لا يزال البعض ينجذب إلى الخرافات والدجل، باللجوء إلى أدوات مثل أوراق «التاروت» أو يقرأ الكف أو الفنجان، رغم التقدم الكبير الذي يشهده العالم في مجال العلوم والتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي.
وللأسف تُستخدم وسائل الإعلام لترويج ممارسات لا علاقة لها بالعلم أو الواقع، فنرى بعض القنوات تستضيف "العرافين" و"الدجالين" كضيوف في برامج تليفزيونية لتحقيق نسب مشاهدة عالية، وهذه البرامج تروج للخرافات، وتسهم في تقوية الاعتقاد بأن هذه الممارسات قابلة للتصديق.
في الأسبوع الماضي استضاف أحد البرامج التليفزيونية "عرافة" تستخدم أوراق التاروت، وتنبأت خلال الحلقة بالمستقبل في مصر والمنطقة والعالم في العام الجديد 2025، ولم تترك مجالًا إلا وتحدثت فيه. ومن بين المجالات التي تحدثت فيها هذه العرافة في المقابلة التليفزيونية، مستقبل الاقتصاد الوطني وتحركات سعر صرف الجنيه المصري مقابل الدولار، ومعدلات التضخم، والأسعار، وغيرها من الأمور الاقتصادية التي تهم المواطنين.
بالمناسبة مجموعة بطاقات التاروت تحتوي على حزمة مكونة من 78 بطاقة مصوّرة، تظهر كل منها رموزًا وشخصيات محدّدة، نشأت في إيطاليا خلال القرن الخامس عشر، وتستخدم حتى الآن من قبل بعض العرافين بغرض التنبؤ بالمستقبل.
العلم والخرافة
في تصوري الاقتصاد لا يعتمد على «الطالع» أو «الحظ»؛ بل هو علم يعتمد على تحليل البيانات، والنماذج الاقتصادية، وفرضيات مدروسة، والاستعانة بالعرافين أو غير المختصين قد تؤدي إلى نشر معلومات مضللة، أو حتى إثارة الذعر بين الناس، وهذا ينعكس سلبًا على قدرة الجمهور على اتخاذ توجهات معينة، سواء كان ذلك فيما يتعلق بالادخار، الاستثمار، أو حتى فهم سياسات الحكومة الاقتصادية.
عندما يتم تبني التنبؤات المستندة إلى الشعوذة أو الجدل، تصبح المعلومات التي يتم تداولها غير دقيقة وغير موثوقة، هذه المعلومات قد تؤدي إلى قرارات اقتصادية خاطئة من قبل الأفراد والشركات، مما يعرضهم لخسائر مالية أو يسهم في تأزم الأوضاع الاقتصادية؛ على سبيل المثال، إذا تم التنبؤ بارتفاع أو انخفاض سعر الدولار بناءً على "رؤى" غير علمية، فإن الناس قد يتخذون قرارات استثمارية غير محسوبة، مثل شراء كميات كبيرة من العملات الأجنبية أو بيع ممتلكاتهم في وقت غير مناسب.
كما أن التنبؤات العشوائية التي تُبث في وسائل الإعلام قد تؤدي إلى تدهور الثقة في الاقتصاد الوطني، وهروب رؤوس الأموال، وزيادة معدلات التضخم، وتزايد البطالة نتيجة لانخفاض الاستثمارات.
الثقة في المؤسسات الاقتصادية
من جانب آخر، عندما تروج وسائل الإعلام أو بعض العرافين للتنبؤات غير العلمية، فإن ذلك يضعف الثقة في المؤسسات الاقتصادية والمصرفية الرسمية مثل البنوك المركزية، ووزارة المالية، ومؤسسات التخطيط الاقتصادي؛ الناس قد يبدأون في الشك في مصداقية هذه المؤسسات، ويشعرون بأنهم ليسوا في أيدٍ أمينة، وعندما تضعف الثقة في هذه المؤسسات، قد يحدث تراجع في التعاون مع السياسات الاقتصادية الرسمية، مما يزيد من تعقيد الوضع الاقتصادي.
والتنبؤات التي لا تستند إلى أسس علمية تروج لفكرة أن القضايا الاقتصادية يمكن أن تُفهم وتحل عبر البساطة أو الحظ، هذا يشجع على التفكير السطحي، ويسهم في نشر ثقافة لا تعترف بأهمية التحليل المعمق والبحث العلمي، ويمكن أن يؤدي ذلك إلى تجاهل الحلول الفعالة والطويلة الأمد التي تعتمد على أسس اقتصادية صحيحة، وبالتالي تزداد فرص الفشل في مواجهة التحديات الاقتصادية الكبرى.
في عالم الاقتصاد، الوقت والموارد نادران، عندما يتم اللجوء إلى التنبؤات العشوائية أو الشعوذة، يتم إهدار الجهود والموارد في محاولة متابعة أو تنفيذ إستراتيجيات غير قائمة على أسس علمية، وقد تدفع الأفراد إلى توجيه استثماراتهم أو جهودهم في مشاريع غير مجدية بناءً على "تنبؤات" غير علمية، مما يؤدي إلى خسائر مالية، وأحيانًا تدمير الفرص الاقتصادية طويلة الأمد.
ضبط الأداء الإعلامي
في ظل انتشار البرامج التلفزيونية التي تلجأ إلى الجدل والشعوذة، خاصة فيما يتعلق بالتنبؤات الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية، ينبغي أن يتخذ المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام مجموعة ما لديه من آليات واتخاذ الإجراءات اللازمة لضبط الأداء الإعلامي وضمان تقديم محتوى هادف وموثوق به للجمهور.
وينبغي أن يضع المجلس قواعد تمنع استضافة الأشخاص الذين يقدمون "تنبؤات" غير مدعومة بأي أدلة علمية أو منهجية، في حال كان الضيف يدعي القدرة على التنبؤ بأسعار العملات أو التوجهات الاقتصادية بناءً على شعوذة أو آراء شخصية غير مبنية على أسس علمية، بل ويجب أيضًا أن يتدخل لإيقاف هذه البرامج.
وفي حال تم عرض محتوى يمكن أن يتسبب في التضليل أو التشويش على الجمهور، مثل التنبؤات التي لا تستند إلى أسس علمية، يجب أن تلتزم هذه القنوات بوضع تحذيرات أو إخلاء مسئولية في نهاية البرنامج، بحيث تُوضح للمشاهدين أن هذه المعلومات قد لا تكون دقيقة، وأنها لا تعكس الواقع الفعلي.
لقد استبشرنا خيرًا بقرار المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام برئاسة المهندس خالد عبدالعزيز بتشكيل لجنة ضبط أداء الإعلام الرياضي، وكان لقرارات هذه اللجنة، التي تضم نخبة من أنبغ الصحفيين والإعلاميين، أكبر الأثر في ضبط أداء هذا القطاع الجماهيري.
ويمكن للمجلس أن يعزز دور الرقابي أيضًا لضبط أداء الشاشات التي تتناول القضايا الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، عبر تكوين لجان من الخبراء والمختصين لتقويم أداء مثل هذه البرامج التي تتناول القضايا الحساسة.
أضرار كبيرة
إن الاقتصاد علم معقد يعتمد على البيانات والتحليل المنهجي، واللجوء إلى الدجل والشعوذة في التنبؤ بالأسعار والمؤشرات الاقتصادية يمكن أن يتسبب في أضرار كبيرة على جميع الأصعدة، ومن المهم أن يثق الناس في الخبراء المؤهلين الذين يعتمدون على الأدوات العلمية والاقتصادية لفهم وتحليل الأسواق، وبدلًا من الانجراف وراء التنبؤات العشوائية، ينبغي للأفراد والمجتمعات السعي دائمًا للاستفادة من المعرفة العلمية التي تبني حلولًا مستدامة ومستندة إلى الواقع.
العلم والتكنولوجيا قادران على تقديم حلول دقيقة ومدعومة بالأدلة، مستندة إلى أسس علمية، خاصة عندما يتعلق الأمر بالقضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية أو أي موضوع يتطلب تحليلًا دقيقًا واتخاذ قرارات مستنيرة، بدلًا من اللجوء إلى الدجل والشعوذة.