المكون النفسي وفخ تثوير الشعوب

30-12-2024 | 13:56

هل هناك قدرة لدى بعض الدول على صناعة الثورات من خلال التأثير النفسي والمعنوي، وخلق الضغوط على اقتصاديات الدول بهدف إسقاطها؟ وكيف يتم التلاعب بمقدرات وأرواح الشعوب على حساب تحقيق أهداف مخططات الدول الأخرى؟ خبرة ما مرت به دول أوروبا الشرقية، ثم دول المنطقة العربية التي شهدت ما أُطلق عليه ثورات الربيع العربي تدلنا على سياقات ودلالات مهمة، أبرزها أنه سيناريو تمت إعادته مرة تلو الأخرى، مع إضافة خبرات نماذج النجاح والفشل في بعض الدول لتطويرها عند استهداف دول أخرى. 

ومما سبق نجد أن الشعوب التي تم خداعها هي من اشترت بضاعة فاسدة تم ترويجها بقيم نبيلة وعبارات منمقة لتنفذ للوجدان، ثم عرضها على مواطني الدول المستهدفة عبر وكلاء تم توظيفهم ببراعة داخل وطنهم، ليشتريها السذج ممن يعتقدون أنهم يغيرون أوطانهم، فيما هم في الواقع مدمروها.

أولى هذه البضاعة الفاسدة هي سلعة الكراهية والبغض، ولكن كيف يتم ذلك؟ نجده تم من خلال تغيير المعاني اللغوية ويتبعها تغيير المعاني العقلية.. فمن خلال تغيير المسمى يتم إيجاد ملف في العقل لهذا المسمى، فكان أول ما تم تغييره هو إيجاد مسمى للمتخابر الخائن، فبدلًا من مسمى جاسوس أو عميل، تم إيجاد واستحداث لفظ ناشط سياسي، أو خبير إستراتيجي، أو باحث في العلاقات الدولية، أو خبير الأمن والإرهاب والسلام، أو مدير لمركز أبحاث. 

فكان أن تحول ما يقوم به المتآمر أو المتخابر من عمل خسيس، ليندرج تحت مسمى نشاط سياسي، أو مهنة أو وظيفة، وليس أي شيء آخر، فكانت أول خطوة تغيير المسميات، حيث أصبح العميل أو الجاسوس يطلق عليه ناشط سياسي يتبع لمنظمة مجتمع مدني، أو مركز أبحاث تمويلهما خارجي، أو أن تحول تنظيم إرهابي يحمل السلاح لهدم دولته؛ ليصبح معارضة مدنية أو جبهة تحرير مسلحة، فبتغيير المسمى يصبح الأمر على مستوى اللاوعي والوعي مقبولًا، حيث يتم تصوير الشخص الذي يعمل تحت من يقود هذه الشبكة من الناشطين والباحثين والخبراء، عبر الآلة الإعلامية ومنصات التواصل الاجتماعي لشبكات حقوق الإنسان الغربية، على أنه يعمل لصالح وطنه وليس تجسسًا.

هو في ذلك يقوم بتصوير ونقل معلومات والمساهمة في إسقاط أعمدة وطنه، عبر عمل عسكري عنيف مفترض أنه خروج على الشرعية الدستورية، واعتداء على السيادة الوطنية لمؤسسات دولته، بما يسمح له بحيازة واستخدام السلاح الذي هو من المفترض أنه أمر غير مسموح به سوى لمؤسسات أنفاذ القانون في أي وطن، وينضم له، في إطار أحلام التغيير، قطاعات من بني وطنه، دون أن يكونوا على وعي بالأهداف النهائية للمخطط، المخدوعين بأن كل هذه الأعمال العدائية تتم بهدف الإصلاح وتحسين أوضاعهم.
 
ثم توالت المسميات، كأن يتم وصف القوات المنوط بها الحفاظ على الأمن وإنفاذ القانون بأنها "قوات الاحتلال"، ومن الطبيعي أن يستدعي العقل ملف الاحتلال، وما للمحتل من كراهية في النفوس، بحيث يصبح ذلك مصطلحًا متداولًا بين قطاعات عريضة من المواطنين، بل والأدهى إلصاق اسم "الحاكم" بهذه القوات، لخداع البسطاء وتصوير الأمر أن كل هذه القوات تهدف لحماية شخص أو نظام، وإبعاد التفكير تمامًا عن أن مهامها تهدف لحماية الأمن المجتمعي داخليًا، والتصدي لكل محاولات تهديد الأمن القومي للدولة.

فمع تغيير المسمى لصرف نظر البسطاء عن الوظيفة الحقيقية لقوات حفظ النظام وإنفاذ القانون، من الطبيعي أن تتولد كل معاني الرفض للقوات المحتلة (كما صوروها لعقله)، وما يتبع ذلك من مشاعر مليئة بالكراهية تجاهها.

قد تؤخذ الكلمة فى البداية بسخرية تجاه الشخص أو الجهاز الذى يطلق عليه المسمى، إلا أن تكرارها لفترة تبرمج العقل، بحيث تصبح رؤية أي فرد من هذه القوات، وكأنها رؤية لعنصر من جيوش الاحتلال.

لهذا، عندما شاهدنا عام ٢٠١١ مشاهد قذف قوات الشرطة بالحجارة والمولوتوف، وحرق أقسام الشرطة ومديريات الأمن والمحاكم بكل هذه الكراهية، وبكل هذه الطاقة المستفزة، كان علينا أن نعلم أن المسمى قد وجد طريقه من اللسان إلى العقل إلى التصديق التام بما للفظ من معانٍ ترسخت في وجدان القطاعات التي تم خداعها، فهو لا يشعر بأن الفرد العامل في هذه القوات قد يكون جاره أو صديقه أو زميله، بل يشعر أن هذا الفرد لا يمت للوطن بصلة، بل ويقمعه لاستمرارية احتلال هذا الوطن، والتخديم على مصالح فرد أو النظام بأكمله.

وبعد أن تصوروا هنا في مصر -ودعونا نستحضر هذه الذكريات، أنه تم القضاء على قوات الشرطة باقتحام المقر الرئيسي لجهاز مباحث أمن الدولة، وبعد أن أصبحت القوات المسلحة متصدرة المشهد في فترة حكم المجلس الأعلى للقوات المسلحة، جاء الدور ليطلق مسمى "عسكر" -مع تحفظنا الكامل ورفضنا القاطع لاستخدام هذا المصطلح المسيء- على أبنائنا في المؤسسة الأشرف المنوط بها حماية الأمن القومي المصري، وهنا يذهب اللفظ للملفات المخزنة في العقل الباطن؛ حيث نجد أن من كان يطلق عليه هذا اللفظ هم عسكر الإنجليز المحتلين للوطن، لتستشري نفس المشاعر الخاصة بالكراهية، ثم يبدأ إطلاق المسميات. 

عن طريق تغيير المسمى تتم برمجة العقول، فبتغيير المسميات يمكن للعدو أن يرسخ في عقلك، عبر استحضار مخزونك العقائدي من العقل الباطن، أنك تواجه عسكر الاحتلال، وأنك ينبغي عليك أن تواجههم لتحرير وطنك، وأنه لا سبيل لك لتحقيق ذلك إلا بالتعامل مع من يستهدف وطنك، والذي يظهر أمامك بمظهر من يريد الخير للوطن، والذي سيساعدك على تحقيق مستقبل أفضل.

وللأسف أصبحت النكسة والنكبة وإسقاط الأوطان يطلق عليها ثورة، وذلك لما لوقع اللفظ من دلالة على التغيير نحو الأفضل، كما رسخوه في عقول قطاعات كبيرة جرى محو وعيها، كذلك بتغيير مسمى العنف إلى سلميّة، فنجد التظاهرات بها مولوتوف وحجارة وألعاب نارية وأسلحة، ويقول لك إنها سلمية، فإذا ردت قوات الشرطة المدنية، بما هو منوط بدورها في حفظ السلم المجتمعي الداخلي، وبما خولته لها أساليب الردع القانونية التي تستخدم على مستوى العالم أجمع، يقال إنها تواجه السلميين بعنف غير مبرر لا يراعي حق الإنسان في التعبير السلمي عن رأيه.  

لا تأخذ الأمر ببساطة، وعلينا أن نأخذ حذرنا من تغيير المسميات، وإيانا أن تتم برمجتنا لنسخر من عمل قوات إنفاذ القانون، فتغيير الهوية يبدأ مضحكًا، إلا أنه يتخذ بمرور الوقت شكلًا آخرَ، ولاحظ الفترة التي سبقت وتلت ٢٠١١، في المسلسلات والأفلام وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، ستجدها مليئة بألفاظ بذيئة، وسباب كان يتم محوه من الأفلام الأجنبية سابقًا، وصار متداولًا وعاديًا للغاية في مسلسلاتنا، وحتى في برامج "التوك شو".

وأفرز ذلك على الشاشات فئتين؛ فئة معدمة تتحدث بلغة متدنية سوقية، تحمل سيوفًا وأسلحة وتمارس البلطجة وتسيل الدم وتهتك الأعراض، وتخالف كل القيم والعادات والتقاليد، وفئة أخرى تعيش في مستوى يزيد من الاحتقان المجتمعي، واختفت الفئة التي تشكل القطاع العريض من المجتمع، التي لم تجد من يعبر عنها، وكأن المجتمع صار هذين النموذجين الغريبين عن مجتمعنا الأصيل الوسطي الهوية.
  
لذا، تمسك بمؤسساتك، اثبت على لغتك الرصينة، لا تجعل السخرية من مؤسساتك ورموزك تمر دون توقف، وحساب من يدفعك لذلك؛ حتى لا تجد نفسك يومًا ما تردد تلك الهراءات دون إرادة. أرفض هذا النوع من الغزو النفسي القائم على توظيف تغيير المسميات والمصطلحات، فاليوم يبدأ باللغة، وغدًا يتغير المعنى في العقل، فيتغير تفكيرك، ويتغير معه شعورك، لينتهي الأمر بتغيير سلوكك دون أن تدري، وتصبح أداة من أدوات هدم الأوطان وتفجيرها ذاتيًا.

حيث إنك في النهاية ستجد نفسك مشوه الهوية والقيم والقناعات، امتنع عن شراء بضاعتهم الفاسدة، لا تشترى كراهية مؤسسات ورموز وطنك في أي دولة، قاوم، فما سقط البعض في الخيانة لوطنهم إلا بعد أن تمكنت الكراهية وعدم الرضا منهم. فز بحبك لوطنك وانتصر له بكل ما تشمله كلمة وطن من معاني الولاء والانتماء والتسامح والمحبة لديك، وليكن يقينك أن مصر للجميع، وأن نصرها على كل مخططات أهل الشر هو واجب على كل من ارتوى بنيلها وعاش على خيرات طينها.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
قراءة في بيان وزارة الخارجية المصرية بشأن إيران

من خلال قراءة متأنية لبيان وزارة الخارجية المصرية، يمكن استخلاص العديد من القيم والمبادئ الأساسية التي تحكم السياسة الخارجية المصرية، والتي تعكس رؤية مصر للتعامل مع الأزمات الإقليمية والدولية: