجملة الموسيقية، إلى أن حدث ما حولنى من معجب صريح بتلك العملاقة إلى مريد من مريديها وعاشق من عشاقها، وذلك حينما بحثت عن تسجيل الاستوديو لأحد أغنياتها لدراستها كى أبدأ فى إعدادها للأوركسترا، ولم أجد تسجيلاً جيداً لها، فقررت الاستعانة بتسجيل أحدى الحفلات: هنا حدثت المفاجأة: اكتشفت عندها مصدراً جديداً، حقيقيا ومعجزا لتلك الأسطورة: علاقتها المباشرة مع الجمهور : يا إلهي! ما هذه القدرة المبهرة على التواصل مع جمهورها الحى، وما هذه المباراة التى أُتابعها بشعف جمهور الكرة بينها وبين الجمهور! صد ورد، وتمريرات لآهات إعجاب، يمُكِّّنها من إحراز أهداف فنية مبهرة يتقافز معها وجدان ومشاعر جمهورها طرباً.
وكان السؤال: كيف يمكن لى أن أتناول نصاً موسيقياً يقترب من القداسة لدى جمهور عريض من مستمعيها وعشاقها، وهم مقتنعون أن طريقة آداء أم كلثوم لأغنياتها هى الطريقة المثلى والوحيدة، كيف تفنع الجمهور العربى الذى قيل عنه “أختلف على كل شىء وأتفق على أم كلثوم”، أنه يمكن أن نضيف لطرقها المعجزة فى الأداء، طريقة أخرى جديدة، يمكنها أن تضيف متعة جديدة لسيدة الطرب الذى لا يجرؤ أحد على المساس بما قدمته أو مقارنته بغيره؟
كان قرارى الأول، هو عدم المساس بالنص اللحنى ولو بتغيير نوتة واحدة منه، وعليه، لابد أن تكون كل أفكارى الموسيقية طيعة مرنة، تلتف حول اللحن، تحتضنه وتداعبه وتتفاعل معه دون المساس به، نَجَحْتُ أحياناً وفشلت أحياناً أخرى، وأعدت التوزيع من البداية للنهاية فى بعض الأغنيات: ومع كل أغنية أعمل عليها تزيد المتعة، وأغرق فى هيامى بهذه المؤسسة الموسيقية المذهلة، ويزيد أيضاً توترى من اقتراب موعد الحفل، فأنا دائماً لا أتوقف عن الكتابة والتحسين والتعديل، حتى آخر لحظة ممكنة، كالطالب الذى يستمر فى الكتابة فى ورقة الإجابة فى الامتحان حتى تؤخذ منه عنوة!
يقترب موعد الحفل، وتشتعل الصحافة اللبنانية بمقالات التشكيك ومهاجمة الفكرة، إذ كيف لمؤلف موسيقي، مهما بلغ مدى موهبته، بالتلاعب بأقرب الأنغام للكمال، وما الذى يمكن أن يضيفه هذا الرجل، لقامة سامقة، تبلغ عنان السماء لموسيقاها؟
لحسن الحظ، أننى سألت نفسى هذا السؤال منذ اليوم الأول: وإجابتى عنه لنفسى كانت فى منتهى البساطة والوضوح: لا شىء!، لا شىء أفعله يمكن أن يضيف لتلك الشجرة الراسخة، أو يزيدها بهاء أو تألقاً لدى مريديها وعشاقها ودراويشها (الذى أصبحت أنا فى مقدمتهم)، لكننى أستطيع (وأظننى أفلحت فى ذلك لدرجة ما على أقل تقدير)، أن أقرب منها من حرمته ظروفه الزمانية والمكانية، من فهم لغتها الموسيقية وإعجازها الفنى من الاستمتاع بدررها الفريدة، يمكننى أن أحاول وضع جواهرها النبيلة فى “وسيط” فنى عالمي، يفهمه الجميع: الغربيين كالشرقيين، الكبار كالشباب بنفس القدر، ألا وهو الأوركسترا، فالأوركسترا هو فى رأيى منجز إنسانى من أهم منجزات البشرية، فهو وسيط فنى يمكّّن تشايكوفسكى أن يكتب موسيقى روسية خالصة فيفهمها ويتأثر بها العالم بأسره، تماماً كما فعل بيتهوفن بموسيقاه الألمانية وشتراوس بفالساته الفييناوية، أو سيبيليوس بعشقه لطبيعة فنلندا وغيرهم.
محاولتى، أو قل مغامرتى الفنية مع ألحان كوكب الشرق، كان لها هدف محدد، وضعته نصب عينى، وحاولت فى كل نوتة موسيقية وضعتها ألا أحيد عنه: أن أضع تلك الدرر فى شكل أوركسترالى استسيغه الأجيال التى ألفت آذانها الموسيقى ذات المحتوى الهارمونى، وأصبح جزءاً مؤسِساً لذائقتها الموسيقية.
وجاءت لحظة الحقيقة: يوم الحفل: افتتاح الدورة رقم 62 من المهرجان الأعرق فى الوطن العربى، وسرت قشعريرة فى جسدى وأنا أخطو على خشبة خطى عليها أعظم من امتهن الموسيقى فى العالم أجمع: المايسترو الخالد كارايان، وبافاروتى وغيرهم من أساطين الموسيقى الكلاسيكية، وإيلا فيتزجيرالد وستينج، وغيرهم من أرباب موسيقى الجاز والروك، فيروز والرحبانية وغيرهم من عمالقة الغناء العربى والأهم: الست، كوكب الشرق، أسطورة الغناء العربى: أم كلثوم نفسها، والحفل هو احتفاء بمرور خمسين عاماً على اعتلاء الست لخشبة المهرجان، فهل سأخذل الست بتجربتى هذه، أم سأسهم ولو قليلاً فى استمرار أسطورتها الخالدة لدى أجيال لم تعاصرها؟ وبدأت الموسيقى…
وبذلت كل جهدى، فى السيطرة على إبحار الأوركسترا الكلاسيكى فى مياه غريبة عليه، بل والسيطرة على مشاعرى وانفعالاتى أنا، ومضت أول أغنية بسلام، أعقبها تصفيق حار لما يقرب من أربعة آلاف متفرج، لم أسمح له بخداعى، فأنا أعلم جيداً أن الجمهور، مهما بلغ رضاه عن المطربة والأوركسترا وعنى، فإنه يصفق أولاً وأخيراً لما تعنيه أم كلثوم لهم، وما تحركه موسيقاها فى داخلهم، لكنى هدأت قليلاً لإدراكى أن الجمهور لم يعارض المغامرة الأوركسترالية على الأقل، وهذه كانت إشارة جيدة، بعد مقالات التشكيك المسبق فى تلك التجربة.
واستمر تدفق الأغانى واحدة تلك الأخرى، إلى أن “غمز” لى رائد الأوركسترا، وأشار إلى خِفية بأن أستدير لأرى الجمهور ففعلت، وإذ بى أفاجأ بافضل مفاجأة يمكننى تمنيها فى تلك اللحظة، فقد كان الجمهور (الذى لم أنظر له منذ اعتليت الخشبة من فرط التوتر)، كان غالبيته العظمى من الشباب دون الثلاثين، وكانوا ينشدون مع المطربة (كان حظى جيداً أن تعاونت، فى ذلك الحفل مع مطربتين من أفضل من غنى أغانى الست، وهم مى فاروق ومروة ناجى) كانوا ينشدون الأغانى كلمة بكلمة، بتأثر ومعايشة بالغين، فأدركت أن الله قد وفقنى، فيما كنت أسعى إليه، وهو الوصول إلى القلوب الشابة بموسيقى وأغانى العظيمة كوكب الشرق.
انتهى الحفل وأشادت به الصحافة الإعلام اللبنانى والعربى، ونجح الحفل نجاحاً أدى لدعوة المهرجان العريق لى العام التالى، وهوبذلك قد كسر قاعدة لديه بعدم دعوة أى فنان لعامين متتاليين، لإحياء ذكرى العندليب الأسمر، وتلك حكاية أخرى.
أندم على أيامى التى مرت دون استماعى للست، أو كما قالت هى “قبل ما تشوفك عينيا (أو تسمعك أذناى فى حالتى).. عمرى ضايع يحسبوه إزاى عليا”.
فى نهاية حديثى، الذى أرجو أن أكون لم أطل فيه، أود أن أعرب عن امتنانى لمهرجانات بعلبك العريقة والقائمين عليها، فلهم فضل كبير فى التعريف بى عربياً وإقليمياً بعد أن منَّ الله على بالوجود الجيد فى مصر، وأتمنى لهم وللبنان، ذلك البلد الرائع، عودة أيامه ولياليه الفنية الرفيعة، أبهى وأفضل وأكثر إشراقاً مما قبل.