لم يكن مشروع أم كلثوم الغنائى بفضائيه السياسى والاجتماعى محدودًا، حين قامت ثورة 23 يوليو 1952، ولم يكن صوتها ووهج حضورها مقصورًا على تلك المساحة الفنية الضيقة التى أعطيت لمطربات ومطربى عصرها، بل إن أم كلثوم وعلى مدار ثلاثة عقود سبقت حدث الثورة المؤسس فى تاريخ مصر والمنطقة العربية، كانت قد استطاعت أن تزامل تدرجًا رموز الشخصية المصرية المقدسة فى الوعى الجمعي، والذين توهجت تجاربهم الفنية والأدبية خلال تجربة مصر الليبرالية (1923-1952) التى سبقت قيام الثورة.
موضوعات مقترحة
برغم تفاعلية أم كلثوم مع العهد الملكي، وغنائها للملك فاروق (1936-1952) فى أكثر من مناسبة شخصية ووطنية، وارتباطها بأسماء مهمة فى نظامه السياسى وبيئة مصر الحزبية آنذاك، ومنحها وسام الكمال استثناءً من الدرجة الثالثة فى العام 1944 فى حفل النادى الأهلى الشهير، فإنها كانت عند نهاية عقد الأربعينيات قد بدأت تشعر بتململ حاد من رخاوة ذلك النظام وعدم قدرته على قراءة الموقف الداخلي، خصوصا بعد فشله فى تحقيق الاستقلال المصرى بعد نهاية العالمية الثانية، وقساوة تجربة حرب فلسطين وهزيمتها الفاضحة، التى كشفت عوار العرش الملكي، وعجلت بنهايته.
ولا يمكن بحال من الأحوال فهم ذلك التغير الذى طرأ على أم كلثوم، ودفعها إلى تبديل موقفها السياسى حين قامت الحركة المباركة كما أطلق على الثورة فى أيامها الأولى، إلا بقراءة ذلك النتاج الأخير من القصائد التى غنتها أم كلثوم بدايةً من عام 1946، حين شرعت فى تحويل قصائد أحمد شوقى الدينية إلى قصائد غنائية مسرحية، تقدمها فى حفلاتها العامة، وتعمدها الشخصى عند غناء كل قصيدة اختيار بيت أو اثنين للتعبير عن الحالة الاجتماعية المحبطة، التى أصابت المصريين تجاه الوضع السياسي، وهو ما نلاحظه جيدًا فى قصائدها «سلو قلبي» و«نهج البردة» ومرورًا بالهمزة النبوية الشهيرة التى عرفت تجاريًا باسم «ولد الهدى» وغنت فيها أم كلثوم -لأول مرة- عن الاشتراكية ولكن من منظور إسلامي، ومدحت النبى محمد (ص) قائلة: «الاشتراكيون أنت إمامهم/ لولا دعاوى القوم والغلواءِ» وهو البيت الذى أدخل أم كلثوم فى صدام مع الرقابة والقصر لأول مرة، وجعلها تقف على مسافة قلقة من النظام، أو على الأقل فك ارتباطها به، بعدما أدركت سرعة تحلله، وربما قرب وفاته الرسمية.
سر المساحة المضطربة
ربما غفل معظم من تناولوا علاقة السيدة أم كلثوم بقائد حركة يوليو الفعلى جمال عبد الناصر، عن تلك المساحة المضطربة التى تشكلت بين أم كلثوم والعهد الملكى فى نهاية عقد الأربعينيات، وتلك اللهجة الغنائية المتغيرة التى رسختها أم كلثوم، بدايةً من عام 1946، وظلت تتصاعد حتى وصلت إلى ذروتها بغناء قصيدة «مصر تتحدث عن نفسها» فى حفل عام فى مطلع ديسمبر 1951 فى أعقاب إلغاء معاهدة 1936، وهى ذاتها المساحة المضطربة التى مهدت لذلك الاستقبال الحافل، الذى أظهرته أم كلثوم عند قيام الثورة المصرية، وتجاوبها الشديد مع معطيات الحركة بداية من صباح يوم 26 يوليو 1952 حين غادرت الإسكندرية متوجهة إلى مبنى القيادة العامة بالقاهرة للمباركة وتدعيم الضباط ومطالبهم، ولكن تلك العلاقة الخاصة التى جمعت أم كلثوم بجمال عبد الناصر ظلت موضع جدل وتحليل ونقد، خصوصا أنها لم تقف عند حدود ذلك الإعجاب الجارف الذى كَنَّه الرئيس لصوتها، وغناء السيدة الكبيرة لبطل الثورة ومحقق آمالها، بل امتدت ظلال تلك العلاقة إلى ما هو أبعد من ذلك، وصارت أم كلثوم من أقرب المقربين للرئيس وعائلته، ووجهٌ لا يغيب عن الاحتفالات العائلية والخاصة فى بيت الرئيس فى منشية البكري.
فى مقالها المهم الذى كتبته أم كلثوم فى سنوية عبد الناصر الأولى فى مجلة «الهلال» عدد أكتوبر 1971، ترجع السيدة الكبيرة علاقتها بعبد الناصر إلى مرحلة ما قبل الثورة، وذلك حين دعت فى ربيع 1949 ضباط وقادة الكتيبة المصرية المحاصرة فى «الفالوجة» الفلسطينية إلى حفل شاى فى حديقة بيتها بالزمالك، تكريمًا لهم لما عرف عن استبسالهم، فى ذلك الحصار الذى دام قرابة الثلاثة أشهر، كان وجه عبد الناصر حاضرًا بين تلك الوجوه العديدة التى زارتها فى ذلك اليوم، وبرغم أن العديد من المؤرخين يرجعون شرارة تلك العلاقة المعقدة بين الرئيس ومطربة الشرق الأولى إلى مرحلة ما بعد يوليو، حين قام بعض موظفى الإذاعة الجدد بوقف أغانيها، بحجة أنها مطربة العهد البائد، وتدخل البكباشى آنذاك فى تغير الموقف لصالح أم كلثوم، وتوضيح مركزية مكانتها فى العهد الجديد أيضًا، وبرغم ثبوت تلك الواقعة، واختلاف طريقة روايتها من راو لآخر، يبقى عند المدقق فى تلك المرحلة إيمان قاطع، بأن تلك العلاقة قد أخذت مسارًا جديدًا بعد أن ساهم عبد الناصر تطوعًا فى تنسيق سفر السيدة أم كلثوم إلى الولايات المتحدة الأمريكية للعلاج، من مرض الغدة الدرقية فى مستشفى القوات البحرية الأمريكية، وذلك فى الفترة ما بين مايو وسبتمبر 1953، وشفاء أم كلثوم التام من ذلك المرض العضال الذى كاد أن يقضى على صوتها ووجودها الفني، لذلك كَنَّت أم كلثوم لشخص جمال عبد الناصر الكثير من الامتنان الشخصى لدوره فى تسهيل تلك الرحلة العلاجية، وشعرت بمدى التقدير الذى بادر الرئيس به تجاهها، حتى من قبل أن تغنى باسمه لأول مرة بعد حادثة «المنشية» الشهيرة فى أكتوبر 1954، حين شدت فرحًا بنجاته «يا جمال يا مثال الوطنية» وصارت تلك الأغنية شاهدًا على بداية توطيد تلك العلاقة الإنسانية والسياسية.
علاقة مركبة
فى الفترة ما بين 1954 و1967 نمت العلاقة الكلثومية - الناصرية، وتشبعت إلى درجة عدم القدرة على تميز ما كانت تشعر به أم كلثوم حقيقةً تجاه ذلك النظام الجديد، وعدم القدرة على التفريق بين ما كانت تغنيه السيدة حبًا فى ناصر، أو مجاراةً للأحداث الوطنية المتلاحقة آنذاك، وهو ما فتح الباب بعد ذلك للتنظير على تلك العلاقة المركبة التى جمعت شادية العروبة بزعيمها، وتفكيك تلك الرمزية المقدسة التى شكلتها أم كلثوم فى الذاكرة العربية، وتأصيل دورها الفنى والسياسي، بعد تنحية تلك الرعاية الناصرية لفنها واتساع رقعة سطوتها العربية، وهو ما فتح تباعًا باب التأويل الهادئ والحاد أحيانًا لمكانة أم كلثوم الفنية، فكتب فى مطلع التسعينيات حازم صاغية كتابه المدوى «الهوى دون أهله» الذى نزل كصاعقة على عشاق أم كلثوم، بعد أن وجه صاغية لها أصابع الانتقاد المؤلم، باعتبارها أداة من أدوات الدعاية الناصرية، وتكرسيها كمطربة للنظام، وتنميطها كمعيار قائم بذاته للذوق العربي، وهو ما اعتبره صاغية “ تعبيرا عن الصيغة التوحيدية، التى أراد النظام تعميمها فى الأذواق والرغبات، كما فى السياسة!”
برغم المراجعات التى قدمها صاغية فى طبعته الثانية للكتاب فى عام 2024، وإشارته فى مقدمته إلى تلك الحالة التى كانت تحيط به أثناء كتابة الكتاب، ورياح الحرب الأهلية اللبنانية (1975 - 1990) التى كانت تحاوطه وهو ينقد ويحلل المؤسسة الكلثومية، بقت أفكار ذلك الكتاب قائمة إلى ذلك اليوم، ومدخلاً للعديد من التقدميين الذين يأخذهم ذوقهم الفنى، إلى ضفة بعيدة عن ضفاف الطرب الكلثومي، وقد أصدر الكاتب حنفى المحلاوى كتابًا كاملاً عن تلك العلاقة التى جمعت السيدة بالرئيس، تحت عنوان «عبد الناصر وأم كلثوم: علاقة خاصة جدًا» وبرغم ما حمله ذلك الكتاب من أخطاء تاريخية، وعدم دقة فى البحث الأرشيفي، فإن موضوعه جاء وكأنه توضيح لمراحل تلك العلاقة الملتبسة بين أم كلثوم وعبد الناصر، والتأكيد على أن فائض المنفعة لم يصب إلا فى صالح مشروع جمال عبد الناصر، وليس فى كفة أم كلثوم التى كانت منذ الأربعينيات مطربة العرب الأولى، فبقدر ما استفادت أم كلثوم من سلطاتها المعنوية خلال العهد الناصري، واعتبارها سيدة مصر الأولى، وذاتً فنية مقدسة يحرم الاقتراب منها، بقدر ما استفاد المشروع العروبى من صوتها، ومن حقيقة كونها مركز للثقافة العربية الجامعة، والدليل القاطع على أن تلك الأمة تمتلك شيئًا حقيقيًا ومتجانسًا بين أرواح أبنائها، بل إن حفلتها الشهرية المذاعة من القاهرة، كانت تجسد المركزية القاهرية، حتى من قبل أن يبدأ التنفيذ الفعلى للمشروع القومى فى الفترة ما بين 1958 - 1967.
صوت برعاية الأمة
يجب الإشارة هنا إلى أن أم كلثوم قبل ظهور جمال عبد الناصر، كانت تمتلك بعضًا من تلك النزعة المتعالية عن طبيعة دورها كمطربة، فسلطاتها داخل الدولة المصرية لم تكن وليدة الناصرية ولا المرحلة الثورية، بل كانت لها جذور قديمة تعود إلى مرحلة منحها لقب «صاحبة العصمة» فى العام 1944، الذى جعلها تقف فى فضاء الأميرات وزوجات الوزراء والحزبيين المصريين، اللاتى حصلن على ذات اللقب، وتمتعن بحصانته المجتمعية، كما أن دورها العربى لم يكن وليد المشروع القومي، فرحلاتها إلى بلاد الشام والعراق فى الفترة ما بين 1931 و1946، تؤكد تلك النظرة المقدسة التى أظهرتها الشعوب العربية لذلك الصوت وتلك الشخصية، والالتفاف حولها كمعنى وقيمة، لدرجة منحها وسام الرافدين فى زيارتها الثانية إلى العراق فى مايو 1946، وتغير قانون منح الوسام من أجلها، لتكون السيدة أم كلثوم أول سيدة عربية تحصل عليه فى سنوات الحكم الهاشمى للمملكة العراقية.
كل تلك العوامل جعلت أم كلثوم فى نظر عبد الناصر قيمة لابد أن تحاط بكل رعاية، وصوتا لابد أن تقدم له الدولة المساحة الكافية ليكون على رأس أسلحته العربية، خصوصا أن تجربة أم كلثوم الإنسانية، ربما كانت تحمل ذات الرسالة لشعارات الثورة الجديدة، ففى تجربتها العصامية وصعودها الطبقى معانى الموهبة والفرادة والكفاح الفردي، لذا كان اعتراف عبد الناصر بسلطة أم كلثوم، هو اعتراف بها كدولة فنية قديمة ومستقرة، لا يجب تقزيمها بل يجب السعى إليها والاستفادة من شعبيتها وجماهيريتها الواسعة.
ولكن هذا لم يمنع القول إن كل الشواهد التاريخية، تؤكد أن أم كلثوم آمنت فعليًا بتجربة عبد الناصر وأفكاره، وتجاوبت بكل جوارحها مع تلك الشعارات السياسية والعربية، التى رفعت بدايةً من خطوة الإصلاح الزراعي، ومرورًا بشعارات الاشتراكية والعروبة والمساواة بين طبقات الأمة المصرية، فشخصية الفلاحة البسيطة لم تكن تفارقها، ولم يغيب عنها أبدًا فى يوم أنها بنت بيئة ريفية عانت الفقر والحاجة، فرغم ما حملته التجربة الناصرية من ضرر بالغ لمسار الديمقراطية المصرية، بقدر ما شهد عهده تغييرا فى النظام الطبقى فى مصر، تمثل فى صعود الطبقات الفقيرة، وتشكيل طبقة وسطى, منحت جميع الصلاحيات لتكون واجهة الدولة، ومركز سلامها الاجتماعي. ويبقى الشاهد المهم فى جدلية تلك العلاقة هى ما أظهرته السيدة أم كلثوم من عاطفة تجاه عبد الناصر بعد نكسة يونيو 1967، عندما حاولت أم كلثوم قدر المستطاع ترميم علاقاته العربية، وأعادت المسارات الدبلوماسية بملوك وحكام عرب، قطعت السجالات السياسية أواصر علاقتهم بعبد الناصر.
وهى ذات المرحلة التى اقتصدت فيها أم كلثوم فى الغناء لشخص الرئيس ونظامه، وعادت إلى منطق الأغانى الوطنية المجردة، التى كانت تقدمها فى مراحل الضباب السياسي، وبرغم ذلك لم يقل حضورها الإنسانى والفنى فى دولة عبد الناصر، بل زاد وتعمق بعد جولاتها الرسمية فى البلاد العربية وباريس، وهى الجولات التى منحت على أساسها الصلاحيات اللازمة لتجول فى المنطقة العربية والعالم بجواز سفر دبلوماسى لم يمنح لغيرها، وبرغم المعنى العظيم الذى أرادته السيدة الكبيرة من تلك الجولات، فإنها كانت مخرجًا مشرفًا من كافة سهام النقد اليسارى واليمينى التى أطلقت عليها بعد وقائع النكسة المروعة، فتوارى تدريجيًا ما كانت توصف به بأنها سبب للهزيمة، ومدخل لتغييب الشعوب فى دوامات الطرب وفقدان الواقع، لتصبح رحلاتها العربية بمثابة مخرجًا فنى لها من تلك الزاوية القاسية، وتجاوبًا مع مسار التحدى الذى سلكته الدولة الناصرية بعد الهزيمة المروعة.
عصر الاضطراب
يكفى ملاحظة اضطراب حياة أم كلثوم الفنية والشخصية، بعد وفاة عبد الناصر فى سبتمبر 1970، وبقاء سيرته حاضرةً فى حواراتها الصحفية وفى مجالسها الخاصة، فبعد حوادث ما عرف بثورة التصحيح فى مايو 1971، لم تسع أم كلثوم إلى النظام الجديد ولا إلى رجاله، بل سرت فى الأوساط الفاعلة شائعات عن خلافاتها مع نظام السادات وتعطيل مشروعها الخيري، وانسحبت أم كلثوم تدريجًيا من الساحة الفنية بعد زيادة حدة مرضها وفشلها فى تدشين دار أم كلثوم للخير، ورغم ذلك الصراع الذى تدعم تأريخيته الأحداث فى حياتها بعد عام 1970، لم تفوت أم كلثوم مناسبة لذكرى الزعيم السابق إلا وجاءت على ذكره، فكتبت مقالها الشهير عن عبد الناصر تحية إلى شخصه وعهده فى أكتوبر 1971، وهى الفترة ذاتها التى أطلقت فيها الأقلام الصحفية حملاتها الممنهجة للنيل من عبد الناصر وزمنه.
وفى ذكراه الثانية أجرت أم كثوم حوارًا مع جريدة «القوات المسلحة» الصادرة يوم 28 سبتمبر 1972، تحدثت فيه عن القائد والمعلم الغائب، الذى ترك داخلها ما لم يتركه غيره، ويذكر الكاتب السناوى فى كتابه «أخيل جريحًا» على لسان خالد جمال عبد الناصر، أن أم كلثوم لم تتغير مع الذين تغيروا، بل ظلت على ولائها القديم لبيت عبد الناصر، ولم تنقطع زياراتها إليهم حتى مع اشتداد الحملة الضارية على الزمن ورجالها، ولم تبال باحتسابها على الزمن الماضي، وهو ما يدعم فرضية تلك النزعة الناصرية، التى شكلت ملامح أم كلثوم الفنية عن قناعة وإيمان فى النصف الثانى من الخمسينيات وطوال عقد الستينيات، وليس كما يشاع مجاراةً لعهد أو نظام، وهو ما تؤكده أيضًا كل السرديات الناصرية التى كتبت شهادتها عن ذلك العصر، وأتت على ذكر من تلون وغير جلده بعد موت عبد الناصر، وتغير نخبته الحاكمة بعد تصحيح السادات السياسي، وغلق مصر تلك الصفحة نهائيًا.
برغم مرور كل تلك السنوات على غياب أم كلثوم وعبد الناصر، بقت تلك الجدلية قائمة، وبقى السؤال مطروحًا على طاولة التاريخ حول علاقة الفن والسياسية، أو ما يمكن اختصاره بتعريفى ـ«فن السلطة» فى مواجهة «سلطة الفن»، وهى معانِ ومفاهيم ضرورية فى فهم تلك العلاقة الملتبسة بين أم كلثوم وجمال عبد الناصر، بالإضافة إلى فهم تطور غناء أم كلثوم طوال سنوات الأربعينيات والتغيرات الحادة التى شهدتها مصر فى المرحلة الأخيرة من العهد الملكي، وما عاشه المجتمع المصرى من أحلام ورؤى فى سنوات المد الناصري، فلا يمكن القول إن إنسانة فى حجم أم كلثوم كانت تعش فى معزل عما يجرى حولها، ولا يعقل أن يرسخ فى الأذهان أن فنانة كبيرة كانت تستخدم من قبل السلطة أو توجه ويقال لها ما تغنيه، فكل ما غنته أم كلثوم من أغان وطنية (بعضه يحمل قيمة حقيقية، وبعضه لم يصمد ويبقى) كان نابعًا منها، سواءً كان عن حبٍ فى الزعيم الذى آمنت به، أم ربما ليكون صوتها حاضرًا فى كل مناسبة وطنية، شأنها شأن باقى مطربى عصرها.
كل تلك النقاط والعوامل أغفلها معظم من تناولوا تلك العلاقة بالتحليل والنقد، بل إن بعضهم اعتاد تكريس تلك الصورة المشوهة عن أم كلثوم، باعتبارها بوق كل نظام وكل عهد سياسي، وهو ما لا تؤكده الوقائع التاريخية، بل أحيانًا تنفيه، وربما الدليل الوحيد على ذلك هو بقاء أم كلثوم على عرش الأغنية العربية إلى اليوم، فى زمن لم تبق فيه ناصرية فاعلة، ولا قومية عربية بمعناها الكلاسيكى القديم، فحتى عندما غابت كل العوامل التى مُنحت لأم كلثوم فى زمنها، بقت أم كلثوم هى الصوت العربى الأكثر تأثيرًا وحضورًا إلى يومنا هذا، وبقى صوتها يحمل الحلم والطرب ويعبر بكثافة عن زمن فنى بعيد غاب عنا، ولم يبق منه إلا أوجه الفن والأدب والجمال، وعلى رأس كل هؤلاء صوت ووجه أم كلثوم.