Close ad

وفاء أحمد رامي لناجي.. وعبدالوهاب لشوقي

22-12-2024 | 16:33

مواقف الوفاء بين الأصدقاء كثيرة ومتنوعة ويذكرها التاريخ بأحرف من نور.. لكنني أحببت أن أكتب عن موقفين.. أولهما للشاعر الكبير أحمد رامي (9 أغسطس 1892– 5 يونيو 1981) مع صديقه الشاعر إبراهيم ناجى (31 ديسمبر 1898– 27 مارس 1953).. وهو موقف نادر الحدوث بين الشعراء المتنافسين دومًا.

حين كلف رامي نفسه اختيار الأبيات المناسبة للغناء والتلحين في قصيدة الأطلال لناجي، وتجنب الأبيات غير المناسبة أو الثقيلة على الغناء، ومن ثم تلافى التكرار، ثم من تلقاء نفسه أضاف 6 أبيات أخرى من قصيدة الوداع لإبراهيم ناجي، فتصل الأطلال في النهاية إلى 32 بيتًا بدلًا من 125 بيتًا بفضل الشاعر أحمد رامي.

هذه التحفة الفنية المتقنة التي غنتها السيدة أم كلثوم (31 ديسمبر 1898– 3 فبراير 1975).. في عام 1966 أي بعد وفاة ناجي بنحو 13 عامًا، جعلت الكثيرين يشهدون بطيب نفس رامي وشدة وفائه لصديقه.. فقد كان قارئًا جيدًا لكل قصائد ناجي؛ ولذلك اختار منها ما يمكنه أن يسير مع الحالة النفسية لقصيدة الأطلال.

رامي بعد وفاة ناجي، أراد تحقيق أمنية صديقه؛ بأن تغني له أم كلثوم من أشعاره، وهي التي كانت تستصعب قصائده وتقول لناجي: "قصائدك صعبة الغناء يا ناجي".. لكن رامي بخبرته الطويلة مع أم كلثوم عرف يُنقح قصيدة ناجي، ويدمج القصيدتين لتخرج للدنيا رائعة الأطلال.

والغريب أن هناك من اعتبر أن الكلمات المختارة من قصيدة الوداع هي أقوى كلمات في قصيدة الأطلال المغناة، ومازالت الناس تردد "هل رأى الحبُّ سكارى مثلنا؟! كم بنينا من خيالٍ حولنا!".. ومشينا في طريق مقمرٍ تثبُ الفرحةُ فيه قبلنا!

..وتطرب بـ"وضحكنا ضحك طفلينِ معًا وعدونا فسبقنا ظلنا!" ولم يفكروا لحظة أنها من قصيدة أخرى.. والفضل يعود لأحمد رامي.

وعلى سبيل التندر اعتبر البعض دقة اختيار رامي لأبيات القصيدة المغناة، حصارًا لموهبة ناجي الشعرية في قصيدة واحدة.. خاصة بعد نجاحها الساحق، ومن ثم أطلق على إبراهيم ناجي "شاعر الأطلال".

كتب رامي يرثي ناجي قائلا: "في شهر فبراير الماضي، وقبل أن تمتد يد الردى إلى الدكتور إبراهيم ناجي، سألتني الهلال الغراء عن الصديق الذي أركن إليه، والرجل الذي أحب أن أعيش معه ما بقي من العمر، فلم أتردد في ذكر اسم الصديق إبراهيم ناجي؛ لأنه كان مثلًا للرجولة، مثلًا للوفاء".

ولأن الإحسان يقابل بالإحسان، فقد كان رامي هو الآخر مثالًا للوفاء لناجي.

أما الموقف الثاني فكان للموسيقار محمد عبدالوهاب (13 مارس 1902– 4 مايو 1991).. تجاه أحمد بك شوقي (16 أكتوبر 1868– 14 أكتوبر 1932)..

فهو وفاء التلميذ للأستاذ والابن لمتعهده ومعلمه.. فبعد وفاة أمير الشعراء بنحو 6 سنوات؛ (أي في عام 1938) قرر عبدالوهاب غناء وتلحين قصيدة من قصائد أحمد شوقي، ليعيد تذكير الناس بشوقي العظيم، وهو الذي كان ملء السمع والبصر، ووصلت شهرته إلى كل أرجاء العالم العربي.

اختصر عبدالوهاب قصيدة "مضناك جفاه مرقده" التي يعارض فيها شوقي الشاعر الأندلسي الضرير الحصري القيرواني، إلى 15 بيتًا فقط بدلا من القصيدة الأصلية المكونة من 27 بيتًا.

عبدالوهاب أراد رد الجميل أكثر من الوفاء نفسه.. رد جميل أحمد شوقي عليه.. فشوقي ارتقى بأسلوب محمد عبدالوهاب وهذبه وعلمه كيف يأكل "بالشوكة والسكين".. وقربه من الملوك.. حتى صار الناس يقولون إن عبدالوهاب "متربي تربية ملوك"، والفضل يعود في ذلك إلى أحمد بك شوقي.

القصيدة ذاعت في الآفاق بعدما غناها المطرب والملحن الشهير محمد عبدالوهاب.. ويتذكرها الناس لشوقي كما يتذكرون لحنها المكتمل لعبدالوهاب؛ لدرجة أنهم عدوها واحدة من أفضل ما غنى ولحن عبدالوهاب.
الأغنية من فرط شهرتها، استخدمتها الطفلة المعجزة فيروز في فيلم "دهب" إنتاج 1953، بطولة أنور وجدي بعدما حولتها إلى مونولوج فكاهي بعنوان «كروان الفن وبلبله»، من كلمات بيرم التونسي وتوزيع محمد البكار، واللحن هو ذاته لحن أغنية "مضناك".

ما فعله محمد عبدالوهاب تجاه أحمد شوقي، وما فعله أحمد رامي تجاه إبراهيم ناجي.. كلاهما كمن أخرج اللؤلؤ المكنون من الأرض، ثم مسح من عليه التراب وقدمه لامعًا واضحًا جليًا لمن يحب الجمال والإتقان، والكلمة الشاعرية المكتوبة بحلاوة وروح صافية.. لكن يبقى أن مجهوده في الحفر والتنقيب والبحث قائم على المحبة وقائم على الوفاء.

[email protected]

كلمات البحث
اقرأ أيضًا: