Close ad

السِيناريو الْآخَرُ: أَمَّا السَّفِينَةُ.. وَأَمَّا الْغُلَامُ.. وَأَمَّا الْجِدَارُ..

22-12-2024 | 13:21

كانَ خرقُ السَّفِينَةِ، قمةَ المعروفِ، وكانَ قتلُ الْغُلَامِ، قمةَ الرحمةِ، وكانَ بناءُ الْجِدَارِ، قمةَ الوفاءِ.. أمورٌ ظاهرُها القسوةُ، وباطنُها الرحمةُ في أسمى صورِها، وأعظمِ معانيها. 

هَذِهِ النماذجُ التي ساقتها سورةُ الكهفِ، تلكَ السورةُ البديعةُ، المُعلمةُ، المرشدةُ، تؤكدُ الحقيقةِ الراسخة: (وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ..).
 
غُلَامُ سُورةِ الكهفِ الأشهرُ، قُتِلَ صَبيًا! عاشَ أبواه وماتا، حزينين مَكلومين علي فقدِه، دونَ أنْ يعلما، لماذا؟ ولما رفعَ اللهُ بَعضاً من الحُجُبِ، كانَ التفسيرُ: (وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْراً). 

الغُلامُ الَّذِي قَتَلَهُ الخَضِرُ، طُبِعَ يَوْم طُبِعَ كافِراً، وكانَ سَيُوقِعُ أبويه فى الطُغيانِ والكفرِ، لشدةِ محبتِهما له، وحرصِهما على إرضائِه، فكانَ موتُه خَيراً للجميعِ، هو لم يصلْ للكُفرِ، وهما عاشا وماتا مؤمنين، وكذلكَ، السفينةُ تُخْرَقُ، لتنجوَ من الملكِ الظالمِ، والجدارُ يُقامُ، لحمايةِ ثروةِ اليتيمين، ابني الرجلِ الصالحِ، من القومِ اللئامِ..

إنَّ هَذَا الكونَ الفسيحَ، لم تُبنَ أحكامُه على (ظواهر) الأمورِ، بل على (الدوافع الحقيقيةِ) في الأمرِ نفسِه. 

الظاهرُ يُحرمُ التصرفَ في أموالِ الناسِ، وفي أرواحِهم، وفي ممتلكاتِهم، من غيرِ سببٍ واضحٍ، يُبيحُ ذلكَ التصرفَ؛ لأنَّ خرقَ السفينةِ، اعتداءٌ علي ممتلكاتِ الناسِ، وقتلَ الغُلامِ، تقويضٌ لنفسٍ معصومةٍ، والإقدامَ على إقامةِ الجدارِ المائلِ، تحملٌ للتعبِ والمشقةِ، من غيرِ نفعٍ. 

وفي هَذِهِ المسائلِ الثلاثةِ، منحَ اللهُ، عبدَه الصالحَ (الخَضِرَ) قوةً عقليةً وكشفيةً، مكنتْه من معرفةِ بواطنِ الأمورِ، والاطلاعِ على حقائقِ الأشياء وأسرارِها، فيما كانَ علمُ (موسي) مبنياً علي الأمرِ الظاهرِ، ولذا فاقتْ مكانتُه في العلمِ (وَعَلَّمْنَٰهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا) مكانةَ موسى النبي، عليه السلامُ، الذي طلبَ منه صراحةً؛ احتراماً لهَذِهِ القُدراتِ الخاصةِ، التي امتنَ اللهُ تَعَاَلي عليه بها، دونَ غيرِه: (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا..) 
وكلمةُ السرِ، أنَّ هَذِهِ المسائلَ كُلَّها، بُنيتْ على حكمةٍ واحدةٍ، مؤداها: عندَما يتعارضُ الضرران، يجبُ تحملُ الأدنى، لدفعِ الأعلى؛ وهَذَا هو الأصلُ المعتبرُ في التأويلِ، فكسرُ جزءٍ من السفينةِ، أهونُ كثيراً من مصادرتِها، وقتلُ الغلامِ، أرحمُ به، وبوالديه، من الطُغيانِ والكُفْرِ المنتَظَرين، والتنازلُ عن الأجرِ، في بناءِ الجدارِ للأيتامِ، في القريةِ البخيلةِ اللئيمةِ، قليلٌ جداً أمامَ المحافظةِ على الكنزِ، لابني الرجلِ الصالحِ، إكراماً وتقديراً..

كم بكتْ قلوبُنا، وضاقتْ صدورُنا، حتي أصبحنا وكأنَّنا نتنفسُ من خُرمِ إبرة! لأنَّنا فقدنا أملاً، أو ضيعنا حُلْمٌاً، فهَذَا تزوجَ بغيرِ محبوبتِه، وهَذِهِ لم تتزوجْ أصلاً، هؤلاءِ لم يرزقوا بالولد، وأولئكَ عاشوا وماتوا في ضيقٍ من العيشِ، رغمَ سعيهم وجدِهم. 

هَذَا أتته الدُنيا سهلةً ميسرةً، وذاكَ لم تأتِه على الإطلاقِ.. ماذا بكِ أيتُّها الحياةُ، كيفَ تبدو حساباتُك غريبةً هكذا؟! هي قطعاً ليستْ حساباتِ الحياةِ، فالحياةُ نفسُها مأمورةٌ، بل هي حساباتُ ربِّ الحياةِ، ربِ كُلِّ شيء، الذي أحاطَ علمُه بكُلِّ شئٍّ، وفاقَ لُطفُه كُلَّ شيء: 
وَكَم لِلّهِ مِن لُطفٍ خَفيٍّ.. يَدِقُّ خَفاهُ عَن فَهمِ الذَكيِّ..

يقولُ الإمامُ ابنُ عطاءِ اللهِ السكندريِّ، رَحِمَه اللهُ: رُبَّما أَعْطاكَ فَمَنَعَكَ، وَرُبَّما مَنَعَكَ فأَعْطاكَ.. إنْ فَتح لك بابَ الفَهم في المنعِ، عادَ المنعُ عَينَ العطاءِ. إنَّما يُؤلِمُكَ المَنْعُ، لِعَدَمِ فَهْمِكَ عَنِ اللهِ فيهِ. رُبَّما فَتَحَ لَكَ بابَ الطّاعَةِ، وَما فَتَحَ لَكَ بابَ القَبولِ. وَرُبَّما قَضى عَلَيْكَ بِالذَّنْبِ، فَكانَ سَبَبَاً في الوُصولِ. مَعْصِيَةٌ أَورَثَتْ ذُلاً وافْتِقاراً، خَيرٌ مِنْ طاعَةٍ أوْرَثَتْ عِزّاً وَاسْتِكْباراً. 

في القُرآنِ الكريمِ، سورةٌ مُذْهلةٌ، هي سورةُ يوسف، تسيرُ بوتيرةٍ إبداعيةٍ، غايةٍ في التشويقِ، مفادُها أنَّ الشئَّ الجميلَ، قد تكونُ نهايتُه مؤلمةً، والعكسَ بالعكسِ ! فيوسفُ أبوه يُحبُه (شيء جميلٌ) فتكونُ نتيجةُ هَذَا الحُبِ، أنْ يُلقى في البئرِ! والإلقاءُ في البئرِ (شيءٌ مؤلمٌ) فتكونُ نتيجتُه، أنْ يُكرَمَ في بيتِ العزيزِ! والإكرامُ في بيتِ العزيزِ (شيءٌ جميلٌ) فتكونُ نهايتُه، أنْ يدخلَ السجنَ! ثم دخولُ السجنِ ( شيءٌ مؤلمٌ) فتكونُ نتيجتُه، أنْ يُصبحَ عزيزَ مصرَ!

سورةُ تُحاربُ اليأسَ، وتدفعُ للتفاؤلِ، ما قرأَها محزونٌ، إلا سُرِّي عنه؛ ففيها تولى اللهُ أمرَ يوسفَ، فأحوجَ القافلةَ في الصحراءِ للماءِ،لينتشلَه من البئرِ! ثم أحوجَ عزيزَ مصرَ للأولادِ، ليتبناه! ثم أحوجَ الملكَ لتفسيرِ الرؤيا، ليُخرجَه من السجنِ، ثم أحوجَ مصرَ كُلَّها للطعامِ، ليُصبحَ عزيزَ مصرَ.

سورةٌ تُعلمُنا أنَّ المريضَ سيُشفى، والغائبَ سيعودُ، والمحزونَ سيفرحُ، والكربَ سُيرفعُ، والهمَ سيزولُ، بإذنِه سُبحانَه.. لو كُشِفَتْ حُجُبُ الغيبِ، لما اختارَ الإنسانُ، إلا ما اختارَه اللهُ له، ولو علِمنا (السِيناريو الْآخَرَ) لسجدنا للهِ شُكراً، على هَذَا الواقعِ الذي نحياه. 

اللهُ قد لا يُعطي الإنسانَ ما يطلبُه، لكنَّه يقينًا، يُعطيه ما يحتاجُه ويُصلحُه؛ فهَذَا الفقرُ يُبقيه صالحًا، وذاكَ، الفقرُ يُفسدُه، فيُغني الثاني، ويُبْقي الأولَ على حالِه، وقد تأخذُ السيناريوهاتُ أشكالًا وأنواعًا، أشدَ دقةً، وأكثرَ عبقريةً. 

فِي اَلْحَدِيثِ اَلْقُدْسِيِّ: إِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ لاَ يُصْلِحُهُ إِلاَّ اَلْغِنَى، فَلَوْ أَفْقَرْتُهُ لَأَفْسَدَهُ ذَلِكَ، وَ إِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ لاَ يُصْلِحُهُ إِلاَّ اَلْفَقْرُ، فَلَوْ أَغْنَيْتُهُ لَأَفْسَدَهُ ذَلِكَ..

إنَّ البحرَ نفسَه، الذي نجي الرضيعَ موسي، أغرقَ فرعونَ المُتجبرَ ومعاونيه!
وكانتْ أجملُ أيامِ إبراهيمَ، عليه السلامُ، تلكَ التي قضاها في النارِ!

والرضيعُ ينطِقُ في المهدِ، ليرفعَ الظُلمَ، ويدرأَ الشُبهةَ، ويضحضَ التُهمةَ، عن والدتِه التقيةِ النقيةِ، السيدةِ مريمَ العذراء. 

في عام 1993 كانَ منتخبُ زامبيا الإفريقي، منتخبًا قويًا، وفي صفوفِه لاعبٌ محترفٌ، ذائعُ الصِيتِ، اسمُه كالوشا بواليا، اختلفَ كالوشا مع مُدربِ الفريقِ، الذي استبعدَه من مباراةٍ مهمةٍ للمنتخبِ، .خارجَ البلادِ، وعجزَ الجميعُ عن إقناعِ المدربِ بإشراكِه، قالَ كالوشا: لقد بَكيتُ بحُرقةٍ، واعتصرَ قلبي حُزنًا، ثُم طلبوا منيَّ السفرَ للحاقِ بالفريقِ، فعزتْ عليَّ نفسي، فرفضتُ الطائرةُ التي سافرَ بها المنتخبُ تحطمتْ، وماتَ كلُّ مَنْ فيها، 30 راكبًا، فيهم 18 لاعبًا، بالإضافةِ لمدربِ المنتخبِ، والجهازِ الفني، إلا كالوشا بطبيعةِ الحالِ، الذي كانَ يرى بالأمسِ القريبِ، أنَّ الدُنيا أغلقتْ أبوابَها في وجهِهِ، وضاقتْ عليه بما رَحُبتْ، عاشَ ونجا! ليُصبحَ كالوشا لاحقًا، مدربًا لمنتخبِ الشبابِ، وبعدَها بنحو ثلاثينَ عامًا، وزيرًا للشبابِ والرياضةِ في بلادِه!
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ..

هَذِهِ خُلاصةُ القولِ، وهَذَا فصلُ الخطابِ، فلا تيأسْ، ولا تجزعْ، وإنْ ضاقتْ بكَ الدُنيا، فلا تقلْ: إنَّ هميَّ كبيرٌ، بل قُل: يا همُّ إنَّ ربيَّ رحيمٌ.. 
إذا رَضِتَ بما قسمَ اللهُ لكَ، فلنْ تكونَ فقط أغنى الناسِ، بل أسعدَهم أيضًا، فاللهُ جلتْ قُدرتُه، حقًا وصدقًا، هو وحدَه الذي (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ)..

كلمات البحث