الله يا ست. الله يا س ااااات.
صوت عظيم، مباغت، ينبعث من الغرفة المفتوحة في الردهة المربعة، يشق الصمت والظلام المخيف، يصل إلينا؛ حيث كنا نتحلق حول «طبلية» نستذكر الدروس، في النصف الثاني من الستينيات تقريبًا.
قفزنا دون وعي، بعضنا ارتطم بحائط، وبعضنا انكفأ على الطبلية، فسقطت لمبة الجاز نمرة عشرة، انطفأت، وعم الظلام الدامس.
رحنا نصرخ ونبكي، استيقظ كل من في البيت، السيدة وابنتاها وابنها الصغير كانوا نائمين في غرف تقع آخر البيت الريفي المنظم، بينما صاحب «الست»، ينام وحيدًا ليلة الخميس الأول في الغرفة المطلة على الصالة.
يرقد على سرير ذي أعمدة نحاسية عالية، تغطيه ناموسية بيضاء من كل الجوانب، يغرق في الظلام، نحسبه نائمًا، نتصرف بحرية، يحمحم كحصان جريح، فنلوذ بالصمت المطبق.
يحتضن راديو ترانزستور صغيرًا، أحضره قريب له، عاد من حرب اليمن الذي ذهب إليه مقاتلًا، وعاد ناجيًا من المهلكة، نحاول أن نتسمع، لا يصل إلينا أي صوت، يصغي في جلال وصمت لذلك المخلوق الأحمر الصغير، يضعه على أذنه مخفيًا تحت عمامته الراقية، يمنعنا من الكلام، يطالبنا قبل أن يبدأ طقوسه باستذكار الدروس في صمت.
أعيننا تنوب عن ألسنتنا، فكرنا ألا نذهب إلى بيت صاحبنا يوم الخميس الأول من كل شهر، نسأل بعضنا ما الذي يفعله والد زميلنا الذي يستضيفنا في البيت؟
لا استذكار ولا يحزنون، الحقيقة أننا نهرب من بيوتنا بذريعة الاستذكار، بينما كنا في الواقع «شلة» أصحاب، نحاول تكوين فريق كرة قدم، ونذهب إلى بيت صاحبنا باعتباره أجمل من بيوتنا، ففيه فرندة، وردهة طويلة، وحجرات وسيعة نمرح فيها، وتلك ينام فيها والده ليلة الخميس الأول من كل شهر، يمارس فيها أعمالًا لا نعرف ما هي، حتى جاءت الليلة الموعودة التي صرخ فيها من أعماقه: الله الله يا س اااات... وجرى ما جرى.
لعنت سيدة البيت ليلة الخميس، وصرخت في النائم تحت الناموسية، لكنه غارق في ملكوت الست، عرفنا منها أن الراديو الترانزستور الملعون كاد يخرب بيتها، الرجل الذي يشبه رواية تراجيدية يمنعها وأولادها من الكلام في تلك الليلة، فالست أم كلثوم تغني في حفلتها الشهرية، ولا أحد يقترب في تلك اللحظات.
الرجل مجذوب عاشق، سيرته تستحق أن تروى، ورث عشق أم كلثوم عن أبيه الثري الذي يملك أكثر من مائة فدان، ورث منها المجذوب وحده خمسين فدانًا وبيتًا محاطًا بسور من الحجر، أبوه كان يصحبه صغيرًا إلى «مصر»، يطاردان معًا حفلات أم كلثوم.
رحل الأب وترك له العشق الدفين، وجد نفسه يحتفل وحيدًا بذكرى أبيه، يشترى تذكرتين ويدخل إلى حفلات أم كلثوم داخل وخارج مصر، حتى توفيت عام 1975، فأقام لها مأتمًا كبيرًا، وتلقى فيه العزاء.
كان يحدثنا عن “القرار” و”الجواب” وعن صوت أم كلثوم النسائي النادر، وعن موسيقى السنباطي، وعبدالوهاب، وبليغ حمدي، لم نكن نفهم شيئًا.
حين كبرنا قليلًا، توزعنا بين أم كلثوم وعبدالحليم وفريد الأطرش، وتعصبنا لهذا أو ذاك، لكن صاحب الراديو ترك علامته لدينا، وأدركنا أن ثقافته الرفيعة قادته إلى جسر أم كلثوم، وقادتنا أيضًا.
فريدًا كان، جلبابه المهندم المكوي، شاله الأنيق، حذاؤه اللامع، معرفته باللغة الإنجليزية، صوته الهادئ على عكس أبناء القرى، ثقافته الواسعة، كل هذا جعل حكاياته تبدأ وتنتهي عند أم كلثوم.
بعد رحيله بسنوات عشر، وجد نفسه في العراق، صار فقيرًا ويحتاج إلى العمل، ذهب يجرب حظه في بغداد يا لحظه التعس، فقد مر في شارع الرشيد، لمح مقهى يدعى “أم كلثوم” مزينًا بصور الست، عرف أنه لا يذيع إلا أغانيها، دخل المقهى ولم يخرج، تعرف إلى صاحبه، صار مقيمًا فيه، ولم يعد إلا خبرًا، قيل إنه مات وهو جالس على الأريكة يستمع إلى أغنية: «حيرت قلبي معاك، وأنا بداري واخبي».