Close ad

امتلكت ثومة المكانة فسيطرت على المكان.. "أم كلثوم" المعجزة مستمرة

8-1-2025 | 00:01
امتلكت ثومة المكانة فسيطرت على المكان  أم كلثوم  المعجزة مستمرةأم كلثوم
سيد محمود
الأهرام العربي نقلاً عن

قبل أن أكلف بالإعداد لهذا العدد التذكارى، وقعت فى يدى رسالة قديمة كتبتها سيدة لزوجها، تعود إلى يناير 1959، تحدثه فيها عن أغنية (جددت حبك ليه) لأم كلثوم، وما تركته فيها من أثر،  فسألت نفسى: ما الذى جعل لمطربة مثل أم كلثوم، كل هذا الحضور فى الذاكرة اليومية؟ وكيف تركت  فى حياتنا الأثر، الذى مد ظله فوق مائة عام بالتمام والكمال؟  تمثل رحلتنا مع الحداثة ومع الأمل فى آن واحد.

موضوعات مقترحة

هل لأنها شكلت فى الوعى الجمعى صورة الحب، كما نعرفها الآن، أم لأنها جسدت فكرة الوطن، قبل أن تصبح الفكرة  ذاتها مشروعا سياسيا يحتاج إلى أكثر من وسيلة لتعزيزه.

الشاهد أن مائة سنة حفلت بالعديد من التحولات، لكنها ويا للعجب لم تغير من مكانتها أبدا، ولم تحذف صوتها من جدول أعمالنا اليومى، فظل راسخا ومميزا وجميلا، له وحده حق السيادة على القلوب، وعلى الأصوات التى تتصارع حولنا وفى وجداننا باحثة عن مكان.

امتلكت ثومة المكانة، فسيطرت على المكان، إلى حد أنها أصبحت تماثل فى تجلياتها، ما ينسب إلى أولياء الله الصالحين من كرامات.

أستطيع القول، بإيمان تام إن لصوتها كراماته التى يدركها كل من استدل عليها فى روحه.

أتجول فى شوارع القاهرة كثيرا، فأجد صوتها يحرس ليلنا، يتحرك راسخا فى الزمن، عبر امتداد  لا مرئى يصعب تجسيده، لكنه موجود وفاعل صانع لـ(ونس)، يعيد للمدينة حنانها القديم، يستدعى معه الأزمنة والوجوه.

 يحدث أحيانا أن يأتى إلى من راديو الجيران، أو من سيارة عابرة، ويحدث أن ينقلنى معه فى سيارة تاكسى آخر الليل، فأسال السائق: هل تستطيع أن تتصور القاهرة بدون أم كلثوم؟ أتلقى فى كل مرة إجابات متقاربة وكلها تنتهى بالحديث عن (بركة) الست.

وإذا قال أحدنا «الله يرحمها «يرد الثانى «دى لسه عايشة»
هكذا  لا يعتقد أحد فى موت صوت أم كلثوم.
■ ■ ■
ذات مساء صعدت إلى تاكسى، يقوده سائق عجوز، فجاءتنى مكالمة فطلبت منه أن يخفض صوت الكاسيت فرفض لأن من تغنى هى أم كلثوم ثم أعطانى درسا حول دورها فى حياته، وكيف أن زوجته المرحومة كانت تكلمه بأغنياتها، إذا رضيت عنه أدارت  تسجيلا لأغنية ( أنت عمرى ) وإذا أهملها شغلت ( ودارت الأيام )، وإذا رضيت عنه اختارت (أقول لك إيه عن الشوق يا حبيبى). 

أنهيت مكالمتى ثم شاركته الحديث عنها، فاطمأن لى ورفض أن يحصل على أجرته لأنه (اتونس معايا)، فدعوته إلى مقهى قريب، ومن يومها لا ينقطع التواصل بيننا.

شواهد كثيرة تقول إن ألفة كبيرة ظلت مقترنة بهذا الصوت، أدخلته إلى تاريخ الوجدان، وتحول معها إلى ما يشبه الغطاء الآمن، الذى يدثر جميع المؤمنين بالمعجزة المصرية الخالصة، إلى حد أن البعض لا يتحدث عنها كمطربة كلاسيكية لها طابع الأيقونة محل إجماع، وإنما هى سيرة صعود فى اتجاه الكمال، أقرب إلى سيرة شعبية متجددة، وقصة إلهام للملايين تستحق دائما أن تروى.

وربما تكون سيرة محمد صلاح مع النجاح، نسخاً وتكرار لهذا النموذج لكن فى إطار معاصر، يرتبط بقوانين المجال الذى يؤدى فيه، لكن على الرغم من الاختلاف بين النموذجين تظل المقارنة مغرية، ربما لأن فكرة الصعود تحتاج إلى عزيمة وإلى خطة عمل، لأنها فى الأصل رحلة إلى الأمل، ومن ثم تمثل حدا فاصلا بين لحظتين فى تاريخ الفرد، أو فى تاريخ أمته.

فى كتابها الخلاق حول أم كلثوم، اختارت الباحثة  فرجينيا دانيلسون، عنوان (صوت مصر) وهو عنوان لا يرتبط بالمجاز، أو البلاغة المعتادة لكنه إشارة عميقة إلى مكانة كبيرة احتلتها (الست)، التى استحالت صوتا لوطن . 
■ ■ ■
يواكب هذا العدد الخاص انطلاقة عام جديد، كما يتزامن مع حدثين مهمين فى ذاكرة الوجدان العام، فهو يأتى قبل شهر كامل من إحياء الذكرى الـ 50 لرحيل أم كلثوم، كما يختتم مائة عام بعد أول حفل أقامته فى القاهرة، بعد أن اتخذت قرارها بالبقاء، وخوض غمار تجربة إثبات الذات، وهذه التجربة ليست بعيدة عن تجربة خاضتها مصر، فى توقيت متزامن لإثبات ذاتها فى أعقاب ثورة 1919،  أملا فى تأكيد استقلالها الوطنى وبلورة رحلتها مع الوطنية المصرية بمعناها الجديد، الذى خلقته تلك الثورة مواكبة لمعنى المواطنة الذى أوجدته الحداثة.

المؤكد أن أى جهد لتفكيك النص الكلثومى، يصعب معه تفادى ارتباط سيرة الصوت بسيرة  الوطن الذى أنجبها، فعلى الصعيدالاجتماعى غيرت أم كلثوم من معيارية المجتمع وتقاليده، فى التعاطى مع عمل النساء فى الفن، فأصبح من الواجب النظر إلى دورها، كما ينظر إلى رائدات العمل النسائى. 

ومن جهة الفن خلصت (ثومة)، الغناء العربى كاملا من حقبة كاملة غلب فيها الإسفاف الذى كان قد بلغها بعد الحرب العالمية الأولى، وارتقت به لمرحلة مختلفة تماما، حافظت فيها على ارتباطها بالتقاليد التى جاءت منها، لكنها تولت مسئولية تنظيم حفلاتها التجارية من غير الحاجة إلى «متعهد أو وسيط»،  من الرجال، كما أنها  استخدمت وسائل الاتصال الجماهيرى لترسيخ نجوميتها، بداية من عملها المبكر  فى إعلانات لترويج منتجات تجارية،  أو مع اختيارها بث حفلة الخميس فى الأول من كل شهر على الهواء مباشرة من الإذاعة الرسمية، فأصبحت داخل النسيج وجرى تعميمها كورشة  للأمل.

أثبتت تلك الممارسات جدارتها عبر الزمن، وتحولت ليلة  الخميس فى الوجدان العام إلى (ليلة أم كلثوم).
■ ■ ■
بدأت الظاهرة الكلثومية، وازدهرت فى مصر الملكية، فإنها لم تكتمل إلا بعد ثورة 1952، مثلها فى ذلك مثل جامعة الدول العربية، التى ولدت سياسيا أيضا فى مصر الملكية فى العام 1945، لكن أم كلثوم جعلت منها واقعا إنسانيا قبل ذلك بكثير، حين كان العرب يجتمعون على محبة صوتها، منذ أن بدأت جولاتها فى فلسطين، وبغداد وبلاد الشام، كوسيلة للحصول على اعتراف « قومى» بموهبتها.

أعطت مصر السياسية لفكرة العروبة، عنوانا أكبر فتحولت لبلد قائد أصبحت أم كلثوم بصورتها الرمزية هى (صوت العرب).  

وكما يقول الراحل كمال النجمى، فقد أدرك جمال عبد الناصر بتكوينه السياسى  الدلالة الرمزية للالتفاف العربى، حول صوت أم كلثوم وكيف أخذ شكلا قوميا، وبالتالى كان عليه الحفاظ على هذا الشكل الذى أخذ أبهى صورة، فى التفاف الجماهير حول الراديو ليلة الخميس الأول من كل شهر.

أجمع العرب على محبة صوتها، فردت التحية بأحسن منها، ولم تترك بلدا عربيا دعيت إليه، إلا واستجابت للدعوة، واعية بالدور والرسالة والمسئولية، وبالتالى فهى أيضا من عزز مفهوم (القوى الناعمة)، الذى نتوسع اليوم فى استعماله، دون أن نعى دورها فى ابتكاره.

ولم تكن حفلاتها لأجل المجهود الحربى، بعد هزيمة 1967، أو حفلتها الشهيرة فى باريس، أو زيارتها لموسكو وواشنطن، سوى ممارسة نشطة لقوة تأثيرها فى المجال الحيوى لمصر .

ولذلك فهمت الدولة قيمة ذلك الدور، فمنحتها جواز سفر دبلوماسياً وجائزة الدولة التقديرية، بعد أن ظلت على قوائم الترشح لثمانى سنوات، قام فيها المفكر حسين فوزى، مقرر لجنة الموسيقى، منحها الجائزة لأنه اعتبرها مؤدية، وليست «مؤلفة مبدعة»، لكن عبد الناصر تدخل شخصيا لدى توفيق الحكيم، الأمين العام للمجلس الأعلى للفنون والآداب آنذاك، مبديا أسفه عما سمعه بشأن «الموقف من أم كلثوم، «التى  منحت الجائزة بعد ذلك، لأنها «قدمت إلى الدولة فى جميع المناسبات القومية صورة من تفاعل الفن، وتجاوبه مع الأحداث الكبيرة، وأشاعت التذوق الجمالى عن طريق اللحن والنغم وبصوتها الفريد، وأضافت إلى التاريخ الفنى، مدرسة تعتمد على صفات لها قيمة استمرار التراث بعيدة عن التجمد).        

انظر معى اليوم إلى ما يجرى فى عالمنا العربى، من صراعات وانقسامات تجعل الأمن العربى، مهددا ومن النظام الإقليمى العربى، فكرة تنتمى إلى الماضى، لكن ما يطرحه المشروع الكلثومى، يشير إلى أن الفرص لا تزال متاحة برغم فداحة ما يجرى، فقد أردنا من خلال استدعاء هذه الأيقونة، التأكيد على همتها فى امتلاك زمام المبادرة، فهى من تخطت أثر الهزيمة فكانت حفلات المجهود الحربى أداة دعم ومساندة، ووسيلة شعبية لتحقيق التضامن وتخطى صور الانقسام .

إن هذا العدد دليل جديد، على أن الحل فى عروبة ثقافية، لها شروط وأهداف فاعلة على الأرض.
■ ■ ■
لا نحتاج فى هذا العدد إلى تكرار سيرتها، لأن السيرة راسخة فى القلوب، يمكن أن تعرفها من كتب نعمات أحمد فؤاد، أو من محمود عوض، أو فيكتور، وإلياس سحاب، وفرجينيا دانيلسون. 

ومن ثم، فإن ما نرغب فى تحقيقه هو معنى الاحتفال وتأمل ما فى السيرة من دلالات، يمكن القول إنها حية، وناطقة، لأننا  نؤمن بـ(فتنة السؤال) وقيمة المراجعة، وربط السياقات، ليصبح التاريخ ضفيرة متعددة المصادر والخطوط.

نتوقف أمام محطات مختارة، نقرأها خارج إطار الانبهار، دون التخلى عن قيمة التفرد ومعنى الاستثناء، آملين فى شمول الرؤية والوعى بالتاريخ، فكل بطل  هو ابن سياق، والمعجزة تتمثل  فى قدرة التعبير عن هذا السياق ثم التمرد عليه  ومغالبته.
■ ■ ■
نعرف جميعا أن (سيرة الحب)، أغنية كتبها مأمون الشناوى، ولحنها بليغ حمدى، لأم كلثوم، لكن ما يظهره هذا العدد، أن هذا العنوان هو تلخيص دال لمشوارها الطويل مع النجاح، استنادا إلى معنى الحب بغرض تأكيده والارتقاء به منذ أن قدمت أغنيتها «إن كنت أسامح»، سنة  1926،  وحتى توقف صوتها مع أغنية ( حكم علينا الهوى) عام 1974 .

وعبر هذا المشوار، أظهرت أم كلثوم خصائصها الأسلوبية، بعد أن تجاوزت  مرحلة الإنشاد الدينى، ودخلت إلى السوق الغنائية، وتمكنت من تطوير الأداء، وأظهرت استعارات وآهات وإيماءات جبارة والأهم أنها استفادت من جميع المواهب الكبرى، التى واكبت صعودها، سواء كانوا شعراء أم ملحنين، أم صانعى محتوى إعلامى، ووقفت فى المسافة بين السلطة والناس.

وكما يقول محمود عوض، فى كتاب عنها (قامت أم كلثوم بعملية تأميم لعاطفة الحب وأصبح ملكية عامة، حبا للجميع)، صنعت  أغنياتها من داخل النسيج الشرقى، لكنها  لم  تقبل بهوية موسيقية مغلقة، وفضلت الالتحاق بتيارات التجديد، تركت أحمد صبرى النجريدى، من أجل محمد القصبجى، وتركت القصبجى لأجل زكريا أحمد، والسنباطى، ثم ساندت محمد الموجى، وبليغ حمدى وكمال الطويل، ونافست محمد عبد الوهاب، لكنها هيأت نفسها للعمل، وتركت أبوابها مفتوحة.

هيأت جمهورها دائما لمراحل جديدة، وابتكرت وصفتها الخاصة، وتحولت إلى  أيقونة، مغنية شعبية ليس بالمعنى الذى يجعلها تغنى الفلكور، وإنما لأنها أصبحت صوتاً جماهيرياً عابر لجميع الطبقات، أجرت هذه السيدة الخلاقة، ما يمكن وصفه بـ(الوصل والانقطاع)،  ثم القفز إلى الدرجة الأعلى من النجومية والتحقق.

فهى تبذل أقصى ما تستطيع عند كل مرحلة، ولما  تصل لآخرها تغلقها مثل سر غامض، وتمضى إلى  فعل جديد، وهذا درس آخر فى معنى التجديد يمكن فهمه فى ظل الوسائط الجديدة بطريقة أخرى، لأن الكثير من الفرق الموسيقية والكثير من المغنيين والمغنيات، يبذلون الجهد الأكبر لاستعادة أغانيها بمختلف الأشكال، والصور صوتها (ابن أيامنا).

يختصرون المقدمات الموسيقية الطويلة، ويصنعون توليفات جديدة (ريماكس)، أو تركيبات تقوم على مزج واستعارات، كأنهم قرأوا دعوة أطلقها الناقد على الراعى، فى سلسلة مقالات كتبها دعا فيها إلى فعل كل ذلك لكى تبقى (ثومة).

وها هى تقاوم الزمن، مثل ساحرة تأتى من زمن آخر لتضمن استمرار الحكاية، بحيث لا يستطيع الزمن أن يوقف حضورها أبدا .

تتزايد  الحاجة إلى صوتها
فهى لا تزال شريكة أحلامنا  
 تؤدى أدوارا ليست لغيرها ، تخضع المستمعين لسحر دائم كأنها آتية من  مجهول 
وذات أثر لا يزول.
 

لا يعتمد التأثير العاطفى لأم كلثوم، على نصوص أغانيها، أو ألحانها فقط، لكن التأثير الأهم  والأكبر مرتبط بسمة أدائية مبهرة، وعلى الرغم من أن هذا التأثير  يوصف أحيانا بأنه تأثير تخديرى، فإن هذا الوصف  ليس دقيقا، لأنه يتجاهل علاقتها الفريدة بالجمهور، لذلك أحب مشاهدة حفلاتها، وأتأمل ردود الفعل وأنظر فى الأثر الذى يتركه الصوت.

وبرغم أن جمهور حفلاتها اختلف بعد ثورة يوليو 1952، عن جمهورها، لكنه صار  أكثر تنوعا وقدرة على التعبير الصحيح عن المجتمع المصرى فى نسخته، التى كانت جديدة  تحت شعار «تحالف قوى الشعب العامل». 

صور لا يمكن اعتبارها كاريكاتيرية على الإطلاق، لكن الانفعالات بقيت تقاوم تعدد الخلفيات الاجتماعية، وصور الانقسام الطبقى. 

وهكذا فإن «ثومة»، تصبح هى المكون الجامع لوجدان هؤلاء، ولذلك فهى مغنية شعبية بمعنى قدرتها على تمثيل جميع الطبقات على نحو متكافئ.

ولأن الأثر يتكرر، فإن المعجزة مستمرة.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة