سمعت بأسامة عفيفي وأنا طالب في كلية الإعلام بجامعة القاهرة، كنت قد نشرت قصصا قصيرة في مجلتي «أدب ونقد» و«إبداع». كلتاهما، آنذاك، تمنح الكاتب الجديد اعترافا، شهادة ميلاد مصدّقة، تيسّر المسالك إلى منابر أخرى نشرتُ فيها أيضا. ورأيت أن أطرق باب «الموقف العربي»،المجلة السياسية الأسبوعية، التي يشرف على القسم الأدبي فيها الشاعر أسامة عفيفي. أعطيته قصة قصيرة لا أحتفظ بنسخة منها. ولم تنشر. المجلة أُغلقت.
موضوعات مقترحة
كان أسامة عفيفي (22 أبريل 1954 ـ 16 يوليو 2017) مثقفا موسوعيا، صاحب مشاريع ومبادرات متجددة. يشرف على قسم ثقافي في صحيفة، ثم يترأس تحرير مجلة، فإذا تعثرت يبدأ مشروعا جديدا. وفي الزحام والانشغالات يذكر أن لي في ذمته قصة قصيرة، بدلا من تلك التي تسلمها قبل أن أتخرّج. يقول إنني الوحيد سيء الحظ معه. كم نشر نصوصا لا يعرف كتّابها، واحتفل بأعمال لا تربطه بمبدعيها علاقة. وفي عام 2001 قال: «آن الأوان، المجلة عائدة. لا بدّ أن أنشر لك قصة». لا قصص لديّ. ولا أعرف كيف، ولا متى، أكتب الجملة الأولى في رواية «باب السفينة»، وقد شغلتني طويلا، ولا تمنحني مدخلا إليها. اعتذرت إليه، فأصرّ على ضرورة أن تصحح مجلة «الموقف العربي» خطأ قديما ليست مسؤولة عنه.
أقدمت على تجربة غير مسبوقة ولا ملحوقة. كانت الرواية تلحّ عليّ، وأتهرب منها. تناوشني وتطاردني في تهويمات وأحلام وكوابيس، عبر مشاهد وتخطيطات زئبقية لن تستقر إلا بكتابة أولى لا تعدم أسبابا لتأجيلها. وفي أقل من ألف كلمة، كتبتُ مشهدا عنوانه «مجنون»، أشعر أن له مكانا في الرواية، ولا أستطيع تحديد موضعه. يمكن قراءة «مجنون»، باستقلال تام، كقصة قصيرة نشرت في 12 يونيو 2001، مع إشارة من أربع كلمات: فصل من رواية «الحواريّون». كان ذلك عنوانا مبدئيا لرواية «باب السفينة».
أسامة عفيفي مع الشاعر مجدي نجيب
بعد شهور، رأيت محفوظ عبد الرحمن في برنامج تلفزيوني يقول إن من لديه مشروعا عليه أن يتفرغ لإنجازه، بشجاعة ومن دون تردد، وألا يتلكأ فتريحه أسباب التسويف وهي كثيرة. قررت الشروع جادّاً، خشية أن تتسرب مني الرواية. أخذت إجازة أسبوعين لا أغادر شقة المنيرة الغربية / البصراوي في حي إمبابة، لكي أجد مدخلا إلى الفصل الأول. وسيأتي الفصل الثاني بالضرورة. بجواري مشهد «مجنون»، والكتابة تتوالى. لست قلقا، سيأتي فراغ على مقاس المشهد المنشور بالضبط فيشغله. هكذا استقر «مجنون» في الفصل قبل الأخير. وفي خريف 2002 قابلت محفوظ عبد الرحمن في اتحاد الكتاب، وأهديته نسخة من «باب السفينة». قلت له: «أنا مدين لك بكتابتها، بعد تأثري بكلامك». ضحك وقال: «ليتني أعمل بهذه النصيحة!». حكيت الحكاية لأسامة عفيفي، وأنا أهديه نسخة، فأعاد القول: «المهم أني تبرأت من ذنبك. الآن أستطيع أن أقسم أنني نشرت كل النصوص الجيدة التي وصلتني».
لم يكن بحاجة إلى القسم، ولا إلى شهادتي، فكل جيل يصطفى أفرادا قلائل، وربما فردا، ضميرا حيّاً، يغمر زملاءه بفوائض محبته وكرمه، ويهبهم حياته، فيدعم تجاربهم، ويحتفي بإنجازهم باعتبارها تخصه، حتى لو نسي نفسه. وقد طال نسيان أسامة لنفسه. في العراق قابل صلاح، صديق الصبا، وقد صار سائقا. قال له صلاح: «أنا ابن الجيزة، ونفسي عزيزة، وحظي قليل». شعار أعجب أسامة؛ وحلا له أن يردده. وبعد وفاته يوم الأحد، 16 يوليو 2017، تبيّن أن حظه عظيم. عثرتُ في أوراقه على ديوان «سداسية الرمل والملح»، كاملا بعنوانه وترتيبه، مكتوبا بخطه الجميل، وتنتهي قصائده بإثبات تاريخ كتابتها في نحو ثلاثة أسابيع، في مايو 1992، بين مدينتيْ جدة والقاهرة.صدر ديوان «سداسية الرمل والملح» عام 2021. وسبقه ديوان «أشياء تُرى.. وأشياء لا تُرى» (2019)، وتلاه ديوان «دفتر الشذرات» (2021).
أسامة عفيفي يتحدث عن معرض فرحة للتشكيلية سماء يحيى بحضور الشاعر جمال القصاص
إنتاج شعري غزير، أسامة نفسه كان سيفاجأ به. وقد راهن على نسغ الحياة بالشعر. عاش الحياة قصيدة والقصيدة حياة، ولم يهمه هذا الترتيب، ولم يستهدف إلا الاتساق مع ذاته، بألا تتخلى القصيدة المكتوبة عن جماليات الشعر، وألا تكون المواقف والرهانات والخيارات والانحيازات أقلّ شرفا وإبداعا من قصيدة.
ربما لهذا السبب فضّل الحياة على «الشعر» بصيغته التقليدية التي يخلو فيها الشاعر لكتابة قصيدة. وعلى سبيل الدعابة، عرّف نفسه في صفحته على الفيسبوك «صحفي... وشاعر أحيانا»، ويتأكد لي أنه شاعر دائما، ومفهومه للشعر أكثر اتساعا من نشر قصيدة هنا، وديوان هناك، فأسامة عفيفي يرى الشعر في كل شيء: صبي القهوة الذي لا يتحكم في فضوله؛ فيسأله عما يجذبه في قراءة الصحف. مشهد هامشي عابر ينبض بالدراما. موقف يجب اتخاذه في الوقت الصحيح إزاء قضية مصيرية. شغف بمعرفة يسعى إلى التثبت منها وتحقيقها. حكايات شفاهية لم يكفّ عن روايتها، وهو من الحكائين الآسرين.
ما تجنّب حكايته أن كثرة الانشغالات والانكسارات والهموم تمكّنت منه، وصرفته عن التفكير في جمع قصائد منشورة يضمها ديوان، أو تنسيق دراسات نشرها في صحف ومجلات ومؤتمرات لكي تنشر في كتاب. وكنت، مبكرا، قد انتبهتُ إلى «حالة أسامة»، وكتبت مقالا عنوانه «أسامة عفيفي» في مجلة «سطور» القاهرية، عدد أكتوبر 2000:
«في حياتك تعبر الكثيرين من الأصدقاء، ويعبرونك. وتتوقف أمام بعض من تظنهم أصدقاء، إلى أن تتاج فرصة سفر، للتعرف إلى الإنسان، بعيدا عن المجاملات المحسوبة، والعواطف المجانية. في مثل هذه الحالة فقط يمكن أن تكتشف أسامة عفيفي، أو تعيد اكتشافه.
في مرسى مطروح، وعلى هامش مؤتمر الأدباء الأخير (الدورة الخامسة عشرة بعنوان «قضايا العمل الثقافي في أقاليم مصر»، في سبتمبر 2000، برئاسة بهاء طاهر)، بل في متن المؤتمر، جذب أسامة الانتباه ببحثه الجاد«الحياة الثقافية في أقاليم مصر في الصحافة اليومية والأسبوعية»، عن الصحافة الأدبية التي تؤكد أننا، بعد مئة عام، لم نتقدم إلى الأمام خطوة واحدة.
في كل الأماكن كان أسامة يتحدث: في القهوة، وفي المطعم، وفي السيارة، وعلى هامش الجلسات، وفي الشارع، وهو يجيد الاستماع أيضا، تمهيدا لمواصلة الكلام عن قضية مثارة، كما يجيد إثارة قضية وبعثها من الموت، ويدفعك إلى متابعته، وهو يتحدث بصوت هامس، لكن الجدية ذات سحر خاص يعجز عن بلوغه الانفعال.
أسامة عفيفي يتحدث عن معرض فرحة للتشكيلية سماء يحيى بحضور الشاعر جمال القصاص
في حياة أسامة كثير من المشاريع المؤجلة: ديوان شعر، وكتاب عن آباء الفن التشكيلي، وكتاب عن الرواد المتاجرين بالفن، وآخر عن رموز في السياسة والاقتصاد والثقافة اكتسبت ـ بالتقادم ـ قدرا هائلا من اليقين، رغم زيفها، وتنتظر شجاعة نادرة لإعادة النظر، ووضعها في حجمها الطبيعي.. كارثة! ولديه مشروع لا يريد إتمامه ـ باختياره هذه المرة ـ عن تاريخ ما تجاهله المؤرخون المحترفون أو الهواة، وما لم تقله أروى صالح عن جيل الغضب المتاجرين بالنضال.
هناك وقائع مخزية، وتاريخ أسود من شعر رؤوس شابت، أو صارت بيضاء رغم السوء. وهناك كثيرون قدمهم إلى الحياة الثقافية من خلال جريدة «صوت العرب» ومجلة «الموقف العربي» يتحدّون ذاكرته وذاكرتنا!
في كل هذه المشاريع طموح كبير، وأمل في يوم يهدأ فيه اللسان، ويتحرك القلم، وهذا يحتاج إلى شجاعة يملكها أسامة عفيفي، وإلى وقت لا يتاح له، لأسباب متعددة، أولها عدم قدرة المثقف على أن يستقل اقتصاديا، بعيدا عن امتهان عمل يعيش منه، واضطراره تحت وطأة لقمة العيش إلى تأجيل مشاريعه، وهي الأبقى.
في جميع الأحوال، يجسد أسامة عفيفي الحالة المصرية بامتياز؛ دلّني على مشروع قومي اكتمل. كل شيء يبدأ بحماس شديد ثم يتوقف، أو يتحول إلى كلام جميل،مجرد كلام «عن» الموضوع، وليس «فيه».
هل أصارح هذا الصديق «الشاهد» بأنني أخشى أن يغنيه الكلام عن الكتابة، والمشاهدة عن الشهادة.. إذا كان تأجيل الأحلام أقسى من الاستشهاد، فأنا أريده شاهدا لا شهيدا».
انتهى مقالي المنشور عام 2000. فرح به أسامة عفيفي، وضحك وتحداني بأنه سيحبط قريبا نبوءتي،بكتاب أو ديوان أو كليهما. وظلت كلمة «قريبا» معادلا زمنيا لكلمة «بكرة»،ذلك الغد الذي لا يأتي أبدا، ففي كل شروق للشمس ميلاد جديد لغد قريب مستحيل. بعد ثورة 25 يناير 2011 بدأ مشروعا عن الشهداء، ووضع خطة كتاب لم يكتمل، وربما شغلته تطورات ومآلات تراجيدية، فاكتفى بقصائد عنوانها العام «من دفتر الشذرات».
أسامة عفيفي يتحدث عن معرض فرحة للتشكيلية سماء يحيى بحضور الشاعر جمال القصاص
هل صرفه عن إنهاء كتاب الشهداء جلالُ المشهد الأكثر صدقا مما التصق به من كذب؟ يجيب بشذرة «كذب»:
هل استشهد النبلاء
في ميدان التحرير
كي يكتب الشعراء الآفلون
قصائد آسنة جديدة
ويصدرون دواوين
بلاستيكيةً جديدة
ويصنعون لوجوههم المتشققة
أقنعة كاذبة جديدة؟؟
ربما خشي أن يحشر أحد حَـسَني النية اسمه مع زمرة المتربحين من ثمار ميدان التحرير، ولو بالتقاط صورة للتباهي.
في ديسمبر 2014، بحضور تشكيليين وأدباء ونقاد على هامش معرض «ساعة مغربية» للفنانة التشكيلية المصرية سماء يحيى، قرأ أسامة قصائد «من دفتر الشذرات». قال إنها من ديوان يصدر «قريبا».وعادت إليّ شكوك لا أعرف لها تفسيرا، فقلت له: لا أطمئن إلا بتسلّم القصائد منك، وتسليمها إلى ناشر، فيحدد موعدا لطبع الديوان. ضحك وقال: سأبْطل نبوءتك، بكرة تشوف الديوان. قلت: أتمنى.
وتعطل نشر الديوان لأسباب لا أعرفها.
وذات مساء صيفي، التقينا في قهوة في شارع الأهرام. للمرة الأولى أرى مخطوطة كتاب لأسامة. فرحت بانتهائه من كتاب «محمد رزق شاعر اللوحات النحاسية»، عن المثّال المصري محمد رزق (1937 ـ 2008). قال إن الفنان عزّ الدين نجيب طلب اختصاره:«أختصرُه الآن كما ترى، لأعيده بعد يومين». أجرى الاختصار، ولم يصدر الكتاب الذي انتقل مع الفنان عز الدين نجيب من المجلس الأعلى للثقافة، إلى الهيئة المصرية العامة للكتاب، وأدرج ضمن إصدارات سلسلة «ذاكرة الفنون». وفي أغسطس 2022 بذل الفنان عبادة الزهيري جهدا مشكورا في انتقاء صور أعمال محمد رزق، وإعدادها لتصاحب نص أسامة عفيفي. ثم أبلغني عز الدين نجيب، في سبتمبر 2022، استقالته من الإشراف على سلسلة «ذاكرة الفنون». وبعد فترة عدل عن الاستقالة، وطمأنني على صدور كتاب «محمد رزق شاعر اللوحات النحاسية». ولا تزال السلسلة متعطلة بعد وفاة عز الدين نجيب في 22 سبتمبر 2023.
في أول يوليو 2014، توليت رئاسة تحرير مجلة «الهلال»، وطلبتُ عملا للنشر في سلسلة «كتاب الهلال» الشهرية. استحسن الفكرة، وقال إن لديه مشروعا جاهزاعنوانه «أربعون اقتراحا للفن»، أنجزه تقريبا، وبقيت المقدمة وترتيب الفصول، عن أربعين عملا في التصوير الزيتي والجداري والحروفيات والنحت وغيرها، لأربعين فنانا، منذ نحت فنان مصري مجهول تمثال الرأس المهيب للملك خفرع صاحب الهرم الثاني، ويحتضنه في حنوّ صقر بجناحيه. ويلي هذا التمثال زمنياتمثال المهندس سننموت مصمم وباني معبد حتشبسوت بالأقصر وصاحب معظم تماثيل الملكة المهيبة. هذا التحفة النادرة من البازلت الأسود أول تمثال شخصي لفنان في التاريخ، «أول بورتريه سيلفي حجري»،ونحته سننموت لنفسه محتضنا ابنة حتشبسوت «نفرو رع»التي كان مسؤولا عن تعليمها.
أسامة عفيفي يتحدث عن معرض فرحة للتشكيلية سماء يحيى بحضور الشاعر جمال القصاص
رؤية أسامة عفيفي للفن أنه اقتراح آخر للعالم. بصيرة الفنان تلهمه صوغ عالم بديل، فيعيد تركيب علاقات الأشياء، في عمل فني يرى فيه ما لا يراه الآخرون. وينطلق الفنان من مفهوم التجاوز، فكل عمل فني أصيل مشروع للإضافة، اقتراح جديد يسهم به الفنان في مسار الفن.ولا أدرى أين تناثرت الفصول الأربعون لمشروع كتاب «أربعون اقتراحا للفن».
هناك مشاريع أخرى مكتملة أو توشك أن تكتمل، انتهى منها أسامة، وحدثنا عنها، ورأينا مخطوطاتها، منها دراسة عن موسيقى القرآن الكريم، ورواية عنوانها «فواطم»، المشترك بين بطلاتها هو اسم «فاطمة». بإلقاء حميم، قرأ أسامة علينا من «الفواطم» فصول تجربة إبداعية مختلفة، يبدو أن إتمام كتابتها أشبعه وأغناه.
لم يتخلّ أسامة عفيفي عن فضيلتيْ الاستغناء والعناد المميز لرعايا برج الثور، ولكنه أحيانا يقول لي «تثبت لي أن برج الجدي أصعب وأكثر عنادا من الثور». ومع العناد لا يحمل لأحد ضغينة، ويعتز بآبائه، وتحلو له رواية قصته مع الشاعرين محمود حسن إسماعيل (1910 ـ 1977) ونجيب سرور (1932 ـ 1978). الأول غنى قصائده كل من أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ وغيرهم، وكان يشرف على نشاط ثقافي في بيت ثقافي في الجيزة، لعله كرمة ابن هانئ. وحشد أسامة زملاءه في المدرسة، لتشجيع شاعرهم وهو يلقي قصيدة، للمرة الأولى، في محفل يقدمه صاحب قصيدة «دعاء الشرق»، وقد سمعوا عبد الوهاب يغنيها وقرأوها في المنهج الدراسي. ألقى أسامة ما ألقى، واشتعلت القاعة بتصفيق زملائه وصفيرهم، وبهدوء قال محمود حسن إسماعيل: «ما سمعناه لا هو شعر ولا هو نثر. والشاعر التالي هو....».
يستعيد أسامة تلك الذكرى ويترحم على محمود حسن إسماعيل، ويذكر أن نجيب سرور رمى مجلة من رصيف شارع طلعت حرب؛ فاصطدمت بالرصيف المقابل لمقهى ريش. استعادها أسامة؛ لأن له فيها قصيدة لم تعجب نجيب سرور الذي قال له في اليوم التالي: «القصيدة حلوة، ومن واجبي أعصُرك، لأختبر صلابتك. الشعر يحتاج إلى صلابة وجسارة، وصاحب الموهبة غير الأصيلة ينهار ولا يكمل». وسأله «أنا عازمك، تشرب ايه؟».
قراءة بعض من الأوراق الشخصية لأسامة وضعتني أمام جانب من ضعف شخصي أخفاه بالإفراط في إيثار أصدقائه، وخوض معارك ثقافية بشرف، وناله منها ومنهم ما ناله، من دون ادعاء بطولة أو إبداء امتنان، وكان يتفادى الإشارة، وإذا بادر أحدهم وذكّر أسامة بفضل ودعم في البدايات، تجاهل ذلك الفضل، وقال: «هذا حقك، وعلى من يتصدى للعمل العام أن يتمتع بالنزاهة، وألا يحتكم إلى هواه».
أسامة عفيفي يتحدث عن معرض فرحة للتشكيلية سماء يحيى بحضور الشاعر جمال القصاص
في ديوانه «أشياء تُرى.. وأشياء لا تُرى» قصيدة قصيرة عنوانها «أجنحة»، كتبها عام 2015، قد تلخص جانبا من شخصيته:
كعباس بن فرناس
المفتون بالطيران
كنت أصنع أجنحة
تُذيبها الشمس
فأسقط مرتطما
بقوانين الجاذبية العتيدة
وكابن فرناس دائما
كنت أنهضُ
لأصنع أجنحة جديدة.
تخرج في قسم الفسلفة بكلية الآداب في جامعة القاهرة 1976. وبعد تعرّضه لتجربة اعتقال، سافر عام 1979 إلى العراق الجاذب لمثقفين وفنانين مصريين من القوميين واليسار. في البداية، وبحماسة الشباب، ظن بغداد مهيأة لما ترفضه القاهرة، فنبهه محمود السعدني: «مصر مختلفة. ليس في عقيدة مصر وجهاز مخابراتها تصفية معارض في الخارج. تركنا مصر للسادات الذي لا يقارن بصدام حسين. إذا غضب السادات على معارض فصله من عمله أو نقله إلى الصعيد، ثم يعود بحكم قضائي. صدام يذيب معارضيه في الأسيد. في مصر اشتغل سياسة، وفي العراق اشتغل صحافة بمعايير مهنية»، فابتعد عن أي لغط سياسي وثقافي يتبع مؤسسات سياسية، وعمل في مجلة ثقافية تتبع وزارة الصحة.
لكنه لم يسلم، وظل يؤجل مشروعا كتابة ساخرة عنوانها «كنت صديقا لصدام». ففي جلسة بين أصدقاء شكا أحدهم من جهاز الإسعاف، فعلق أسامة ببراءة «صدام حسين لا يمكن أن يوافق على هذا التهاون»، واتصل بصديق في الإسعاف أنهى المشكلة، فتوهموا علاقة شخصية للرئيس بأسامة الذي ذكر اسم صدام مجردا. وتكررت مصادفة ثانية، فترسخ في أنفسهم اعتقاد لم ينسفه إلا تسفير أسامة، مع ختم جواز سفره بالمنع من دخول العراق. يضحك أسامة على تلك المفارقة، ويتذكرها كدراما. وللعراق في قلبه مكانة لم يشاركه فيها بلد آخر، وكم احتفى بالعراقيين في منابر ترأس تحريرها، وآخرهامجلة «المجلة»في بعثها الأخير، بداية من أبريل 2012، إلى أن أمر بإيقافها زميله حلمي النمنم وزير الثقافة في أغسطس 2016.
أسامة عفيفي يتحدث عن معرض فرحة للتشكيلية سماء يحيى بحضور الشاعر جمال القصاص
وفي كتاب «أسامة عفيفي ناقدا»، الذي يصدر في معرض الكتاب نهاية يناير الحالي، تمنيت الإحاطة بكل ما كتبه أسامة من دراسات في النقد الثقافي، والنقد التشكيلي، والنقد الأدبي، والبورتريهات التي تكتفي أحيانا بذكر موقف محدد لمثقف أو فنان. حكي لي عن كتابات ولم أتوصل إليها. هنا يجد القارئ ملامح من المنجز النقدي لأسامة عفيفي، وانحيازه إلى منهج جمالي في قراءة الوقائع. أدلل على ذلك بالسطور الأولى في ما كتبه عن كتاب «الإسلام وأصول الحكم»، في مجلة «المصور»، في 11 يناير 2017، بعنوان «الشيخ علي عبدالرازق وأقنعة السياسة المراوغة»:
«في بدايات مسرحيات الكوميديا دي لارتي الهزلية التي انتشرت في أوروبا زمنا طويلا، وبسبب عدم إقبال النساء على التمثيل، اضطر المخرجون للعودة لاستخدام الأقنعة التي كانت سائدة في المسرح الإغريقي القديم واختفت بعد التزام المسرح اليوناني بنظرية المحاكاة الأرسطية، وكانت تصنع أقنعة وباروكات نسائية يضعها الممثلون الرجال على وجوههم، ويقلدون أصوات النساء بإتقان للقيام بالأدوار النسائية، لدرجة أن الجمهور كان يعتقد أن الممثل ماهو إلا امرأة حقيقية تستر وجهها كي لا تعرف. ولقد استخدم بريخت هذه الأقنعة في أغلب مسرحياته مستوحيا الفن الآسيوي والإغريقي وميراث الكوميديا دي لارتي؛ ليكسر الإيهام في مسرحة الملحمي، ليؤكد للجمهور أن مايشاهده هو تمثيل في تمثيل، لينتبه المشاهدون للرسالة التعليمية التي يستهدفها بمسرحياته.
وقد يسألني سائل ماعلاقة الشيخ علي عبدالرازق وكتابه بهذه المقدمة؟ الحقيقة أنني وجدت بعد قراءتي لأغلب ماكتب عن معركة علي عبدالرازق، وأغلب وثائقها أن ماوصلنا نحن جمهور القرن الحادي والعشرين من آراء وتأويلات وأصداء تنطبق عليها أقنعة الكوميديا دي لارتي أكثر مما تنطبق عليها الأقنعة البريختية. فلقد أتقن أطراف المعركة جميعا ومؤرخوهم أدوارهم، وصدقنا أنها كانت معركة دينية بين الرجعيين والتقدميين، بينما كان الفكر والدين مجرد قناعين للسياسة المراوغة وتلك هي تراجيديا القضية».
مقدمة مقال أسامة عفيفي عن قضية علي عبد الرزاق توجب عليّ التوقف، والترحّم على خسارة عقل جميل. لكن أسامة ترك ذكريات يحملها أصدقاء وتلامذة. تفانت الكاتبة شذى يحيى والفنانة سماء يحيى في فرز أوراقه، وتصنيف مكتبته، وتوزعت إهداءات المكتبة بين نقابة الصحفيين في القاهرة، ومكتبة الإسكندرية، وقصر الثقافة في الجيزة. أما الدكتورة نادية النشار فحرصت على نشر كتاب «ليلة سرقة الفرعون»، عام 2020. تجربة تحمل اسميهما، وفي المقدمة كتبت اعترافا جميلا. تدربت في مؤسسات كبرى كالأهرام وأخبار اليوم، ولكن كفة أسامة عفيفي «هي الأرجح... يحسب له أنه علمني في عام واحد ما لم أكن لأتعلمه في عشرة».
لعل هذا الكتاب يضيء جوانب من حياتنا الثقافية والأدبية. وأظنه سيظل مفتوحا على إضافات، منشورة ومخطوطة، قد يعثر عليها أصدقاء أسامة عفيفي. لهؤلاء الأصدقاء حق، بل واجب الصداقة، تفويض بإضافة أي مادة يعثرون عليها، وإعادة طبع الكتاب.