Close ad

"أيام صعبة" تنتظر تركيا

25-12-2024 | 14:57

لقد سقط بشار الأسد ونظامه، لكن سوريا لا تزال ساحة صراع عنيف لمجموعة من الدول الفاعلة،  وتقاتل بأقصى طاقتها لتأمين مصالحها في سوريا استغلالًا للوضع الهش، والفراغ الخطير في السلطة في سوريا.

وبالرغم من أحاسيس النشوة لدى النخبة التركية بتمكن الفصائل الموالية لها من إزاحة بشار ونظامه، إلا أن القوى الغربية لن تترك سوريا لتركيا، ولن تقف روسيا وإيران تتفرجان بعد خسارة استثماراتهما في سوريا، فطهران لديها ديون تقدر بـ60 مليار دولار على النظام المخلوع، أما روسيا فسوف تحارب بقوة من أجل قاعدتي حميميم الجوية وطرطوس البحرية. 

وفي المقابل الدول العربية لديها هواجس ومخاوف بشأن اليوم التالي في سوريا، وسيناريوهات المستقبل، وأي نظام سيحكم، وهل تسقط سوريا فريسة للإرهاب، وهل تنزلق سوريا لتصبح دولة فاشلة، أو ستقسم سوريا، وتبدأ لعبة سقوط دول أخرى بفعل تأثير لعبة الدومينو. 

هذه هي ملامح الواقع بقسوته بعيدًا عن أجواء الابتهاج، وكلها تقول إن تركيا تنتظرها "أيام صعبة" بعد إسقاط الأسد، وحتمية بدء جولة ثانية من الصراع حول سوريا، وأن سوريا لن تترك لتركيا وحدها لتهندسها كما تشاء؛ باختصار الكل له مصالحه، والغالبية راهنت بالمال والسلاح وأمور أخرى، والآن ترغب في حصة من سوريا الجديدة.

وفي اللحظة الراهنة، ومع تولي "هيئة تحرير الشام" القيادة الفعلية، لا تزال سوريا تتعرض للهجوم من قبل الدول المجاورة، وتظل مسرحًا للقتال الداخلي بين الجماعات ذات المصالح المتعارضة. 

ويبدو أن بعض اللاعبين يسعون إلى استغلال هذا الفراغ المحتمل في السلطة، حريصين على استخدام تضاريس ما بعد الأسد لتوسيع السيطرة أو القضاء على الأعداء.

وتسعى تركيا إلى القضاء على المسلحين الأكراد، وضربت إسرائيل بقايا الأصول التي كان يمتلكها الجيش السوري ووسعت سيطرتها الإقليمية، بينما كثفت الولايات المتحدة ضرباتها على تنظيم "داعش" ونقلت السفن الحربية إلى المنطقة، وضاعفت واشنطن قواتها في سوريا بعكس ما تردده من عدم اكتراثها بسوريا.

ويبدو أن تركيا الرسمية تدرك تعقيدات الموقف حاليًا في سوريا، وحرص وزير الخارجية التركي هاكان فيدان على التأكيد أن بلاده ستعمل مع الإدارة الجديدة في سوريا لضمان نجاح المرحلة الانتقالية، وأنها على اتصال مع أصدقائها العرب؛ السعودية ومصر وقطر والأردن والعراق، وأصدقائها الأمريكيين.

وأشار هاكان إلى الاجتماعات التي عقدت في الدوحة بين الدول الثلاث الضامنة لـمسار آستانة، "تركيا وروسيا وإيران"، والدول العربية السعودية ومصر وقطر والعراق والأردن، وأشاد بـ«المبدأ البناء» لهذه الدول، مؤكدًا استمرار التعاون مع الأطراف الإقليمية والدولية من أجل استقرار سوريا والحفاظ على سيادتها وعودة اللاجئين إلى بلادهم.

وفي الوقت الذي ترسل أنقرة تطمينات، فإن القوات التركية والفصائل الموالية لها تعمل على تحقيق أهداف تركيا بقوة السلاح.

وجاء تحرك الفصائل الموالية لتركيا للسيطرة على مدينة منبج، بعد السيطرة على مدينة تل رفعت، الأسبوع الماضي، وهما من الأهداف الرئيسية لتركيا مع عين العرب "كوباني"، وفي حال السيطرة على المدن الثلاث، سيكون وجود وحدات حماية الشعب الكردية في غرب نهر الفرات انتهى تمامًا، وستتوجه المعارك بعد ذلك للسيطرة على القامشلي في محافظة الحسكة في شمال شرقي سوريا. 

ويقول الخبراء إنه إذا تمت السيطرة على المدن الثلاث في غرب الفرات والقامشلي في شرق الفرات، فإن تركيا تكون قد أغلقت تمامًا حدودها الجنوبية، وأبعدت وحدات حماية الشعب الكردية إلى عمق 30 إلى 40 كيلومترًا، وهي المسافة التي ترغب في تحقيقها لتشكيل منطقة آمنة وحزام أمني على حدودها الجنوبية.

ويحلو للبعض التبشير بإرهاصات بداية شرق أوسط جديد، ويأملون في صفقة كبرى لإعادة الاستقرار للمنطقة، وذلك على أمل أن يكون المستقبل خاليًا من التدخل الأجنبي الذي ابتليت به المنطقة لفترة طويلة. 

وأغلب الظن أن ذلك أمر بعيد، وذلك بالنظر لوجود مصالح دولية متعارضة، ورغبة الأطراف الإقليمية والمحلية في "المغالبة لا المشاركة"، ولم نزل نشهد "لعبة صفرية"، وأي ترتيبات هي مؤقتة وللإعداد لجولة صراع مقبلة، ولم تصل غالبية القوى المتصارعة لحقيقة أنه "لا حلول عسكرية"، وأن البديل هو تسويات مؤلمة شبه عادلة حتى يمكن لها الدوام.

وفي الوقت الذي بشرت نهاية نظام الأسد بعصر جديد في سوريا، إلا أنها أعلنت عن تطور تركيا من قوة إقليمية إلى رقم مهم في صناعة الأحداث العالمية، ولكن ذلك بلا شك يواجه بمقاومة عنيفة من دول أوروبية مثل فرنسا وإيطاليا واليونان.

فضلا عن رغبة واشنطن في عدم تمدد أنقرة بعيدًا عن "أجندة المصالح الأمريكية"، وتصادم مصالح تركيا مع إيران وروسيا.

وأحسب أن الأدوار بقدر ما توفر من مزايا وتؤمن مصالح فإنها تتطلب "تكلفة عالية"، ويكفي هنا فقط الإشارة إلى تكلفة اللاجئين السوريين على تركيا، والسؤال الأهم هو هل تملك أنقرة إمكانات إعادة إعمار سوريا، والتي تقدرها الأمم المتحدة بـ400 مليار دولار؛ بل هل تملك تعويم النظام الجديد المطارد بمئات علامات الاستفهام لعل أهمها: هل سيوفر الأمن والحرية والحياة الكريمة، ويعيد الأرض السورية المحتلة، أم سوف يبيع كل شيء من أجل السلطة؟!

وهنا سوف تحدث المقارنة لا محالة ما بين دعم طهران لسوريا ولبنان لاستعادة الأرض، وفي المقابل نظام سوري تتبناه أنقرة يفرط في الأرض والسيادة، وربما يتسبب في تقسيم سوريا.

ومما يجعل هذه المخاوف مبررة، وعلامات الاستفهام مشروعة هو حديث الإعلام التركي نفسه عن مخاطر المستقبل في سوريا، فقد اعتبرت صحيفة "صباح" التركية مؤخرًا أن تغيير السلطة في سوريا قد يصاحبه 5 سيناريوهات محتملة لتطور الأوضاع، قد تصل إلى انقسام الدولة السورية وانهيارها.

السيناريو الأول: قيام جمهورية سوريا الديمقراطية من خلال تحالف أحزاب المعارضة بمختلف فصائلها وأيديولوجياتها.

ووفقًا للصحيفة، فإنه وبالرغم من صعوبة تحقيق هذا السيناريو، فإنه سيحظى بدعم تركيا وروسيا والولايات المتحدة والدول الأوروبية، كون من شأن هذا الخيار الحفاظ على سلامة سوريا.

السيناريو الثاني: إعلان قيام "جمهورية سورية إسلامية" نواتها تنظيم "هيئة تحرير الشام" الإرهابي، وفي هذا السيناريو، ستكون إدارة سوريا في يد ممثلي التيار السلفي الذين "لا يحملون عداء أيديولوجيا لإسرائيل والولايات المتحدة".

السيناريو الثالث: قيام "دولة مناهضة للشيعة تحت سيطرة إسرائيل" في سوريا، وسترتكز عقيدة هذه الدولة على مواجهة النفوذ الإيراني، وفرض حصار على "حزب الله" اللبناني وحرمانه من الدعم اللوجستي والعسكري الذي تقدمه طهران. 

السيناريو الرابع: قيام "جمهورية سورية اتحادية" تحت رعاية الولايات المتحدة، وسيتم في مثل هذا السيناريو حسب الصحيفة "تقسيم سوريا إلى دويلات صغيرة متفرقة على غرار دول البلقان".

السيناريو الخامس: انقسام سوريا وتفككها واندلاع حرب أهلية فيها مرة أخرى، وهذا سيؤدي في النهاية إلى انهيارها الكامل.

وأغلب الظن أن متاعب تركيا لم تنته بل بدأت، وأهمها تهدئة المخاوف من المستقبل، وضخ مليارات الدولارات في شرايين اقتصاد منهك، وتوفير بترول وغاز بديل لما كانت تقدمه إيران لسوريا دون أن تتقاضى ثمنه؛ نظرًا لأزمة نظام بشار، وتلبية تطلعات الشعب السوري، والذي سيجرب حريته الجديدة أولًا في مواجهة تركيا.

وفي المقابل هناك أعداء كثر لانقرة لا يخفون رغبتهم في فشل أنقرة بل تقسيم تركيا، ويعملون بأقصى الجهد على احتواء تركيا الصاعدة، والأهم شيطنة تركيا وترسيخ مفهوم "الخطر التركي" بديلًا للخطر الإيراني، ومنع التقارب الطبيعي بين تركيا والعالم العربي.

وأحسب أن سقوط الأسد يمثل أصعب اختبار لتقارب تركيا مع العالم العربي، وتوفر هذه الأزمة فرصة للتعاون، وتهدئة مخاوف العواصم الأوروبية والعربية من أجندة إحياء "العثمانية الجديدة"، وهيمنة تركيا على القرار في عدد من العواصم العربية، وإذا لم تسارع تركيا بضبط خطابها غير الرسمي، والتحكم في نشوة النخبة التركية، فإن تركيا ترتكب أكبر خطأ بإعادة الخطأ الإيراني؛ بحديث نخبتها عن الهيمنة والتوسع الإيراني في العالم العربي. 

والأرجح أن الدول العربية الفاعلة ترغب في علاقة شراكة طبيعية تنمو وربما تصل لتحالف ما بين أطراف متساوية، ولن تقبل بعلاقة هيمنة أو تدخل في شئونها الداخلية.

وأحسب أن تركيا في أشد الحاجة للتنسيق الوثيق مع القاهرة حول سوريا في أقرب وقت، وهو ما سوف يترجم نجاح الشراكة الإستراتيجية ما بين القاهرة وأنقرة، ويفتح النجاح في هذا الملف الصعب المزيد من العمل معًا في ملفات أخرى ملتهبة.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا: