Close ad

شهدت حضورا رمزيا لسيدة الغناء العربى.. قصة كتبتها "ثومة" للتاريخ فى فرنسا

8-1-2025 | 02:54
شهدت حضورا رمزيا لسيدة الغناء العربى قصة كتبتها  ثومة  للتاريخ فى فرنساأم كلثوم
أمنية الدكانى
الأهرام العربي نقلاً عن

على كثرة المقالات التى كتبت عن علاقة أم كلثوم بالرئيس جمال عبد الناصر، لا تزل هذه العلاقة محور اهتمام فى الغرب، وبالذات فى فرنسا التى شهدت حضورا رمزيا لسيدة الغناء العربى، سبق الحفل الكبير الذى أقامته هناك لصالح المجهود الحربى فى نوفمبر 1967 وأطلق مسارا منحها (هوية إضافية )،كصوت عربى رافض للهزيمة وعليه أن يقود أمة كاملة إلى النصر. 

موضوعات مقترحة
ومن باريس صدر أخيرا كتاب عن دار أوكسيمور يبحث فى طبيعة العلاقة التى ربطت ثومة مع جمال عبد الناصر، وهى علاقة فريدة بحسب الكتاب الذى حمل عنوان (أم كلثوم السلاح السرى لعبد الناصر) .
يعكس العنوان أهمية وتأثير أم كلثوم الذى جاوز حدود الوطن العربى، لينقل صوت العرب إلى قلب العاصمة الفرنسية، فى ظل تأجج التوترات فى الشرق الأوسط.
والأهم أن هذا الإصدار هو الأول الذى يقدم أم كلثوم فى قالب قصة مصورة، من تأليف الكاتبة الفرنسية مارتين لاجارديت، ورسوم وإخراج فريد بودجلال، وهو كاتب وفنان فرنسى من أصول جزائرية. 
ويجعل هذا التعاون الإبداعى الفريد من الكتاب، نافذة مهمة تنقل وجهة نظر الغرب والشرق معًا عن أم كلثوم، لتؤكد مرة أخرى أن «كوكب الشرق» لا تزال تلهم الأجيال بعبقريتها، وبالدور الدبلوماسى الذى لعبته وإرثها الفنى والإنسانى الذى خلفته.
يرسم الكتاب فى أربعة عشر فصلًا مشوقًا، ملامح رحلة غنية بالأماكن والشخصيات التى صنعت الحدث الاستثنائى الذى ولده الحفل الذى شهده مسرح الأوليمبيا، بدءًا من زيارة برونو كوكاتريكس، مدير المسرح إلى القاهرة فى يوليو 1966، ولقائه وزير الثقافة المصرى آنذاك، الدكتور ثروت عكاشة، مرورًا بتطورات المشهدين الفنى والسياسى فى مصر وفرنسا خلال حقبة الستينيات، وصولًا إلى الحفل الخالد الذى يأسر القارئ بتفاصيله، ليشعر وكأنه يعايش أبطاله وأحداثه لحظة بلحظة.

أكثر من حفل
فى يوليو 1966، كانت شوارع القاهرة تعج بالاحتفالات بمناسبة الذكرى العاشرة لتأميم قناة السويس، حينما حط برونو كوكاتريكس، مدير مسرح الأوليمبيا، وفريقه رحالهم فى العاصمة المصرية. حيث جاءوا لعقد اتفاق على حفل مع أحد الفنانين العرب، لكن المشهد الذى استقبلهم كان أكبر من مجرد شوارع مزدحمة، التقى كوكاتريكس على الفور بمندوبى وزير الثقافة الدكتور ثروت عكاشة، ودار بينهم حوار قصير، أدرك معه كوكاتريكس، أن تلك الحشود انعكاسًا لاعتزاز المصريين بثورتهم وبقرار التأميم، الذى أعاد لهم كرامتهم بعد عقود طويلة من الاحتلالين العثمانى والبريطاني، وبالتالى فإنها ليست مجرد ذكرى، بل تجسيد لروح شعب استعاد سيادته وهويته.
فى صباح اليوم التالي، جمع لقاء مثمر بين كوكاتريكس وعكاشة، حيث اكتشف الأول سريعًا أنه لن يحتاج إلى مترجم. فقد كان عكاشة، الذى شغل منصب الملحق العسكرى بباريس فى أوائل الخمسينيات، يجيد الفرنسية بطلاقة جعلت التواصل بينهما سلسًا ومباشرًا.
لم يقتصر اللقاء على حوار رسمي، بل أذاب عكاشة الجليد بحديثه عن استقباله لوزير الثقافة الفرنسى مالرو وعالمة المصريات ديروش نوبلكور قبل بضعة أشهر، وتطرق الحديث إلى معرض توت عنخ آمون الذى ستقيمه فرنسا فى فبراير1967.
حين علم عكاشة أن كوكاتريكس لم يحدد بعد النجم الذى سيبرم معه العقد، أشار عليه بجوهرة لا تقدر بثمن: أم كلثوم. غير أن كوكاتريكس، بخلفيته الغربية، ظن أن الحديث يدور حول راقصة شرقية، ليقاطعه عكاشة مستنكرًا: «بل مغنية عظيمة»!
بدأ عكاشة فى رسم صورة أم كلثوم بحديثه عن بداياتها المتواضعة، كطفلة تجولت مع والدها فى قرى مصر تنشد التواشيح الدينية والقصائد؛ ثم كيف أقنع الشيخ أبو العلا محمد والدها بالانتقال إلى القاهرة عام 1923، حيث بدأت رحلتها مع التألق ليبدأ تعاونها مع أبرز الملحنين والمؤلفين، مثل زكريا أحمد، رياض السنباطي، ومحمد عبد الوهاب، بالإضافة إلى أحمد رامى الذى عشقها بإخلاص، ومحمد القصبجى الذى كرس حياته من أجلها.
ثم تحدث عن ذكاء أم كلثوم وحنكتها الفنية، إذ أدركت مبكرًا أهمية الإذاعة فى ذلك الوقت، وكيف حرصت على أن تُبث حفلاتها الشهرية عبر أثيرها، لتخلق طقسًا شعبيًا فريدًا، فبات المصريون من مختلف فئاتهم وخلفياتهم يلتفون حول الراديو فى البيوت، المقاهي، والميادين، الخميس الأول من كل شهر.
وحدثه عن الإعجاب المتبادل بين أم كلثوم وناصر، فكلاهما جمعته النشأة البسيطة وحب الوطن، وكيف دافع عنها عبد الناصر، حينما اتهمها البعض أنها كانت مطربة الملك قائلا «إنها أم كلثوم، ألم تكن الشمس تشرق فى عهد الملك أيضا!»
خرج كوكاتريكس من اللقاء، عازما على أن لا يغادر إلى فرنسا قبل مقابلة السيدة «أم» كما كان يسميها، وقرر التوجه فورًا لاقتناء بعض أسطواناتها، وكأنه يريد أن يختبر سحرها بنفسه قبل أن يلتقيها وجهًا لوجه. بدا كوكاتريكس وكأن شغفه لم يعد مجرد اهتمام بعقد فني، بل تحول إلى رغبة عميقة فى اكتشاف الأسطورة، التى حكى عنها عكاشة بكل هذا الشغف والتقدير.

ضعف أجر إديث بياف
وصل كوكاتريكس إلى فيلا أم كلثوم ليلتقى «كوكب الشرق»، ويفاجأ بطلباتها؛ عشرون مليون سنتيم (فرنك قديم) وهو ضعف الأجر الذى حصلت عليه اديت بياف، بالإضافة إلى اصطحاب فرقتها الموسيقية ومصممى الأزياء والمساعدين والفنيين والسكرتارية ومصففى الشعر، واقامتها بفندق جورج الخامس، أحد أشهر وأفخم فنادق العاصمة الفرنسية.
عاد كوكاتريكس إلى باريس مثقلًا بالتساؤلات والتردد، يحمل فى جعبته مغامرة ومقامرة، وحينما استبدت به الحيرة، قرر أن يشرك المقربين منه بالأمر، داليدا وكلود فرنسوا، وكلاهما ولد بمصر وعاشا بها طفولتهما وفترة من صباهما، واللذين أصبحا نجوما ملء السمع والأبصار بباريس، وكانا منبهرين ومتحمسين للغاية لها، أما الباقون فينصحونه بعدم خوض التجربة، خصوصا فى ظل موقف الفرنسيين من مصر بعد تأميم القناة، وثورة الجزائر، ماذا عليه أن يفعل؟ فمصيره بات مرتبطاً بذلك الحفل، إما الإفلاس وإسدال الستار إلى الأبد، أو ثروة ونجاحا استثنائيا!
تنقلنا الرواية التى يسردها الكتاب إلى قصر الإليزيه، حيث يجتمع الجنرال ديجول مع مالرو للاطمئنان على معرض توت عنخ آمون، ويتناولان الحديث عن حفل أم كلثوم المرتقب، كان ديجول شديد الاهتمام بتعزيز الجسور الثقافية مع الجمهورية العربية المتحدة، مدركا أهمية الحضور والتأثير الفرنسى، فى منطقة تُحسب آنذاك على المعسكر الاشتراكى، كما رأى فى شغف الرئيس جمال عبد الناصر بالثقافة والتراث الوطنى فرصة مثالية لدعم هذه المهمة، فى وقت كانت فيه المنافسة بين القوى الدولية على أشدها.
ناقش ديجول مع مالرو أهمية الحفل المرتقب، باعتباره وسيلة تخدم هذه الغاية، ووافقه مالرو، الذى كان يدرك جيدًا مدى تأثير أم كلثوم وعلاقتها الوثيقة بعبد الناصر، تلك العلاقة التى جعلت الإعلام الأمريكى يصفها بـ «سلاح ناصر السرى».
ظل برونو كوكاتريكس غارقًا فى القلق لشهور طويلة، فمنذ زيارته للقاهرة قبل سبعة أشهر، لم يتسلم العقد، مما زاد من شكوكه حول جدية أم كلثوم تجاه الحفل المرتقب. لكن أمله تجدد عندما التقى عكاشة فى فبراير 1967 خلال معرض توت عنخ آمون بباريس، الذى أكد له، أن العقد ينتظره بالسفارة المصرية بباريس.
كان عام 1967 من أهم الأعوام خلال فترة الستينيات والسبعينيات فيما يخص الحراك الفنى والسياسى أيضا، الثورة الثقافية فى الصين، انقلاب عسكرى فى اليونان، وتوتر شرق أوسطى محتدم.

كلمة السر (ديجول)
وفى فرنسا كانت هناك تظاهرات مناهضة للحرب على فيتنام، بدأ تشكيل مرحلة الوعى البيئى إثر انقلاب ناقلة النفط «تورى كانيون» فى بحر المانش، كان ذلك الحراك الاجتماعي، بمثابة تمهيد لأحداث مايو 68 التى تعد نقطة تحول ثقافية وسياسية فى تاريخ فرنسا. لكن، وبالرغم من كل تلك التحديات الداخلية، فإن ديجول كان يولى ذات الاهتمام للشأن العربى، منذ أن طلب عبد الناصر من الأمم المتحدة سحب قواتها من الحدود مع إسرائيل، وأعلن لوزرائه صراحة، لسنا فى عام 56، حين قامت فرنسا بالمشاركة فى العدوان الثلاثى وعليه، فإن باريس ستلتزم الحياد فى حال قامت حرب جديدة، وستدين المعتدي، ومن الممكن أن نحظر بيع الأسلحة له إن لزم الأمر، لكن فى تلك اللحظات التاريخية تبقى رسالة الفن أن يواصل دوره بلغته العالمية فى التعبير والتواصل.
ما إن بدأ كوكاتريكس يلتقط أنفاسه، حتى ألقت نكسة يونيو 1967 بظلالها الثقيلة على مصر والعالم العربي، مما انعكس بالطبع على أم كلثوم وحفلتها المرتقبة. اتصل كوكاتريكس بعكاشة مستفسرًا إن كانت أم كلثوم ستأتى إلى الأوليمبيا فى أكتوبر كما هو مخطط، ليخبره الأخير أن أم كلثوم سيدة وطنية قبل كل شيء، وأنها لا يشغلها الآن سوى مصير بلدها، «ربما فى نوفمبر»، ربما!
بحلول أكتوبر، كانت الأزمة تزداد تعقيدًا. لم تُبع أى تذاكر للحفل، التى بلغ سعرها 300 فرنك، ما يعادل تقريبًا الحد الأدنى للأجور حينها، كما فشل كوكاتريكس فى حشد دعم الصحافة الفرنسية لإطلاق حملة دعائية، وبدت له الكارثة حتمية.
فى 8 نوفمبر 1967، وصلت أم كلثوم إلى باريس، وعند خروجها من المطار توجهت مباشرة إلى الصحفيين المنتظرين، كان معظمهم من العرب بكلمات قصيرة وصور متلفزة، أشعلت السيدة شعلة الحماسة. انتشر الخبر كالنار فى الهشيم، وبدأ الناس يتدافعون نحو المقاهى للتأكد من صحته، ووضعوا خططًا محمومة لتدبير ثمن التذكرة، مهما كلف الأمر.

 وقت ساحر 
لأجل هذه اللحظة الفريدة، لم يتردد كثيرون فى اقتراض المال، إنفاق مدخراتهم، أو حتى الامتناع عن إرسال المساعدات إلى عائلاتهم هذا الشهر. بالنسبة لهم، كان حضور حفل أم كلثوم شيئا يحدث «مرة بالعمر» أنه حج إلى قبلة الفن العربي.
لم يصدق كوكاتريكس ما يراه: نفدت التذاكر فى وقت قياسي. تجاوزت الحماسة كل التوقعات، وبدأت الجماهير تدفع ما يصل إلى 80 فرنكا لحجز مكان أمام المسرح، بينما حُجزت كراسى الرصيف حول الأوليمبيا مقابل 4000 فرنك!
فى تمام الساعة 21:25 من مساء الثامن من نوفمبر، كان المسرح بأكمله فى صمت وترقب. ظهرت أم كلثوم على خشبة الأوليمبيا بكامل فرقتها الموسيقية، انطلقت مقدمة أنت عمري، لتفتتح وصلتها الأولى، وسط حالة من الانتشاء لدى الجمهور الذى غمرته عظمة اللحظة، وانبهار مدير الأوليمبيا الذى لم يتوقع هذا النجاح الساحق. 
كادت متاعب كوكاتريكس تتجدد عندما، علق جلال معوض خلال إذاعته للحفل « اليوم تغنى أم كلثوم من باريس والعام المقبل إن شاء الله تغنى من القدس المحررة» ليطلب منها المدير، أن تبلغ السيد جلال أنه ليس فى ساحة سياسية، لترد حاسمة إنها هنا فى مهمة سياسية، وإن عائدات الحفل ستذهب لصالح الجيش المصرى، وأنها من الممكن أن تعفيه من الحرج وتغادر فورا، ليطلب منها كوكاتريكس أن تهدأ، وأنهما سيصلان إلى تسوية ترضيها.
فى وصلتها الثانية، شدت أم كلثوم قصيدة الأطلال، واختتمت حفلها الخالد بأغنية بعيد عنك، تاركة المسرح والجمهور فى حالة من الانتشاء الكامل. غرق الحاضرون فى هذا الحلم الذى عاشوه بكل تفاصيله، وخرجوا منه وهم يدركون أنهم شهدوا لحظة خالدة فى تاريخ الفن. 
احتشدت الجماهير خارج المسرح، واضطرت أم كلثوم لأن تغادر المسرح خفية فى سيارة فيات صغيرة، خوفا من تدافع الجماهير، كما يروى على السمان فى كتابه «مصر، من ثورة إلى أخرى»
ذهبت على الفور إلى غرفتها، لتتلقى اتصالا من جمال عبد الناصر يهنئها وتشكره.
فى قصر الإليزيه، استعرض أندريه مالرو الحفل مع الجنرال ديجول، مؤكدًا أن أم كلثوم أذهلت الجميع وفاقت كل التوقعات، بتأمل، قال مالرو إنه يعتقد أن الناس فى المستقبل قد يمزجون بين الوقائع والخيال عند رواية هذه القصة
بابتسامة واثقة، رد ديجول: « ليس مهمًا. هى قصة لخدمة... التاريخ» 
وهكذا كانت أم كلثوم، وهكذا كان عبد الناصر، رمزين لحقبة استثنائية فى تاريخ مصر والعالم العربى، لذلك يجعل الكتاب منهما وجهين لعملة واحدة، عملة أصيلة وفريدة قلما تجود أزماننا بمثلها. 
لم تكن أم كلثوم كما أعتقد «سلاحًا سريًا»، كما وصفها الأمريكيون، بل كانت سلاحًا معلنًا، قويًا وشامخًا، لم يتوقف أثره إلى اليوم، فكما تجاوز تأثيرها حدود المكان فى حياتها، فإنه تخطى أيضًا حدود الزمان بعد وفاتها.
أدرك عبد الناصر تمامًا أهمية «القوة الناعمة»، قبل صك المصطلح نفسه بعقود، وراهن عليها وربح الرهان لا محالة. 
وبعد خمسين عامًا من رحيلها، لا نزال نحتفى بها، نتذكر صوتها الذى حمل هويتنا إلى العالم، ونتأمل فى تاريخ مرحلة، أعتبرها الأهم والأغنى فى تاريخنا الجمهوري.
اليوم، يروى لنا الغرب قصتها، لكنها تبقى قصتنا نحن، مرآة لثقافتنا وهويتنا، وتجسيدًا لصوت لا يزال يتردد، ليحكى قصة قوة وشغف وعبقرية لن تنطفئ أبدًا.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا: