يقول محمود درويش، شاعر فلسطين الأكبر: «كلما آخيت عاصمة رمتني بالحقيبة».
في الخامس من ديسمبر الحالس، كنت أردد قولا للشاعر الساخر كامل الشناوي: «عدت يا يوم مولدي، عدت يا أيها الشقي».
عمر شقي تقع فيه دائمًا أحداث ليست بعابرة، إنما تقيم حيث أمضي، هكذا سار الدرب بي وسرت به.
في المرة الأخيرة من الخامس من ديسمبر هذا، لم تكد تمر إلا أيام ثلاثة، وإذا بدمشق، التي آخيتها كثيرًا، تفر من صحراء التاريخ، وتهرب من غبار الجغرافيا، تتركني شريدًا، في الثامن من ديسمبر 2024.
دمشق المولودة قبل الأيام، قبل البيوت والخيام، يقال قبل اثنتي عشرة ألف سنة عاشت مأهولة، عمرانًا، بشرًا، ياسمينًا، أديانًا، وعقائد، ممالك وقياصرة وخلفاء، جاء منها المعنى الكبير لأديان الله، كيف اختفت، قبل أن يرتد البصر؟ كيف سقطت في هوة الغبار؟
في لمح البصر وجدت نفسها في مخالب الضباع، تهاجمها إسرائيل بضراوة، تدمر ميراثها الإستراتيجي، تقضمها قضمة قضمة، يتركها الحلفاء والأصدقاء في منتصف الطريق، والحلفاء قدر تراجيدى وقعوا في طريقها دون ترتيب.
الأول أقنعها بأن تأتي بشوارد الليل، الذين يعملون «بنادق للإيجار»، المهووسين بالجهاد الدائم بعيدا عن إسرائيل، أقنعها بأنهم سيحاربون أمريكا في العراق، تمنعت مرة ومرات، وافقت تحت الإغواء، والغفلة، وغياب البصيرة.
حقا رفض الرئيس السوري بشار الأسد ذلك العرض الخطير شهرًا كاملًا، تخوف من المصير، كيف يفعل وهو يقود حزبًا علمانيًا أن يصاهر جماعات وتنظيمات جوالة، تمتهن القتل للقتل، تعتقد أنها تجاهد في سبيل الله؟
خوف الرجل في مكانه التراجيدي، لكن الذي يفاوضه بارع، ذو خطة جهنمية، ومنطق كسروي قديم، يلعب لعبته الخطرة من أجل بلاده وليس دمشق.
نجح أخيرًا في انتزاع موافقة الرئيس السوري على اللعبة الخطرة، لعبة استمرت سنوات، راحت ترتد على دمشق الفيحاء، في لحظة تغيير خرائط الإقليم.
نهاية المفاوض الدرامية في بغداد أكدت ألعابه الخطرة، قتلته الآلة الأمريكية ورفاقه في بغداد، ويا لها من أقدار، فالرفاق الذين كانوا معه لحظة إقناع الرئيس الدكتور قتلوا معه، كان يمكن أن تصل القصة إلى نهايتها مع غياب المدبر قتلًا، وتصل الإشارة إلى الرئيس الذي أصبح رئيسًا دون أن يريد، لكنه لم يفك شفراته، تأخر الوقت.
أما الذين جاءوا إلى ليل دمشق، انتقلوا إلى بغداد، وعانوا من السجون الأمريكية، فعادوا بذخيرة فكرية تؤمن بأن دمشق التى هيأتهم هي العدو، وقع المحظور أيام 2011 الملتبسة، أيام أوباما وبايدن، واستمرت الأقدار تداعب دمشق.
أما الحليف الثاني، قائد القياصرة العائدين، فتبادل الأدوار والأماكن، نظر إلى دمشق كفكرة، تجعله يسيطر على ممالكه الضائعة زمن القياصرة، فلتكن دمشق بيضة الديك في التبادل، تركها وهو الحليف في لحظة غامضة، أسلافه كانوا يحلمون بالمياه الدافئة في المتوسط، أما هو فرأى أن مياه نهر دنيبرو أجمل.
تركوا دمشق حائرة، خائرة، في الطريق الموحش، تنقض عليها الضباع، تنزع أسلحتها الإستراتيجية، تجعلها الأرض اليباب، تسحب منها لقب عاصمة الخلافة الأموية، انتظارًا للانقضاض على بغداد، لتسحب منها عاصمة الخلافة العباسية، في لحظة تالية.
أقسم الجار الشرقي للعرب، والجار الشمالي للعرب، والبعيد عن العرب، ألا تكون لعواصم العرب منارة على هذه الأرض.
دمشق، اختبار العرب الأول، في لحظة معينة ستكشف عن جوهرها، تنتفض، تعود سالمة من الأسر، وترسل رسالة واحدة، أنا جوهر العرب القدامى، وسأبقى هكذا، أما العابرون بليل أسود فسوف يعودون إلى جحورهم، وستروي دمشق قصتهم في وقت لاحق.
يا دمشق في فمي ماء، من الذين يشمتون، والذين يدعمون إسرائيل، وهي تدنس ترابك المقدس، ومن الذين يعملون في الباب الأمريكي العالي.