مع طى صفحة بشار الأسد فى سوريا، بوتيرة متسارعة وغير مسبوقة، كشر جيش الاحتلال الإسرائيلى عن أنياب فعل عدوانى شديد الشراسة ضد جيشها، عبر إصدار الأوامر لسلاح الجو لدك وتدمير مواقعه وقواعده ومراكزه الإستراتيجية فى مختلف أنحاء البلاد فى المدن الرئيسية والساحل والأرياف، ضمن عملية واسعة النطاق امتدت على مدى الأسبوع الماضى، فى متوالية لم تتوقف تنبئ عن انتقام وثأر دفين من هذا الجيش، الذى تجرأ على الدخول فى حروب ضد إسرائيل عامى 1967 و1973.
موضوعات مقترحة
صحيح أنه لم ينخرط فى معارك يمكن وصفها بالشاملة منذ التوقيع على اتفاق فض الاشتباك فى العام 1974، إلا مرات محدودة، ومعظمها جرت وقائعها فى لبنان فى ثمانينيات القرن الماضى، غير أن قادة إسرائيل لا ينسون من رفع السلاح ضدهم ولو بعد حين، ومن اتخذ المستوى السياسى والعسكرى فيه القرار بمحو الجيش السورى من خارطة وطنه زمانا ومكانا، عبر شن نحو 400 غارة جوية خلال العشرة أيام الأولى من سقوط نظام بشار الأسد ما أفضى إلى تدمير طائرات من طراز «ميج 29» و«سوخوى» ومروحيات متنوعة بقواعد فى جميع أنحاء البلاد، كما تم تدمير الصواريخ المتطورة المضادة للدبابات وصواريخ أرض جو وصواريخ جو جو، وأنظمة مضادة للطائرات وصواريخ إستراتيجية مضادة للطائرات فى دمشق ومحيطها، ووحدات للدفاع الجوى ومستودعات صواريخ أرض أرض، وتركزت الضربات الجوية لمقاتلات جيش الاحتلال على المواقع العسكرية ومستودعات الأسلحة، وكتائب الدفاع الجوى فى جنوبى سوريا، مثل دمشق وريفها، ودرعا والقنيطرة، كما استهدفت مراكز الأبحاث العلمية العسكرية، ومطارات عسكرية، بما فى ذلك مطار المزة العسكرى فى دمشق، بالإضافة إلى المطارات والقطع العسكرية المنتشرة فى المنطقة الوسطى، مثل حماة، وفى شمال شرقى البلاد، استهدف القصف الجوى مطار القامشلى، وفوج طرطب، ومطار دير الزور العسكرى.
وامتد القصف الجوى العنيف إلى مناطق الساحل السورى، كان أخطره فى الساعات الأخيرة من ليلة الأحد الماضى، مستهدفا مدينة طرطوس التى بدا ليلها أشبه بالنهار، بفعل النيران الملتهبة التى نتجت عن الانفجارات شديدة الوطئة، التى أحدثها القصف - حسب قول ضابط سابق فى الجيش السورى لوكالة الأنباء الألمانية - الذى لفت النظر إلى أن مقاتلات الاحتلال، استخدمت صواريخ لأول مرة فى القصف على الأراضى السورية، حيث سمع دوى انفجارات لمسافات تتجاوز عشرات الكيلومترات، لاسيما أن المواقع التى استهدفت كانت مما يتطلب هذه النوعية من الصواريخ لتدمير أسلحة داخل الكهوف، مثلما جرى مع تدمير أنفاق فى العاصمة دمشق بحجة أنها تحتوى على صواريخ ومنصات لإطلاقها، بعد أن سمحت السلطات الحاكمة الجديدة لبعض الفضائيات العربية بتصويرها من الداخل.
وعلى الرغم من أنه لا يوجد حصر دقيق للأضرار والأسلحة المدمرة بفعل غارات مقاتلات الاحتلال، فإن البيانات تفيد بأن سلاح الجو السوري، كان يمتلك 330 طائرة مقاتلة وقاذفة روسية من طراز (ميج 29 وسوخوى 24 وسوخوى 22 وميج 25 وميج 21)، إضافة إلى مئات المروحيات الروسية، كما كان يمتلك أنظمة دفاع جوى روسية من طراز (إس 200 وإس 300)، إضافة لمنظمة (بانتسير-إس1) متوسطة المدى، بالإضافة إلى صواريخ أرض ــ أرض روسية من طراز (سكود-س) يصل مداها إلى أكثر من 300 كيلو متر، وصواريخ (سكود-د) يصل مداها إلى أكثر من 700 كيلومتر، وكان يمتلك أيضا آلاف الدبابات من نوع (تى-90، وتى-72، وتى-64، وتى-55) الروسية، ولم ينج سلاح البحرية السورى من هذه الغارات، والتى أسفرت عن تدميره بالكامل، خصوصا فى موانئ طرطوس واللاذقية والبيضا، وكان يضم غواصتين من طراز أمور الروسية، وفرقاطتين من طراز بيتيا، إضافة إلى 16 زورق صواريخ روسيا من طراز أوسا و5 كاسحات ألغام روسية من طراز ييفينجنيا و6 زوارق صواريخ «تير» الإيرانية، فضلا عن صواريخ بحر- بحر من طرازات مختلفة.
كما جرى استهداف جزء من الأسلحة الكيمائية، كانت مخزنة فى معسكرات ومعامل عسكرية بمحافظتى حماة وحلب، وإن لم ترشح معلومات موثقة، تؤكد استهداف مقاتلات الاحتلال لهذه النوعية للأسلحة الكيميائية التى تراها تل أبيب واحدة من أخطر مصادر التهديد لأمنها. بالإضافة لتدمير 20 موقعا لفرع المخابرات الجوية، كانت تحتوى على قدرات تكنولوجية ووسائل للحرب الإلكترونية.
وفى ضوء ذلك - كما يشير خبراء - فإن ما بين 80% و90% من بنية الجيش السورى، باتت ليست فى خانة الماضى فحسب، وإنما فى خندق التخريب والتدمير الشامل، أى أن سوريا أصبحت بلا أنياب أو مخالب.
وتؤشر حالة المحو التى تعرض لها الجيش السورى، وبهذا القدر من الضخامة كما ونوعا، إلى أن تدميره ظل على الدوام هدفا إستراتيجيا للكيان الإسرائيلى، ربما لم يتمكن من تحقيقه خلال السنوات الخمسين المنصرمة بفعل التوازانات، التى كانت تسود الإقليم والعالم، غير أن حالة السيولة الأمنية والعسكرية التى تمر بها سوريا فى المرحلة الراهنة، أتاحت بيئة مواتية لإنجاز هذا الهدف، وفى صدارة عناصرها تقدير المستوى السياسى والعسكرى فى تل أبيب، إن القوات التابعة للمعارضة التى أسقطت نظام الأسد فى غضون 11 يوما، ستظل مشغولة بفرض سيطرتها على مفاصله ومؤسساته، وتثبيت حضورها السياسى والأمنى فى المشهد السورى الجديد، لاسيما أنها تدرك جيدا أن فصائل هذه القوات لا تمتلك القدرة على مواجهة جيش الاحتلال، أو بالأحرى لا ترغب فى ذلك.
وهو ما كشف عنه أحمد الشرع قائد هيئة تحرير الشام المعروف بـ»أبو محمد الجولانى» فى تصريحات نشرها موقع التليفزيون السورى، بقوله: «إن الوضع الراهن لا يسمح بالدخول فى أى صراعات جديدة»، برغم تنديده بتوغل قوات الاحتلال فى جنوب البلاد، مضيفا:» إن إسرائيل تستخدم ذرائع واهية لتبرير تجاوزاتها الأخيرة، وأنها تجاوزت خطوط الاشتباك بشكل واضح، مما يهدد بتصعيد غير مبرر فى المنطقة، لكنه أوضح - فيما يبعث برسالة طمأنة لتل أبيب - أن الوضع السورى المنهك بعد سنوات من الحرب والصراعات، لا يسمح بالدخول فى أى صراعات جديدة، وأن الأولوية فى هذه المرحلة هى إعادة البناء والاستقرار، وليس الانجرار إلى نزاعات قد تؤدى إلى مزيد من الدمار، مؤكدا أن الحلول الدبلوماسية هى السبيل الوحيد لضمان الأمن والاستقرار، بعيداً عن أى مغامرات عسكرية غير محسوبة.
وتعيد عملية محو الجيش السورى من ذاكرة المكان والزمان إلى الأذهان، ما تعرض له الجيش العراقى عقب سقوط بغداد فى براثن قوات الغزو الأمريكى فى التاسع من إبريل من العام 2003، حيث أعلن الحاكم المدنى الأمريكى بول بريمر حل القوات المسلحة العراقية والأجهزة الأمنية، وقوات الحرس الجمهورى والمحاكم العسكرية ومحاكم أمن الدولة، وتسريح مئات الآلاف من الضباط والجنود والموظفين العاملين بالمؤسسات التى يشملها القرار، فضلا عن تعليق عمليات التجنيد للخدمة العسكرية، وتسليم جميع الممتلكات والمبانى الخاصة بالمؤسسات التى تم حلها إلى الإدارة الأمريكية بالعراق، وهى خطوة فتحت الأبواب على مصراعيها لحرب أهلية واقتتال داخلى، والتمهيد لفتنة طائفية ومذهبية لم تسكت أصواتها حتى اليوم، فى ظل تطبيق منهجية المحاصصة فى مناصب الدولة الحساسة، الأمر الذى يثير المخاوف من أن يؤدى زلزال تدمير الجيش السورى إلى توابع سياسية وأمنية واجتماعية، فى ظل غياب مؤسسة عسكرية قوية مركزية بمنأى عن الفصائلية، التى ستفرض سطوتها على المشهد السورى شاء أو أبى البعض، حتى على الرغم مما أعلنه الشرع من اعتزامه حل الفصائل المسلحة ودمجها فى جيش جديد، وهو أمر لن يكون بالسهولة التى يتصورها زمنيا، حيث ستتطلب متسعا من الوقت، قد يمتد لسنوات طويلة نظرا لحالة الخلخلة التى وقعت.
وموضوعيا لأن كل فصيل شارك فى الحراك الأخير الذى أسقط دمشق، سيطالب بنصيبه من كعكة السلطة والثروة والامتيازات ما قد يقود إلى نزاعات فيما بين هذه الفصائل، إلا إذا تمكنت القوى الإقليمية والدولية المعنية بالشأن السورى من فرض مقارباتها، التى عبرت عنها فى الاجتماعات التى احتضنتها مدينة العقبة الأردنية يوم السبت الماضى، بمشاركة أعضاء لجنة الاتصال الوزارية العربية التى تضم الأردن والسعودية والعراق ولبنان ومصر، وأمين عام جامعة الدول العربية، بحضور وزراء خارجية قطر والإمارات والبحرين، وتركيا، كما شارك أيضا فى الاجتماعات دول أعضاء فى المجموعة المصغرة حول سوريا، وهى: ألمانيا، وفرنسا، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة، بالإضافة إلى الممثلة العليا للاتحاد الأوروبى للشئون الخارجية والسياسة الأمنية، والمبعوث الأممى لسوريا، وأهم ما خلصت إليه هذه المقاربات هو:
- ضرورة دعم عملية انتقالية سلمية سياسية سورية - سورية جامعة، تتمثل فيها كل القوى السياسية والاجتماعية السورية، وبمن فيها المرأة والشباب والمجتمع المدنى بعدالة، وترعاها الأمم المتحدة والجامعة العربية، ووفق مبادئ قرار مجلس الأمن رقم 2254 وأهدافه وآلياته.
- تشكيل هيئة حكم انتقالية جامعة بتوافق سوري، والبدء بتنفيذ الخطوات التى حددها القرار للانتقال من المرحلة الانتقالية إلى نظام سياسى جديد، يلبى طموحات الشعب السورى بكل مكوناته، عبر انتخابات حرة ونزيهة، تشرف عليها الأمم المتحدة، استناداً إلى دستور جديد يُقره السوريون، وضمن تواقيت محددة وفق الآليات التى اعتمدها القرار.
- دعم دور المبعوث الأممى إلى سوريا، والطلب من الأمين العام للأمم المتحدة تزويده بكل الإمكانات اللازمة، وبدء العمل على إنشاء بعثة أممية لمساعدة سوريا؛ لدعم العملية الانتقالية فى سوريا ورعايتها، ومساعدة الشعب السورى الشقيق فى إنجاز عملية سياسية يقودها السوريون وفق القرار 2254.
- الحث على حوار وطنى شامل، وتكاتف الشعب السورى بكل مكوناته وأطيافه وقواه السياسية والاجتماعية؛ لبناء سوريا الحرة الآمنة المستقرة الموحدة التى يستحقها الشعب السورى بعد سنوات طويلة من المعاناة والتضحيات.
- ضرورة الوقف الفورى لجميع العمليات العسكرية، وضرورة احترام حقوق الشعب السورى بكل مكوناته، ومن دون أى تمييز على أساس العرق أو المذهب أو الدين، وضمان العدالة والمساواة لجميع المواطنين.
- ضرورة الحفاظ على مؤسسات الدولة السورية، وتعزيز قدرتها على القيام بأدوارها فى خدمة الشعب السوري، وحماية سوريا من الانزلاق نحو الفوضى، والعمل الفورى على تمكين جهاز شرطى لحماية المواطنين وممتلكاتهم ومقدرات الدولة السورية.
- الالتزام بتعزيز جهود مكافحة الإرهاب والتعاون فى محاربته، فى ضوء أنه يشكل خطراً على سوريا وعلى أمن المنطقة والعالم، ويشكل دحره أولوية جامعة.
- التضامن المطلق مع الجمهورية العربية السورية الشقيقة فى حماية وحدتها وسلامتها الإقليمية وسيادتها وأمنها واستقرارها وسلامة مواطنيها، وتوفير الدعم الإنسانى الذى يحتاج إليه الشعب السوري، بما فى ذلك من خلال التعاون مع منظمات الأمم المتحدة المعنية، مع العمل على تهيئة الظروف الأمنية والحياتية والسياسية للعودة الطوعية للاجئين السوريين إلى وطنهم، وتقديم كل العون اللازم لذلك، وبالتعاون مع منظمات الأمم المتحدة المعنية.
توغل فى سوريا
ولم يتوقف أمر إسرائيل عند حد الفعل العدوانى المتمثل فى محو الجيش السورى، إنما أقدم على فعل عدوانى لا يقل شراسة وعدوانية، تجلى فى التخلى من جانب واحد، عن اتفاقية فض الاشتباك الموقعة مع الحكومة السورية فى العام 1974، فى أعقاب حرب أكتوبر المجيدة فى العام 1973 من جانب واحد، ثم احتلال منطقة جبل الشيخ فى هضبة الجولان المحتلة منذ عدوان يونيو1967، التى كانت تخضع لسيطرة الجيش السورى، بعد أن نجح فى استعادتها خلال حرب أكتوبر، وهى تتسم بأهمية إستراتيجية بحكم أنها تطل على فلسطين ولبنان، إلى جانب أنها تبعد عن دمشق بمسافة 45 كيلو مترا، ما يتيح لجيش الاحتلال رصد ومتابعة كل ما تشهده العاصمة السورية من وقائع وتهديدها على نحو مباشر، لاسيما أنها ترتفع على سطح البحر بـ2814 مترا، أى إنها شديدة الارتفاع، وأعقب ذلك احتلال المنطقة العازلة بين الجانبين، بعد أن طرد منها جيش الاحتلال قوات الطوارئ الدولية، التى كانت تقوم بمراقبة الهدنة على مدى يزيد على نصف قرن، وهى منطقة يبلغ طولها أكثر من 75 كيلومترا، ويترواح عرضها بين 10 كيلومترات فى الوسط، و200 متر فى أقصى الجنوب، وتواصل التوغل البرى إلى أطراف مدينة البعث فى القنيطرة بامتداد 18 كيلو مترا، ومدينة قطنا بامتداد 10 كيلومترات داخل الأراضى السورية، بل الاقتراب من تخوم دمشق بنحو25 كيلومترا.
وجاء هذا التطور فى سياق منظور للمؤسسة الأمنية فى الكيان الإسرائيلى، يقوم على أن توغل وحدات الجيش والمدرعات، يتم وفق ما تراه أجهزة الاستخبارات العسكرية من حاجة إلى ضمان منطقة أمنية واسعة، بمشاركة لواءى المظليين «شلداغ» و»الكوماندو»، ووحدة سلاح الهندسة والجو والمدرعات، وأن احتلال قمة جبل الشيخ السورية «يتيح إمكان رؤية واسعة لطريق دمشق - بيروت، والسيطرة على طرق تهريب وتوغلات فى هذه المناطق، أما فى المساحة الأقرب للحدود الإسرائيلية فى الجولان المحتل، فقد واصل جيش الاحتلال خلال الأسبوع الماضى إقامة العوائق والخنادق، ضمن الاستعداد لمواجهة أية عمليات هجوم أو تسلل من سوريا، حسب مزاعمه.
وعلى الرغم مما يبدو من بلوغ ذروة التفاخر لدى الكيان الإسرائيلي، بما اعتبرته المؤسستان العسكرية والسياسية، إنجازا كبيراً لهما فى بسط السيطرة على منطقة واسعة فى سوريا وتدمير أخطر تهديد لها من الأسلحة، التى كانت فى حوزة الجيش السوري، فإن ثمة من حذر من تنامى الشعور بنشوة النصر التى لم يخفها رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، الذى اعتبر- فى مؤتمر صحفى يوم الاثنين قبل الماضى - أن ما نفذه جيش الاحتلال فى غضون أيام قليلة فى سوريا، وسيطرته على مناطق واسعة فى العمق السوري، تلبى حاجة أساسية وضرورية لضمان أمن وسيادة بلاده، مشدداً على أن هضبة الجولان ستبقى إلى الأبد جزءا لا يتجزأ من إسرائيل، وإن تل أبيب فتحت منذ الأحد الماضى فصلا جديدا فى تاريخ الشرق الأوسط، فنظام الأسد انهار بعد 54 عاما من الحكم، ورأى أن سوريا لم تعد كما كانت «نقطة انطلاق للنفوذ الإيرانى وقناة لتهريب الأسلحة لـحزب الله فى لبنان»، وفق تعبيره، مضيفاً: «الكل يفهم أهمية وجودنا فى هضبة الجولان، الذى يضمن أمننا وسيادتنا فى هذه المنطقة المهمة من مختلف النواحى التى لم نتنازل عنها».
وخرج من غضبه الذى انتقده عليه كثيرون عندما توجه للرأى العام، مؤكداً أنه وعد وأوفى بوعده فى أن يكون إصراره على استمرار الحرب، بهدف صياغة شرق أوسط جديد، مذكرا بما قاله بعد يومين من السابع من أكتوبر من العام المنصرم: «إننا سنغير الشرق الأوسط، وها نحن اليوم ننجح فى لبنان وسوريا وغزة بتفكيك محور الشر تدريجاً»، وفق تعبيره - متابعاً: «إسرائيل هى مركز القوة فى المنطقة، من يتعاون معنا يربح بصورة كبيرة، ومن يعادينا يخسر بصورة كبيرة»، قمة الشعور بغطرسة القوة والاستعلاء.
ومن هؤلاء الذين حذروا من عدم التمادى فى الشعور بنشوة النصر، الباحث بالشأن الإسرائيلى أنطوان شلحت، الذى يرى أن الغارات والضربات الجوية التى شنها جيش الاحتلال على مواقع ومراكز وقواعد الجيش السورى، إلى جانب التمدد البرى الواسع، أو بالأحرى احتلال مساحات كبيرة من الأراضى السورى تعكس أطماع تل أبيب فيها، التى تخضع أطماعها التوسعية فى كل مراحل صراعها مع العالم العربى، فى سياق مشروع «إسرائيل الكبرى»، إلى الدوافع والاعتبارات الأمنية، وعلى هذا الأساس تقوم بإجراءات احتلالية على أرض الواقع، ما تجلى بصورة لافتة للنظر فى تعاملها مع الحالة السورية فور سقوط النظام، وتمثلت هذه الدوافع والاعتبارات فى القضاء على أى وجود إيرانى، وفرض رقابة صارمة تتيح للاحتلال مراقبة مناطق الحدود السورية اللبنانية، لمنع نقل الأسلحة إلى حزب الله فى محاولة منها لمنعه من استعادة قدراته العسكرية.
ومن وجهة نظر شلحت، فإن إجراءات حكومة الاحتلال وتحللها من اتفاقية وقف إطلاق النار فى العام 1974، بحسب إعلان نتنياهو، تهدف بالأساس إلى زعزعة حالة الاستقرار الداخلى بسوريا، وتحمل فى طياتها محاولات لاستفزاز فصائل المعارضة المنشغلة بتوابع سقوط نظام بشار الأسد، معتقدا أنه عندما تتحدث تل أبيب عن منطقة أمنية عازلة مع سوريا، أى أن تكون خالية من السكان، ما يعنى بوضوح تدميرا للقرى وتهجير سكانها، وهنا تكمن الخطورة، طبقا لتأكيده.
التوازن الإستراتيجى
بيد أن النتيجة الأخطر لكل ما جرى، تتمثل فى تمكن إسرائيل من تغيير التوازن الإستراتيجى الذى كان قائما لصالحها، وهو ما يؤشر بوضوح إلى أن أطماعه، لا ولن تقف عند حد، خاصة أن نتنياهو بات يشير، بعد تغيير النظام فى دمشق، إلى أن كيانه أضحى القوة المركزية فى الإقليم، ما يؤهله إلى فرض الهيمنة العسكرية والسياسية والاقتصادية على المحيط العربى، الأمر الذى يستوجب تحركا عربيا يتسم بكفاءة ونجاعة أكثر فاعلية، ولعل البيان الذى أصدره مجلس جامعة الدول العربية فى اجتماعه على مستوى المندوبين الدائمين، يشكل المدخل للتعاطى مع هذه الإشكالية الخطيرة، أو القطرة الأولى المطلوبة من غيث عربى مطلوب فى هذه المرحلة، فقد تمخض عن هذا الاجتماع صدور قرار يندد بتوغل جيش الاحتلال داخل نطاق المنطقة العازلة مع الجمهورية العربية السورية، وسلسلة المواقع المجاورة لها بكل من جبل الشيخ ومحافظتى القنيطرة وريف دمشق، واعتبار ذلك مخالفا لاتفاق فك الاشتباك المبرم بين سوريا وإسرائيل عام 1974، ومن هذا المنطلق يشدد القرار العربى على أن الاتفاق المشار إليه يظل ساريا طبقا لقرار مجلس الأمن رقم 350 الصادر فى العام ذاته، ومن ثم انتقاء تأثر ذلك الاتفاق بالتغيير السياسى الذى تشهده سوريا حاليًا، مؤكدا أن هضبة الجولان أرض سورية عربية، وستظل كذلك للأبد.
طالب القرار المجتمع الدولى بإلزام إسرائيل، بوصفها السلطة القائمة بالاحتلال، بالامتثال لقرارات الشرعية الدولية ذات الصلة، لاسيما قرار مجلس الأمن رقم 497 لعام 1981، والذى يطالب إسرائيل بالانسحاب من الجولان السورى المحتل. وبموجب هذا القرار تم تكليف المجموعة العربية فى نيويورك بالتحرك لعقد جلسة خاصة فى مجلس الأمن لبحث الممارسات الإسرائيلية التى تهدد السلم والأمن الدوليين، بما فى ذلك الاحتلال المستجد للأراضى السورية التى توغل بها جيش الاحتلال منذ الثامن من ديسمبر الجاري.
التوسع الاستيطانى
أما الفعل العدوانى الثالث، الذى يؤكد نيات حكومة الاحتلال فى البقاء الأبدى فى الأراضى السورى، تجسد فى التوسع فى الاستيطان فى الجولان المحتلة، فى ضوء خطة قدمها نتنياهو لمجلسه الوزارى الذى أقرها فى اجتماعه الأحد الماضى، تقوم على تشجيع النمو الديموغرافى لمضاعفة سكان الهضبة المحتلة، فضلا عن استيعاب سكان جدد ضمن قناعة، بأن» تعزيز مرتفعات الجولان هو تعزيز لدولة إسرائيل، وهو أمر مهم بشكل خاص فى هذا الوقت، سنواصل التمسك بها، ونجعلها تزدهر، ونستوطنها»، وفق بيان حكومة الاحتلال.
وقوبلت هذه الخطوة برفض عربى وإقليمى واسع لاسيما من مصر، التى أعربت فى بيان لوزارة الخارجية، عن رفضها الكامل وإدانتها لقرار حكومة الإسرائيلية بالتوسع فى الاستيطان فى الجولان السورى المحتل، بما يمثل انتهاكا صارخا لسيادة الدولة السورية ووحدة أراضيها، معتبرة أن الخطط الإسرائيلية للتوسع فى الاستيطان داخل أراضى الجولان السورى المحتل المخالفة للقانون الدولى إصراراً على فرض سياسة الأمر الواقع، وتعكس مجددا افتقاد إسرائيل للرغبة فى تحقيق السلام العادل بالمنطقة، ومواصلة التوسع فى الاستيلاء على أراض عربية وتغيير الوضع الديموغرافى للأراضى التى تحتلها، فى انتهاك سافر للقانون الدولى وللمواثيق الدولية، بما فى ذلك اتفاقيات جنيف الأربع بوصف إسرائيل السلطة القائمة بالاحتلال.
وطالبت مصر الأطراف الدولية الفاعلة ومجلس الأمن بالاضطلاع بمسئولياتهما فى رفض تلك الانتهاكات للسيادة السورية ولوضع حد للاستيطان الإسرائيلى.
واللافت أن كل هذه الأفعال العدوانية التى تنتقص من سيادة سوريا، بل قد تؤدى إلى فرض مخطط تقسيمها حسب ما تتطلع إليه وتعمل عليه حكومة نتنياهو، لم تشحذ همة واشنطن فى إعلان رفضها لها أو على الأقل مطالبة تل أبيب بتوقفها، وإنما أبدت إدارة بايدن تفهمها لها عبر التصريحات التى أطلقها مستشار الأمن القومى الأمريكى جيك سوليفان ودافع فيها عن العمليات التى ينفذها جيش الاحتلال فى سوريا، مؤكدا إن الكيان الإسرائيلى «يملك الحق فى الدفاع عن نفسه فى مواجهة المخاطر التى تهدد أمنها، ووصل الأمر به فى المؤتمر الصحفى المشترك عقب مباحثاته مع رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو خلال زيارته لتل أبيب نهاية الأسبوع الماضى إلى القول: «إن ما يفعله جيش الاحتلال هو محاولة تحديد التهديدات المحتملة، سواء كانت تقليدية أم أسلحة دمار شامل، التى قد تهدد إسرائيل، وتهدد آخرين أيضا بصراحة»، لافتا النظر إلى أن الفراغ فى السلطة قد يفسح المجال أمام نمو جماعات إرهابية، وأن السلطة الجديدة فى دمشق قد تكون معادية لجيرانها، بما فى ذلك إسرائيل، وإن لم يجزم بذلك قائلا: «كل هذه احتمالات».
باختصار، وفرت الولايات المتحدة لتل أبيب الغطاء السياسى والعسكرى والأمنى فى انتهاكاتها بسوريا، وإن اعتبرت على استحياء توغل قواتها داخل المنطقة العازلة فى الجولان ينبغى أن يكون مؤقتا، وحتى الاتحاد الأوروبى وحلف الناتو ظلوا فى حالة صمت وسكون، لكن الأمم المتحدة عبرت عن موقف رافض، دون أن تمتلك القدرة على إجبار القوة القائمة بالاحتلال بوقف هذه الانتهاكات، وحسب المتحدث باسمها فستيفان دوجاريك، فإن هذه الأفعال تشكل انتهاكا لاتفاق 1974 حول فض الاشتباك، دون أن يشير إلى أن حكومة الاحتلال قامت بإلغائه، وشدد على أنه «يجب ألا تكون هناك قوات أو أنشطة عسكرية فى منطقة الفصل، مطالبا كل من تل أبيب ودمشق بالاستمرار فى تنفيذ بنود اتفاق 1974 والحفاظ على استقرار الجولان.