هل تستمر أمريكا فى دعم «قسد» بنفس الوتيرة حال تغير أولوياتها فى الشرق الأوسط؟
موضوعات مقترحة
شمال شرق سوريا بات مسرحاً تتقاطع فيه مصالح القوى العالمية
الصراع بين قوات سوريا الديمقراطية «قسد» والجيش السورى الحر، يجسد واحداً من أبرز تجليات الأزمة السورية الممتدة منذ أكثر من عقد. هذا الصراع لا يعبر فقط عن تنافس محلى بين فاعلين على الأرض، بل يعكس تداخلًا معقدًا بين الأجندات الإقليمية والدولية، حيث بات شمال شرق سوريا، مسرحًا تتقاطع فيه مصالح كبرى القوى العالمية.
«قسد»، التى نشأت كقوة محلية بمكون كردى رئيسى، استطاعت تعزيز نفوذها بفضل دعم الولايات المتحدة فى معركتها ضد تنظيم «داعش»، ونجحت فى بناء نموذج إدارى، متمثل فى الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، على الجانب الآخر، يمثل الجيش السورى الحر واحدة من أدوات منع أى كيان كردى مستقل.
مع استمرار التوترات فى مناطق التماس بين الطرفين، تبرز أسئلة محورية حول مستقبل هذا الصراع: هل يمكن للأطراف تحقيق تهدئة مستدامة؟ أم أن تناقض المصالح والضغط الإقليمى سيقودان إلى تصعيد جديد؟ وكيف ستؤثر التوازنات الدولية، خصوصًا الدورين الأمريكى والتركى، على مآلات هذا النزاع؟
مقارنة بمناطق المعارضة المسلحة التى شهدت نزاعات داخلية متكررة، بين الفصائل المختلفة، ومناطق النظام التى تعرضت لاستهدافات متكررة من قوى المعارضة، نجحت «قسد» فى تحقيق استقرار أمنى نسبى فى مناطقها، هذا الاستقرار جعلها ملاذًا للكثير من العائلات النازحة، ما عزز شعبيتها فى المناطق الخاضعة لسيطرتها.
التنوع الإثنى والدينى
«قسد»، لم تقدم نفسها كقوة كردية فقط، بل عملت على بناء تحالف يضم مكونات متعددة مثل العرب، السريان، الأرمن، والتركمان، مما ساعدها على توسيع قاعدتها الشعبية، هذا التنوع منحها شرعية محلية، خصوصا فى المناطق ذات الأغلبية العربية مثل الرقة ودير الزور، التى كان من الممكن أن تواجه مقاومة شديدة، لولا إشراك المكونات المحلية فى إدارة شئونها.
وعلى الرغم من نجاحاتها، تواجه الإدارة الذاتية تحديات اقتصادية كبيرة ناجمة، وكذلك التوترات مع بعض العشائر العربية، التى تشعر بأنها لا تتمتع بنفوذ كافٍ فى مناطقها.
خصوم "قسد"، مثل الجيش الحر، يحاولون تصويرها كقوة قمعية أو انفصالية تهدد وحدة سوريا، ما قد يؤثر على القاعدة الشعبية فى بعض المناطق، خصوصا ذات الأغلبية العربية.
إن استمرار قسد فى الحفاظ على قاعدتها الشعبية، يتطلب دعمًا دوليًا، خصوصا من الولايات المتحدة، لضمان استمرار توفير الخدمات وتحقيق الأمن، أى تراجع فى هذا الدعم قد يضعف قدرتها فى الحفاظ على المكتسبات الحالية.
إن نجاح "قسد"، فى ترسيخ قاعدتها الشعبية معتمداً على مزيج من تقديم الخدمات، تعزيز الأمن، وإشراك مختلف المكونات الإثنية والدينية فى عملية الإدارة.
ومع ذلك، تواجه الإدارة الذاتية تحديات كبيرة، ما يجعل استمرار نجاحها مرهونًا بقدرتها على التعامل مع الضغوط المحلية والإقليمية، والحفاظ على الدعم الدولى.
لكن يبقى السؤال، كيف يمكن لقسد تعزيز العلاقة مع العشائر العربية لتوسيع قاعدتها الشعبية بشكل أكبر؟ وهل يمكنها تحقيق ذلك دون فقدان ثقة المكون الكردى الذى يشكل العمود الفقرى لوجودها.
استطاعت "قسد"، المناورة بين القوتين المتنافستين فى سوريا، روسيا والولايات المتحدة، حيث لعبت دور الحليف الأساسى للولايات المتحدة فى الحرب ضد تنظيم "داعش"، مما وفر لها حماية عسكرية مباشرة ودعمًا سياسيًا، فى المقابل، أقامت تفاهمات مرحلية مع روسيا عند الضرورة، خصوصا عندما تراجعت الولايات المتحدة عن دعمها بشكل كافٍ، كما حدث عندما سمحت بنشر قوات روسية فى بعض المناطق.
رفع علم الثورة السورية
"قسد"، قد أبدت استعدادها للانفتاح على رموز المعارضة السورية، كما ظهر فى رفعها لعلم الثورة فى مناطق مثل تل أبيض وبعض الفاعليات، هذه الخطوة تعكس اعترافًا ضمنيًا بالسلطة الجديدة، ومرونة فى تغيير خطابها السياسى، بما يتناسب مع المتغيرات الدولية والإقليمية.
فى محاولة لتجنب التصعيد طرحت قيادة "قسد"، مبادرات تتضمن إقامة منطقة عازلة فى كوبانى، تحت إشراف قوى دولية، هذا الطرح يظهر إدراكها لأهمية الموازنة بين الحفاظ على مكتسباتها، وتجنب التصعيد العسكرى، مع إبقاء الحوار مفتوحا.
عمدت القيادة العسكرية لقسد إلى استيعاب العشائر العربية فى المناطق التى يغلب عليها الطابع العربى، مثل دير الزور والرقة. هذا النهج أدى إلى تقليل المعارضة الداخلية، خصوصا مع تعيين شخصيات محلية فى مواقع إدارية وعسكرية.
البراجماتية ليست مجرد تكتيك لمجلس سوريا الديمقراطية "مسد"، بل إستراتيجية متكاملة للبقاء فى خضم صراع متعدد الأبعاد، قدرتها على التوازن بين القوى الدولية، تقديم تنازلات مرحلية، واستيعاب المكونات المحلية، يعكس فهمًا عميقًا لتعقيدات المشهد السوري، مع ذلك، تبقى هذه البراجماتية مرهونة بقدرتها على الاستمرار فى تحقيق التوازن بين المصالح المتضاربة، دون أن تفقد مصداقيتها لدى بيئتها المحلية أو داعميها الدوليين.
يبقى السؤال: إلى أى مدى يمكن لمجلس سوريا الديمقراطية "مسد" الاستمرار فى تقديم التنازلات البراجماتية، دون أن تخسر دعم قواعدها الشعبية، أو تتعرض لضغوط أكبر من القوى الإقليمية؟
ويمتلك مجلس سوريا الديمقراطية "مسد"، وذراعه العسكرية "قسد" إحدى أهم الأوراق فى الملف الأمنى بسوريا، وهى سجون تضم أكثر من 10 آلاف عنصر من مقاتلى تنظيم داعش، من جنسيات مختلفة (سورية وعربية وأجنبية)، هذه السجون تُعتبر قنبلة موقوتة، حيث تؤكد "قسد" مرارًا أن أى خلل أمنى أو عسكرى، قد يؤدى إلى هروب هؤلاء العناصر وإعادة إحياء التنظيم، واستخدام هذه الورقة فى المحادثات مع القوى الدولية، خصوصا الولايات المتحدة وأوروبا، يجعل "قسد" لاعبًا لا يمكن الاستغناء عنه فى الحرب المستمرة ضد الإرهاب.
لقد ضغطت "قسد"، على الدول الغربية لاستعادة مواطنيها من مقاتلى داعش المحتجزين، محملة المجتمع الدولى مسئولية إدارة هذا الملف، لكنها لم تحصل على استجابة كافية، مما يضاعف أهمية احتفاظها بهذا الملف كورقة ضغط سياسى.
تحتجز «قسد» فى مخيم الهول ومخيم روج، عشرات الآلاف من زوجات مقاتلى داعش وأطفالهم، مخيم الهول وحده يضم ما يقرب من 60 ألف شخص، غالبيتهم من النساء والأطفال، ما يجعله واحدًا من أخطر المخيمات عالميًا، المخيمات ليست مجرد أماكن احتجاز بل تحولت إلى حاضنة فكرية وإيديولوجية للتطرف، حيث تُتهم النساء المحتجزات بمحاولة نشر أيديولوجية "داعش" بين الأطفال.
المخيمات أصبحت بؤرًا أمنية تهدد الاستقرار، خصوصا مع التقارير المتكررة عن محاولات الهروب، والاعتداءات داخل المخيمات، والتهديدات المستمرة بإعادة إحياء الفكر المتطرف، "قسد" تُدرك أن هذه المخيمات تُستخدم كورقة ضغط على القوى الدولية، حيث تؤكد أن انهيار الأمن فى المنطقة، سيحول هذه المخيمات إلى مصدر خطر عالمى.
إن "قسد" تُذكّر حلفاءها الغربيين بأن التخلى عنها، يعنى إطلاق العنان لعناصر "داعش" المحتجزين، مما سيعيد تهديد الأمن الدولى، هذا التذكير يجعل القوى الغربية، مضطرة لدعم "قسد" ماليًا ولوجستيًا لضمان استمرارها.
وقد استخدمت "قسد"، استخدمت ورقة سجون داعش والمخيمات لتحييد بعض التهديدات الإقليمية.
وإدارة السجون والمخيمات تُشكل عبئًا كبيرًا على قسد، سواء من الناحية الأمنية أو المادية، الهجمات المتكررة من خلايا "داعش" النائمة تهدف إلى تحرير المحتجزين، مما يضع ضغوطًا أمنية هائلة على "قسد".
وتواجه "قسد" تواجه انتقادات متزايدة من منظمات حقوق الإنسان، بسبب الأوضاع المزرية فى المخيمات والسجون، مما يُضعف صورتها الدولية.
تعد سجون عناصر "داعش"، ومخيمات الاحتجاز من أقوى الأوراق بيد "قسد"، حيث تمنحها نفوذًا كبيرًا فى مواجهة القوى الدولية والإقليمية. من ناحية، تُستخدم هذه الورقة لضمان استمرار الدعم العسكرى والمالى من الحلفاء، خصوصا الولايات المتحدة وأوروبا.
من ناحية أخرى، تُعتبر هذه الورقة تحديًا أمنيًا خطيرًا، قد ينقلب على "قسد"، فى حال تصاعد الهجمات أو حدوث أى خلل أمنى. يبقى السؤال: كيف يمكن للإدارة الذاتية وجناحها العسكرى "قسد"، إدارة هذا الملف فى ظل الضغوط الأمنية والحقوقية، دون أن تتحول هذه الورقة إلى عبء سياسى قد يُضعف موقفها الدولى؟
ومنذ بدء الحملة الدولية ضد تنظيم "داعش"، كانت قوات سوريا الديمقراطية (قسد) الشريك الأكثر فاعلية على الأرض للولايات المتحدة. العمليات العسكرية الكبرى، مثل معركة الرقة، عززت سمعة "قسد" كشريك يعتمد عليه. برغم تراجع التنظيم، تستمر الحاجة إلى "قسد" لضمان عدم عودة نشاطه فى المناطق المحررة، خصوصًا أن التنظيم ما زال يشكل تهديدًا من خلال خلاياه النائمة، واشنطن تعتمد على "قسد" ليس فقط لمكافحة التنظيم عسكريًا، بل أيضًا لضمان الاستقرار فى المناطق المحررة، من خلال توفير الأمن والخدمات للسكان المحليين، مما يمنع ظهور فراغ أمنى قد يستغله الإرهابيون.
وتحتوي مناطق سيطرة "قسد"، على معظم موارد سوريا النفطية والغازية، خصوصًا فى محافظتى دير الزور والحسكة.
الولايات المتحدة ترى فى هذه الموارد أداة لضمان استمرار تمويل "قسد"، وتقليل اعتمادها على المساعدات الخارجية
هذه الثروات تمنح الإدارة الذاتية وذراعها العسكرى "قسد" نفوذًا اقتصاديًا وتزيد من أهميتها الإستراتيجية فى المعادلة السورية.
استمرار سيطرة "قسد" على هذه الموارد يمنع الإدارة الجديدة " هيئة تحرير الشام" من الوصول إلى مصادر تمويل حيوية، مما يعزز من قدرة واشنطن على الضغط على الجولانى وحلفائه.
وتستخدم واشنطن كورقة ضغط رئيسية فى الصراع السورى، حيث إن وجودها فى شمال وشرق سوريا، يمنح الولايات المتحدة نفوذًا فى مواجهة الإدارة الجديدة، خصوصا فى المفاوضات السياسية حول مستقبل سوريا، استمرار الدعم الأمريكى لقسد، يرسل رسالة واضحة إلى السلطات السورية الجديدة، بأن واشنطن لن تسمح بتغير ميزان القوى فى المنطقة بسهولة.
ويشكل الجيش الحر يشكل تهديدًا لـ"قسد" فى العديد من مناطق التماس، حيث تزداد المواجهات المباشرة، برغم انقسامات الجيش الحر، فإن الدعم يجعله قوة مستمرة فى إزعاج قسد، خصوصا فى مناطق مثل تل أبيض وعين عيسى. الجيش الحر يحاول تصوير قسد كقوة انفصالية، مما يؤثر على القاعدة الشعبية لقسد، خصوصاً فى المناطق ذات الغالبية العربية.
قد يتم التوصل إلى اتفاق يتضمن إنشاء مناطق عازلة فى مناطق التماس، مثل كوبانى، تحت إشراف دولى أو أمريكى، لتجنب تصعيد عسكرى جديد، هذه التهدئة ستكون مدفوعة بضغوط أمريكية، وفرنسية وألمانية على الأطراف المتصارعة، مع ضمان الحد الأدنى من التوازن.
إن الصراع قد يستمر على شكل مواجهات محدودة على حدود مناطق السيطرة، دون أن يتطور إلى تصعيد واسع النطاق. هذه المواجهات ستعتمد على الديناميات المحلية، ودعم الأطراف الخارجية لكل جانب قد تتورط قسد والجيش الحر فى حرب استنزاف طويلة الأمد، مما يضعف الجانبين ويعقد الوضع الإنسانى فى المنطقة.
تحول العلاقة مع السلطات السورية الجديدة
قسد قد تلجأ إلى تعزيز علاقتها مع السلطات السورية كخيار إستراتيجى، خصوصًا إذا شعرت بتراجع الدعم الأمريكى أو تصاعد التهديدات من الجيش الحر، هذا السيناريو قد يشمل ترتيبات تقاسم السلطة، حيث تحتفظ الإدارة الذاتية بإدارة ذاتية ضمن إطار سيادة السلطات السورية الجديدة.
ويعكس الصراع بين قسد، والجيش الحر، توازنًا دقيقًا بين الديناميات المحلية والإقليمية والدولية، الدعم الأمريكى المستمر يوفر لقسد قوة إستراتيجية، لكنه لا يحميها تمامًا من التهديدات الجيش الحر وداعميه.
فى المقابل، الضغوط والجيش الحر يشكلان تحديًا مستمرًا لقدرة قسد على الحفاظ على مكتسباتها، المستقبل مرهون بقدرة الأطراف الدولية على فرض تفاهمات، ومرونة الإدارة الذاتية وجناحها العسكرى "قسد"، فى التكيف مع المتغيرات، يبقى السؤال؛ هل يمكن للولايات المتحدة الاستمرار فى دعم "قسد" بنفس الوتيرة فى حال تغير أولوياتها فى الشرق الأوسط، خصوصا مع تصاعد التوترات مع الصين وروسيا.