Close ad
29-12-2024 | 14:16

تتلمذنا على يد جيل الكبار من علماء الإعلام في الوطن العربي؛ ومنهم العلامة الدكتور خليل صابات، الذي رحل جسدًا وظل بعلمه يحيا في عقول طلابه، اهتم بالصحافة وكتب عنها عدة مؤلفات؛ فكتب عن تاريخ الطباعة والصحافة وفن الإعلان الصحفي، وعن الصورة الفوتوغرافية في الصحافة. 

ولعل كتابه: (وسائل الاتصال، نشأتها وتطورها) الذي كتبه عام 1976م يُعد واحدًا من أهم مؤلفاته. وقد تخرج على يد هذا العلامة عدد كبير من الإعلاميين والصحفيين تشرفت أنني كنت واحدًا منهم.

ولفت الدكتور صابات الأنظار نحو أهمية مواكبة الصحافة لركب التقدم في مجال الإعلام والصحافة؛ ولهذا حرص في مؤلفاته على مسايرة ركب التقدم شبرًا بشبر، وإذا كان التطور قد لحق بأساليب التواصل حتى باتت اليوم كما نراها حولنا في كل يد، فإننا نفتخر بأننا كمصريين كنا من أوائل المبتكرين لأساليب الدعاية والإعلان والإعلام منذ عهد المصريين الأوائل..
 
كيف كانت الصحافة؟
استخدام الكتابة للإعلان قديم قدم الزمن، ظهر أولًا في صورة إعلان شفهي، كما في الصين القديمة، وشاع عند الإغريق والرومان استخدام أوراق البردي والجلود للإعلان عن المفقودات وغيرها، واستمدوا الفكرة من المصريين القدماء؛ إذ أُثر عنهم استخدام أوراق البردي في رسائلهم التجارية وملصقات الحوائط الإعلانية، وقد عُثر على آثار عديدة دلَّت على هذا الأمر. 

وفي مصر ظهرت الصحافة مبكرًا جدًا، وكان غرضها سياسي في الأساس؛ عندما ظهرت جريدة "الوقائع المصرية" على عهد محمد علي باشا، من أجل نشر القرارات الرسمية، وكان رفاعة الطهطاوي من أوائل رؤساء تحريرها. 

تبلورت الصحافة في بداياتها في شكل جرائد أسبوعية ظهرت أولًا في مدينة البندقية بإيطاليا في أواخر القرن السادس عشر، ثم ظهرت في بريطانيا جريدة "ذا ديلي كورانت" منذ عام 1702م، وكانت الإعلانات جزءًا أصيلًا فيها، تحمل عنها عبء تكلفتها، والإعلانات التجارية الأولى كانت للكتب ووصفات العطارين، ثم تنوعت وتشعبت مع بروز أهميتها في الترويج.
 
"جوناثان هولدر" كان أول مَن طبع لنفسه قائمة بأسعار منتجاته، وكان صانعًا للخردوات، ثم قلده كثيرون، كما كان "إيميل دو جيراردن" محرر صحيفة لابريس الفرنسية أول مَن اعتمد على الإعلانات المدفوعة لزيادة أرباحه، وسرعان ما قلدته صحف أخرى. 

هكذا ارتبط الإعلان الصحفي منذ القدم بالحركة التجارية والاقتصادية، وأصبح للإعلانات دور هائل في الترويج للمنتجات، وبسبب الدور الهائل لها في التأثير على جمهور القراء، استخدمها جوزيف جوبلز إبان الحرب العالمية الثانية سياسيًا وعسكريًا عندما استخدم آليات الدعاية في التأثير على العقيدة القتالية لجنود الحلفاء من خلال إلقاء المنشورات عبر بالونات أو من الطائرات، كما استخدم بث محطات إذاعية بلكنات تماثل لكنة ولهجة الأعراق المختلفة! 

استهدفت الدعاية جنود العدو لدفعهم للانسحاب وترك السلاح بأصوات تشبه مشاهير قادتهم؛ بهدف التأثير على الروح المعنوية للجنود، وتحقيق هزيمة جنود الحلفاء! 

إلى أن تطورت آليات القتال والحرب الدعائية لتستغني بشكل نهائي عن الدور المساعد في العمل العسكري العدائي وتتحول لحرب رئيسية تستهدف السيطرة على الشعوب المعادية أو المستهدفة من خلال الدعاية الهجومية، وهو الدور الذي تكلم عنه "هربرت شيلر" في كتابيه: “المتلاعبون بالعقول” و”الهيمنة الثقافية” في مطلع الستينيات من القرن الفائت. 

الأرقام تتحدث
الإعلان صار منذ زمن صناعة مستقلة بذاتها، واقتصادها بات جزءًا مهمًا من الاقتصاد القومي لأية دولة أو مؤسسة، وإن كان حصر حجم العائدات الاقتصادية للإعلانات لدى وكالات الإعلان العالمية، أو حتى الإقليمية صعبًا، وأرقامه الرسمية متضاربة، فإن أقل التقديرات تشير إلى أن سوق الإعلانات سوق ضخمة تتسع باستمرار، وفي تقدير قديم لسوق الإعلانات لدي أكبر ثلاث وكالات إعلان عالمية، وصل الرقم إلى نحو 700 مليار دولار سنويًا!
 
نحن نتحدث عن اقتصاد هو الداعم الأساسي للإعلام والصحافة؛ إذ إن عائدات الإعلانات التجارية تمثل حجر الزاوية في موازنة أي وكالة إعلامية أو مؤسسة صحفية، إلا أن تكون مدعومة حكوميًا أو غير هادفة للربح.
 
لقد شهد القرن العشرين تطورًا سريعًا لوسائل الإعلام والإعلان تزامنًا مع ظهور التليفزيون، وأصبحت إعلانات الصحف اليومية منبعًا للإيرادات لدى الجرائد كثيفة التوزيع؛ لهذا عملت الصحف على التنافس في قدرتها على كسب جمهور القراء من خلال الأخبار الحصرية والأنباء الجذابة والمقالات المتميزة، طمعًا في زيادة توزيع الجريدة، والتي على أساسها يتم تقييم سعر الإعلان في تلك الصحف الكبرى.

ثم ظهرت الفضائيات لتسحب نصف البساط من تحت أقدام الصحافة وقنوات التليفزيون الرسمية، وظلت جميع الأنشطة التجارية الناشئة أو ذات الأسماء التجارية المشهورة تُقبل على إعلانات القنوات الفضائية التي وصل الإعلان الواحد في بعضها إلى أرقام فلكية من ستة أصفار!

حتى جاءت حقبة الإنترنت والسوشيال ميديا، واستولت وسائل التواصل الاجتماعي بمختلف أنواعها على سوق الإعلان المرئي والمصور والمسموع والمقروء؛ لدرجة أن الأرقام تتحدث اليوم عن أن الثورة الرقمية استطاعت انتزاع نحو نصف عائدات صناعة الإعلان في العالَم؛ أي ما يصل في بعض التقديرات إلى ما يزيد على 300 مليار دولار!!

يتوقع "جورج سلايز" أستاذ إدارة الأعمال والتجارة الإلكترونية في جامعة كامبريدج أن تشهد السنوات القادمة نموًا أكبر وأسرع في سوق الإعلانات في مواقع التواصل الاجتماعي لتتفوق حتى على نظيرتها في مختلف قنوات التليفزيون والقنوات الفضائية قريبًا، لأنها تتمتع بوصول أسرع وأوسع للمشاهدين، ولأن تكلفتها أقل من نظيرتها في تلك القنوات بل وحتى في بعض الصحف اليومية واسعة الانتشار؛ ولهذا وجب على المهتمين بمجال الإعلام والصحافة توجيه اهتمامهم الأكبر في الفترة المقبلة على مواكبة التقدم في هذا المجال الذي ينمو بسرعة تفوق قدرة البعض على مسايرته. 
 
قفزة تقنية 
الحديث الآن في أوساط الصحفيين والأكاديميين يدور في أغلبه حول التطور الجديد الذي يشغل كل المهتمين والمراقبين؛ وهو الذكاء الاصطناعي. 

أدوات الذكاء الاصطناعي تتطور بسرعة هائلة جدًا، والذين سيفشلون في مواكبة تلك الأدوات الجديدة لن يكون باستطاعتهم دخول مجال التنافس في هذا المضمار الذي يبتلع السوق بسرعة شديدة، ولن يلبث ذلك التطور أن يهيمن على مجالات عدة تدخل في صناعة الإعلان: كالتصوير والتأثير البصري والكتابة الصحفية والإبداعية وكتابة المحتوى التجاري والإعلاني وتحليل البيانات، وغيرها من المجالات المرتبطة بالصحافة والإعلام والدعاية والتسويق.
 
من المتوقع أن يصل التطور الجديد بحجم الإنفاق الإعلاني العالمي إلى أن يتجاوز التريليون دولار خلال العامين القادمين! ولن يكون باستطاعة المؤسسات الصحفية والإعلامية التي تعمل بعقلية أوائل هذا القرن أو القرن السابق أن تنافس غيرها ممن يملك أدوات التطور الجديدة التي تبشر بحقبة ومرحلة مختلفة من مراحل التطور الإعلامي والصحفي والإعلاني عالميًا.
 
لابد إذن من التركيز في تدريب الصحفيين الجدد أو في تعيين الكوادر الجديدة على الاهتمام بقدرتهم على استخدام أحدث أدوات التقنيات الحديثة وعلى رأسها الذكاء الاصطناعي؛ لأن التسويق الإلكتروني كما تقول الإحصائيات يستحوذ على شطر ضخم من حجم التسويق العالمي. وباتت التجارة الإلكترونية مرتبطة بمدى قدرة مستخدميها على مواكبة أحدث التطورات في هذا المجال الذي يتقدم بسرعة هائلة تستحث الجميع على مسايرتها. 

علينا كصحفيين أن نهتم بمواكبة التقدم في مجالات التقنية؛ لأنها أصبحت مرتبطة بالإعلانات ومجالات التسويق، وبالتالي بالإعلام والصحافة اللتان ترتبطان، كما وضحنا، منذ عهود قديمة بعيدة بالاقتصاد والتجارة والإعلان ووسائل الترويج. 

رحم الله أستاذي الدكتور خليل صابات، الذي طالما استحثنا على مواكبة التقدم في مجال الصحافة، وكانت له نظرة بعيدة حول مستقبل الصحافة، وطالما خشي على الصحافة المصرية ومستقبلها من الوقوع في فخ التخلف والانصراف عن الوسائل الحديثة والتقنيات حتي لا تسبقها غيرها من المؤسسات الإقليمية المواكبة لهذا التقدم.

[email protected]

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الخدعة الأمريكية الكبرى!

أمريكا دولة لم يبزغ نجمها إلا في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وهي لم تقم إلا على سلاسل من الحروب: حرب شعواء على الهنود الحمر، أبادوا فيها عشرات الملايين

جوهر مصر (1-2)

الشعب المصري يشبه اللافا والحمم البركانية التي صهرها الزمن وتعاقبت عليها المحن، فصار كالأحجار الكريمة الصلبة الجميلة في جوهرها مهما تراكمت على سطحها أتربة ليست من معدنه الأصيل..

الأكثر قراءة