"لابد من الصدمة الكهربية، لكنها تحتمل النجاح والفشل، فإما أن يعود القلب إلى حالته الطبيعية أو تقضي ما تبقى لك من حياتك بالأدوية"، هكذا قال الطبيب وقرر، وكان لابد من الإذعان لقراره، فقد أصبح التنفس صعبًا لدرجة يستحيل معها النوم، وبات التعب والإرهاق الخِل الوفي الذي لا يفارق صاحبه.
جاء يوم عمل الصدمة الكهربية، والتي لابد أن يسبقها عمل منظار للقلب عن طريق المريء؛ للتأكد من خلوه من أي جلطات، فمع وجود الجلطات يستحيل عمل الصدمة؛ حتى لا تتعرض حياة المريض للخطر، وحينئذ يجب البحث عن حلول أخرى.
أخبروني أن بروتوكول هذا المعهد يقضي بعمل المنظار بدون مخدر، وللرغبة في إتمام الأمر على أيدي الخبراء المتخصصين، تم التنازل عن "البنج"، وما أدراك ما معنى التنازل عن البنج!
وضعت الممرضة شيئًا بلاستيكيًا صلبًا في فمي يذكرك فورًا بما وضعه رشدي أباظة في فم الحمار؛ ليفتحه على آخره، ويعطيه الدواء في فيلم "آه من حواء"، ولم يتبق إلا أن تقترب الممرضة وتقول لي "بووي...
بووي"، كما حدث في الفيلم، إلى أن أستسلم لإرادتها كما فعلت لبنى عبدالعزيز، لكن كم تمنيت أن يسير الأمر على هذا النحو.
نعم اقتربت الممرضة مني، لكنها تحدثت وهي تشير بإصبعها في وجهي بمنتهى الجدية "انتبه لما سوف أقول من فضلك حتى لا تتألم، ويمر الأمر بسلاسة وهدوء، سوف أضع الخرطوم الآن في فمك، وما عليك إلا أن تنفذ ما أقوله بكل دقة".
تعودت في تلك المواقف أن أغمض عيني إلى أن ينتهي الأمر، فليس لدي أي حب استطلاع لمعرفة ولا مراقبة ما يحدث، فقط انتهوا أيها السادة مما تفعلون وأطلقوا سراحي.
وبالتالي تم الأمر كله من خلال حاسة السمع فقط، فسمعتها تقول "استعد.. ها أنا قد وضعت الخرطوم في فمك.. ابلع.. ابلع مرة أخرى.. رائع.. لا تتحرك من فضلك"، ما هذا؟ لقد ابتلعت للتو خرطومًا يصل إلى معدتي، ليست المرة الأولى التي أفعلها، لكنني كنت تحت تأثير البنج، أما الآن فقد ابتلعته وأنا مستيقظ! وبدأت أسمع الطبيب يشرح ما يرى ويتناقش مع آخرين، ثم قال لي "تمام.. لقد انتهيت"، حمدت الله فقد تم الأمر سريعًا على غير ما توقعت.
لكنه عاد للمناقشة مرة أخرى، ثم قال "لا تقلق.. بقي سؤالان فقط"! عن أي أسئلة يتحدث؟ ماذا يحدث خارج سور مجرى عيوني، الذي أغلقته طوعًا لا كرهًا؟ وبدأت أقلق، وكلما تحرك الخرطوم في حلقي صرخت غصبًا عني مع شعور بالرغبة في القيء، إلى أن جاءت النجاة على يد الممرضة وهي تسحب الخرطوم بسرعة ومهارة من حلقي، قائلة: "لقد انتهينا".
وفتحت عينيَّ لأرى الطبيب وإلى جواره أطباء صغار حضروا الجلسة ليتعلموا! لقد نسيت أنه معهد تعليمي وهذا هو المعتاد فيه، وأخبروني أن القلب نظيف من الجلطات، ويمكن عمل الصدمة الكهربية، والتي يجب أن تتم في نفس اليوم.
استلمت تقرير نظافة قلبي من الجلطات، وذهبت مسرعًا إلى الاستقبال لعمل استمارة دخول إلى العناية المركزة، وبعد الانتهاء من رحلة روتين مملة استقبلتنا ممرضات الرعاية الرائعات، ولا أبالغ إن نظمت فيهن شعرًا لإحساسهن الشديد بالمرضى، وحسن تعاملهن مع الجميع.
لا تقلق سوف ينتهي الأمر في لحظات، تنصرف بعدها بساعات قليلة إلى بيتك، جاء الطبيب ومعه جهاز كنت أشاهده فقط في التليفزيون، ذلك الجهاز ذو القبضات الحديدية التي يضعونها على الصدر لإفاقة المرضى، ولا أخفيكم أنني قد ارتعبت لرؤيته!! لكنهم أكدوا أن المخدر لن يجعلني أشعر بشيء، وضعت الممرضة الحقنة في يدي ثم فوجئت بها تسأل "يا حسام، هيا أخبرني ما اسمك؟" وقبل أن تلحظ نظرتي الذاهلة من سؤالها العبقري قالت "ما اسمك يا حسام، لماذا لا ترد؟"، ابتسمت لها وأدركت أنها قد حقنتني للتو بالمخدر.. لكنني ما زلت مستيقظًا! قلت لها "أنا صاحي"، فأشار لها الطبيب، فجاءت بحقنة أخرى ووضعتها في يدي، ثم كررت السؤال "ها يا حسام.. ما اسمك؟"، ضحكت هذه المرة بصوت عالٍ، وأدرت وجهي حتى لا تغضب مني، لكن عندما التفت إليها مرة أخرى فوجئت بالطبيب والممرضات وقد اختفوا، كأن الأرض انشقت وابتلعتهم!
هل كان كل هذا حلمًا؟ وجدت زوجتي تجلس إلى جواري وعلى وجهها حزن غير خافٍ، سألتها: ماذا حدث؟ أين الطبيب؟
فأخبرتني أن الجلسة قد انتهت منذ نصف ساعة، وأن القلب لم يستجب للكهرباء، وأن الطبيب قال إن هناك انقطاع في الضفيرة الكهربية، وقرر أن أتناول علاجًا لمدة 24 ساعة، بعدها سوف يكررون الصدمة الكهربية مرة أخرى، وأخبروني أن حالتي قد تتطلب البقاء في المستشفى فترة طويلة، وليس بضع ساعات وفقًا لسيناريو نجاح الصدمة.
سألتني زوجتي هل شعرت بشيء؟
أجبتها بالنفي، فأخبرتني أن صرخاتي كانت تصلهم في الخارج لدرجة أبكتها، تحدثت وأنا أنظر إليها متعجبًا، وكأنها تحكي لي قصة شخص آخر، فأنا لم أشعر بأي شيء، كل ما أتذكره أنني أدرت وجهي ضاحكًا، ثم عاودت الالتفات إلى الممرضة لأجد زوجتي بدلًا منها! ماذا حدث في تلك الفترة؟ الله أعلم.
ما أجمل هذا "البنج" إن كان ما قالته زوجتي صحيحًا، الحمد لله أنني لم أشعر بشيء مما حكته لي؛ ولذلك عندما حضر الطبيب في اليوم التالي لإجراء المحاولة الثانية، كنت أنظر إليه بهدوء تام، هيا يا صديقي افعل ما تشاء، المهم حقنة المخدر.
كان يبدو طبيبًا مخضرمًا، نظر إلى الشاشة الصغيرة، التي يظهر عليها رسم القلب، وعد دقاته، ثم قال: "أنا لا أرى داعِ لإعادة الصدمة، لا فائدة من ذلك، لن يستجيب القلب، يفضل أن تنصرف وتلتزم بالدواء فقط".
نظرت إليه لا أدري ماذا أقول، لكنني وجدت لساني يتفوه دون أمر مني: على فكرة دكتورة عزة أخبرتني أن القلب يمكن أن يستجيب في المرة الثانية، فقال هي أستاذتنا بالطبع، سوف أعود إليها، لكن غالبًا لن تكون هناك محاولة أخرى، وتركتني وانصرف، لكنه بعد دقائق عاد قائلًا: حسنًا سوف نعيد المحاولة، د.عزة تقول إنك لابد أن تحصل على فرصتك كاملة، ولن نخسر شيئًا من المحاولة ".
سألني بكامل وعيه وإرادته: كم حقنة مخدر احتجت بالأمس، أجبت ومعي زوجتي والممرضة في صوت واحد: حقنتان، فنظر إلى سقف الحجرة، وقال للممرضة أعطيه حقنة واحدة، قلت له يا دكتور قلت لك حقنتان، نظر في وجهي متعجبًا من هذا الأحمق الذي لا يعرف مصلحته، بل ويبدو أنه يريد أن يفتي في مجال لا يعلم عنه شيئًا، لكنه قال: حسنًا فلتجعليها "حقنة ونصف"، وقبل أن أفتح فمي جاءت الممرضة ووضعت الجرعة في يدي قائلة، وهي تكرر نفس السؤال اللوذعي: "ما اسمك يا حسام؟"، تلك المرة لم أضحك فقد كنت قلقًا من جرعة المخدر القليلة!!
وعندما أعادت السؤال قلت لها: يا ستي اسمي حسام.. والله العظيم حسام.. وما زلت مستيقظًا، ثم أدرت وجهي للجانب الآخر كما فعلت بالأمس، لكنني عندما التفتت إليهم هذه المرة وجدت طبيبًا شابًا يجلس بجواري واضعًا المقابض الحديدية على صدري، والطبيب المخضرم يقف أمام الجهاز.
تلك المرة أدركت فورًا أنني قد أفقت من البنج، ومعنى ذلك أن الجلسة قد انتهت، إذن لماذا يجلسون هكذا ويحيطون قلبي بتلك المقابض الحديدية؟ دار كل ذلك في عقلي في لحظة قبل أن أسمع الطبيب يقول: هيا، وفجأة أطلقوا الكهرباء في جسدي، لكن هذه المرة وأنا مستيقظ! احترت في وصف تلك اللحظة في هذا المقال، كل ما يمكنني قوله أنني شعرت -دون أي مبالغة- أن قذيفة قد انطلقت من "مدفع هاوتزر" إلى صدري؛ لأتحول إلى ذرات متناثرة في الهواء، أقول ذلك لأنني خدمت في سلاح المدفعية الثقيلة، وأعلم جيدًا صوت الطلقة وتأثيرها المدمر، وبدأت في الصراخ الشديد وأنا أقول: "ليييه، حرام كده.. حرااام".
لم أجرب هذا الصراخ من قبل، وأرجو الله ألا يجربه أحد! ألم شديد لدرجة أفقدتني الوعي ولم يفيقني إلا صوت زوجتي وابني يبتسمون ويقولون إن المحاولة قد نجحت، وإن القلب قد استعاد انتظام دقاته، وأنا أنظر إليهم والدموع تنساب من عيني، ليس فرحًا بما يقولون، ولكن ألمًا من أثر الصدمة الكهربية.
كانت زوجتي قد سجلت تلك الأحداث حتى أسمع وأعرف قدر صراخي، الذي تعجبت من وصفها له بالأمس، عندما استمعت إلى صوت صراخي سالت دموعي، إذا كانت مجرد صدمة كهربية يمكن أن تسبب لنا كل ذلك الألم، فما بالنا بألم العقاب الذي قد نتلقاه جزاءً لما غفلنا عنه في حياتنا، إلا ما رحم ربي.