يحسب للدكتور مصطفى مدبولي رئيس الوزراء، في ميزان حسناته الإدارية، ذلك الحوار المهم الذي عقده مع عدد من رجال الأعمال الفاعلين في مصر، والذين يمثلون بحجم أموالهم واستثماراتهم وأفكارهم العمود الفقري للقطاع الخاص المصري.. فقد طرح النقاش ملفات وقضايا من العيار الثقيل تمثل في مجملها قلب التحديات التي تواجه مصر، وفي تفاصيلها تطرح حلولًا واقعية لهذه التحديات، وتؤسس لعلاقة جديدة بين الدولة والقطاع الخاص هدفها الأسمى المصلحة العليا للوطن.
قيمة وأهمية هذا اللقاء أنه جاء مع نهاية عام صعب اقتصاديًا على مصر، وقبل أيام قليلة من طلوع فجر عام جديد يتوقع أن يحمل تحديات اقتصادية أيضًا ربما لا تقل في حدتها عن العام المنصرم، لكن هناك مؤشرات تؤكد قدرة الاقتصاد المصري على تجاوزها، كما حدث في العام المنقضي، كما تنبع أهمية اللقاء أنه جاء على وقع تطورات جوسياسية تعصف بالمنطقة وتفرض تداعيات وتحديات كبيرة على مصر ترفع من درجة المخاطر وتزيد من حدة التحديات.
ولعل وجود رؤية مشتركة ومستنيرة بين القطاع الخاص والحكومة يمكن أن تحول التحديات إلى فرص والأزمات إلى إنجازات تعود بالنفع الكبير على الاقتصاد المصري في العام الجديد، إذا ما خلصت النية وسلمت النفوس وتجلت الإرادة وحلت العزيمة؛ إذ إن اللقاء الذي اتسم بالصراحة والوضوح وعدم المجاملة، وضع خارطة طريق جديدة للاقتصاد المصري إذا ما تم الأخذ بمكونات وعناصر ما ورد فيه من مقترحات وأفكار خارج الصندوق، يمكن أن تنقل مصر إلى موقع آخر على طريق النماء والتطور، والتخلص من تداعيات الأزمة الاقتصادية، التي أصبحت تشكل عبئًا لم يعد يحتمله المواطن.
ربما تكون بعض الانتقادات التي وجهها رجال الأعمال ليست في محلها، أو تكون بعض المقترحات ضمن سياسة الحكومة التي تنفذها، لكن الذي لا يمكن تجاهله أن هناك أفكارًا مهمة طُرحت، وهناك نيات طيبة، وهناك أيضًا إرادة قوية على مواجهة التحديات وإيجاد الحلول.
وفي تقديري أن التحرك الوطني المسئول من جانب الحكومة بعد هذا اللقاء هو البدء فورًا في دراسة المقترحات بموضوعية وتجرد والإسراع في وضع السياسات التنفيذية لها؛ لأنه لا وقت يمكن إضاعته.
أعتقد أن هناك قضايا وملفات تم طرحها لا يختلف عليها اثنان، وتمثل حجر الزاوية ومرتكزًا أساسيًا في أي تحرك جاد لحل الأزمة الاقتصادية؛ وفي مقدمتها زيادة معدلات الدين، وهنا تم تناول مقترح ربما يحمل حلولًا جديدة لهذه الأزمة الخطيرة؛ وهو نقل أصول الدولة إلى البنك المركزي المصري، وتصفير المديونيات بالجنيه، مع إنشاء صندوق سيادي تابع للبنك المركزي، يضم شركات وعقارات وأراضي جميع الجهات الحكومية والسيادية، ووفقًا لهذا المقترح تقوم الموازنة العامة للدولة ببيع هذه الأصول للبنك المركزي؛ مما يؤدي لتصفير ديونها والفوائد عليها والبنك المركزي يكون مالكًا لهذا الصندوق بنسبة الأغلبية، مقابل نسبة للجهات السيادية التي تضع فيه شركاتها الخاصة، وقد تم تنفيذ هذه التجربة في إسبانيا وإيطاليا واليونان لإنقاذها خلال أزمة الديون.
ولعل هذا المقترح يكون جديرًا بالدراسة إذا كان يقدم مثل هذا الحل لقضية كبيرة تمثل عبئًا كبيرًا على الاقتصاد المصري؛ إذ إنها تؤرق ميزانية الدولة التي تذهب نسبة كبيرة منها إلى سداد الدين وفوائده مما لا يوفر موارد كافية للاستثمار والإنفاق على الخدمات.
ملف ارتفاع معدل الفائدة أيضًا يمثل معضلة كبيرة أمام الاستثمار، فلا يعقل أن تستمر الفائدة عند 32%، بينما تدعو الدولة إلى زيادة الاستثمار، وهنا لا بد من البحث عن حلول للتضخم غير سلاح الفائدة، فالمؤكد أن الاستثمار هو مفتاح كل الأزمات؛ فهو يعني زيادة تدفقات الدولار، ويعني أيضًا زيادة التوظيف.
وبمناسبة التوظيف أثيرت قضية الجهاز الإداري للدولة، والذي أصبح معوقًا للاستثمار؛ نتيجة غياب الكفاءات والمهارات، نظرًا لتوقف التوظيف به منذ سنوات، وبالتالي آن الأوان لتحديث هذا الجهاز عبر ضخ كوادر جديدة به تواكب التطور الذي تشهده الدولة، لا سيما أن هناك آلاف الطلاب المصريين الذين يدرسون في جامعات أجنبية يمكن الاستعانة ببعضهم في الجهاز الإداري للدولة.
من بين مقترحات رجال الأعمال أيضًا لمواجهة التحديات الحالية الاستعانة بالنماذج الناجحة من القطاع الخاص في المجالات المختلفة؛ لوضع خطط واضحة لزيادة العوائد الدولارية، ولا شك أنه مقترح جدير بالتنفيذ؛ نظرًا لأن القطاع الخاص لديه تجارب وخبرات متطورة في هذا المجال، ويمكن من خلال هذه الآلية وضع خطة تزيد تدفق النقد الأجنبي، وتعظيم قنوات الموارد التقليدية للنقد الأجنبي.
قضية أخرى تحتاج إلى حلول جذرية هي قضية الضرائب، وهي بالمناسبة قضية قديمة حديثة فلا يعقد أي لقاء مع القطاع الخاص إلا وتم عرض هذه الشكوى المزمنة التي تعوق الاستثمار، ولا أدري لماذا تصر الحكومات المصرية على عدم توحيد الضرائب وجعلها رقم واحد بدلًا من التعددية وتغييرها من آن لآخر، وبالتالي فإن توحيد الضرائب سيؤدي إلى مزيد من ضبط المنظومة وجذب الاستثمارات، ولا يعقل أن تتعامل الضريبة مع الشركات الكبيرة فقط، والتي تمثل 30% من السوق، بينما هناك 70% من شركات "تحت بير السلم" لا تخضع للضريبة؛ لذلك فإن إعادة النظر في الضريبة وتوحيدها مع الوصول إلى المتهربين سيكون إجراءً مهمًا على صعيد دعم الاقتصاد وزيادة الاستثمار.
تلك بعض القضايا المهمة وليس كلها التي تناولها اللقاء المهم، وهي من وجهة نظري قضايا محورية لا تحتمل الانتظار ولا التأجيل، وأن الحكومة جادة في التعامل بحسم معها، وهو ما بدا من الدكتور مصطفى مدبولي الذي ثمن ما تم طرحه، وأكد بهدوئه المعهود واهتمامه الواضح ترحيبه بهذه الأفكار والعمل على تنفيذها عبر التعاون مع القطاع الخاص.
واختتم باقتباس من كلام رئيس الوزراء إذ قال :"مصر تستطيع العام المقبل 2025 أن تتجاوز الكثير من التحديات الحالية".
وأقول: نعم نستطيع إذا ما أخذنا بالأسباب، وتحركت الحكومة على الفور بإيجاد حلول ناجزة للتحديات.
حفظ الله مصر وجيشها العظيم
[email protected]