نقود الإسكندر شاهدة على أمجاده في بابل.. وبحر غزة يبوح بأسرارها| صور

17-12-2024 | 22:30
نقود الإسكندر شاهدة على أمجاده في بابل وبحر غزة يبوح بأسرارها| صور الإسكندر الأكبر في بابل

في عام ٣٣٤ قبل الميلاد، عبر الإسكندر الثالث مضيق الدردنيل ليبدأ واحدة من أضخم وأنجح وأشهر الحملات العسكرية عبر التاريخ، كان الهدف الرئيسي للإسكندر هو القضاء على الامبراطورية الأخمينية الفارسية، والاستيلاء على أراضيها الشاسعة في الشرق. 

موضوعات مقترحة

 وفي عام ٣٣١ قبل الميلاد، دخل الاسكندر مدينة بابل دون مقاومة بعد انتصاره في العديد من المعارك الحاسمة التي خاضها ضد جيوش الفرس، وأجبرت امبراطورهم داريوس الثالث على الفرار. 

 رحب البابليون بالإسكندر على أمل الخلاص من الحكم الفارسي المتعسف، وعلى جانب آخر أُعجب الاسكندر بمدينة بابل، وارتأى أنها أنسب عاصمة للامبراطورية التي يسعى لتأسيسها، و بعد فترة قصيرة غادر المدينة لاستكمال حملته، وإخضاع كامل أراضي الإمبراطورية الأخمينية، وفي العام ٣٢٤ قبل الميلاد يعود الإسكندر إلى بابل، بعد أن تقدمت قواته شرقًا حتى الهند، وخاض من المعارك ما لا يُحصى، وعانى جنوده من الإرهاق الشديد، فقد قطعوا آلاف الأميال وقاتلوا على مدار سنوات طويلة بعيدا عن وطنهم. 

 دب التمرد في جيش الإسكندر، فقرر العودة إلى بابل ليتخذها عاصمة له يدير منها إمبراطورية ضخمة تجمع الشرق مع الغرب حسب رؤيته، وتمتد أراضيها من اليونان غربًا و حتى الهند شرقًا، لكن القدر لم يمهله استكمال ترتيباته هذه، ففي عام ٣٢٣ وبعد بضعة أشهر قضاها في بابل يموت الاسكندر الكبير في قصر نبوخذ نصر عن عمر لا يتعدى الثانية والثلاثين.


خارطة تظهر سير حملات الإسكندر الأكبر

خلال إقامة الاسكندر في مدينة بابل، أجزل العطاء لمحاربيه القدامى وسمح لهم بالعودة لمدنهم محملين بالغنائم والهدايا، كما كرم قادته الكبار ومنحهم أعطياتهم بسخاء، ففي شهور قليلة ضُربت في بابل وغيرها من المدن كميات كبيرة جدُا من النقود الفضية والذهبية - خاصة الفضية - بعد أن غنم الاسكندر خزائن الفرس في برسبوليس و سوسة وباسارجاد.

و يبدو أن فضة الأخمينيين قد صُهرت وأُعيد سكها على الطراز المقدوني وحسب المعيار اليوناني الأتيكي، لكن من بين كل الفئات الفضية المضروبة بتلك الفترة سنتوقف عند أكبرها وأندرها، وهي فئة ديكادراخم  التي تساوي عشر درخمات، وتزن في المتوسط ٤٢,٥ جرام بقطر ٣٥ ملليمتر.


نموذج لنقود الإسكندر المسكوكة في بابل

بشكل عام يتشابه تصميم ديكادراخم الإسكندر مع التصميم المقدوني التقليدي، حيث نرى على الوجه تصويرًا جانبيًا لهرقل ينظر يمينًا ويعتمر فراء رأس الأسد ولبدته، أما على الظهر فنرى تصويرًا جانبيًا لزيوس جالسًا على عرشه ينظر يسارًا ويحمل على يده اليمنى الممدودة نسرًا، و بيده اليسرى يمسك صولجانًا طويلاً قائمًا، وكالعادة مكتوب على الهامش ناحية اليمين اسم الملك باليونانية القديمة AΛEΞANΔPOY (ألكساندرو) .

لا يفوتنا ملاحظة الاختلافات الطفيفة في السمات الفنية لتصوير الوجه مقارنة بمثيلاتها على القطع المضروبة قبل الإسكندر أو بعده، و هذا ما دفع بعض الخبراء لافتراض أن تلك العملات التي ضربت في حياة الإسكندر حملت ملامح وجهه في هيئة هرقل، وتلك فرضية لا يمكن إثباتها ولا يصح استبعادها.


نموذج لنقود الإسكندر المسكوكة في بابل

فيما يخص "المونوجرامات" أو رموز الإصدارات التي نراها على الظهر أسفل عرش زيوس وعلى يساره نلاحظ أنها قد جاءت متماشية مع مسلسل رموز الإصدارات على مجموعة من الفئات الأخرى التي قد عمل الخبراء على تصنيفها وترتيبها زمنيًا ومكانيًا، وبالفعل أُنجز في هذا الصدد بناءً على أدلة نمية وتحليلات للكنوز و دراسات للقوالب؛ ما يساعدنا على تصنيف الإصدارات التي تحمل تلك الرموز ضمن نطاق زمني بين سنتي ٣٢٥ و ٣٢٣ قبل الميلاد؛ و أنها من ضرب بابل.


نموذج لنقود الإسكندر المسكوكة في بابل

اعتمادًا على دراسة أكثر من ثلاثين نموذجًا من فئة "ديكادراخم" وبمقارنة رموز إصداراتها بمثيلاتها على فئة "تترادراخم"، نُصنف هنا ما وصلنا من "ديكادرخمات الإسكندر الكبير" ضمن مجموعتين تشملان خمس إصدارات، وذلك وفقًا لشكل "المونوجرامات" ومواضعها، بالإضافة لتفاصيل تصوير العرش، تضم المجموعة الأولى إصدارين، والثانية ثلاثة إصدارات. 

 و تؤكد الدراسة المتعمقة للقوالب إلى أن تلك الإصدارات لم يكن بينها فارق زمني يُذكر، فأحيانا نرى قالبُا للوجه مٌستخدمًا مع عدة قوالب للظهر كل منها ينتمي لإصدار مختلف، كما يشير العدد المحدود لقوالب تلك الإصدارات المتزامنة تقريبًا إلى أنها لم تُضرب لتكون جزءًا من الإصدارات النقدية التقليدية التي يسري التعامل بها في إمبراطورية الإسكندر.


نموذج لنقود الإسكندر المسكوكة في بابل

نموذج لنقود الإسكندر المسكوكة في بابل

وحتى عام ١٩٧٣م، كان كل ما تم توثيقه من نماذج مكتشفة لديكادرخمات الإسكندر حوالي اثنى عشر قطعة جُلها قد استخرج من بابل أو مناطق قريبة منها، مثل الكنز رقم IGCH 1749 والكنز رقم IGCH 1750، ولم يوثق منذ ذاك العام أية كنوز تحتوي على فئة "ديكادراخم"، ولكن بدءًا من عام ٢٠١٧م، ظهرت بالمزادات العالمية العديد من القطع التي يعتقد أنها قد استخرجت من البحر قُبالة ساحل قطاع غزة، وتحديدا أمام الميناء القديم المُسمى "أنثيدون" حسب شهادة بعض الصيادين الغزيين، ربما أكثر من تسعة عشر ديكادراخم قد بيعت بالمزادات منذ ٢٠١٧م حتى يومنا هذا، ويتضح عليها نمط من التآكل يشير لاستخراجها من البحر، ورغم عدم توثيق هذا الكنز ودراسته على الوجه الأمثل، إلا أنه علينا القبول بحقيقة أن هناك ربما عشرات من "ديكادرخمات" الإسكندر الكبير قد استخرجت من البحر قبالة ميناء أنثيدون القديم فيما بات يُعرف بكنز بحر غزة، والذي لا أُبالغ إن وصفته بالـ"مُذهل"، وتأسفت على ضياعه وتفرقه دون دراسته وتحليله والبحث عن أدلة أخرى في موضع اكتشافه. 

 على العموم نخلص مما سبق بأن المعروف من "ديكادرخمات" الإسكندر قد استخرج إما من بابل وما حولها، أو من بحر غزة، كما يتضح لنا نُدرة هذه الفئة مقارنة بباقي الفئات المضروبة في بابل أو في أي مدينة من المدن الأخرى بالإمبراطورية الشاسعة التي خلفها الإسكندر.


نموذج لنقود الإسكندر المسكوكة في بابل

الخلاصة 

بالنظر لما حددناه آنفًا لتلك الفئة من مكان السك ونطاقه الزمني، بالإضافة لحصر العدد المحدود جدًا لما وصلنا منها، وتأكيد تزامن إصداراتها التي بدأت وانتهت خلال فترة قصيرة، علاوة على تحديد مواقع الاستخراج المعروفة، فضلا عن عدم ملاءمة تلك القطع الكبيرة للتداول النقدي التقليدي يمكننا ختامًا ترجيح أن ديكادرخمات الإسكندر الكبير قد ضربت في بابل حصرًا لغرض خاص وليس للتداول بالاسواق، والأقرب للمنطق أنها نقدًا تذكاريًا تم سكه خلال تواجد الإسكندر في بابل ليقدمه ضمن أُعطياته إلى كبار قادة الجيش وقدامى المحاربين الذين قاتلوا بإخلاص تحت رايته لسنوات طويلة. 

و ليس من المستبعد أن الإسكندر في وقت ما قد وضع بعض تلك القطع الجميلة في يده وتأملها بزهو وشعور متضخم بالعظمة غير عالم بأنه ذاهب بعد بُرهة لمن هو أعظم.

المصادر النمية

- Martin Price , The Coinage in the Name of Alexander the Great and Philip Arrhidaeus. London: British Museum/Swiss Numismatic Society .
- Martin Price , Circulation in Babylon in 323 B.C. , New York: The American Numismatic Society .
- Margaret Thompson & Otto Mørkholm & Colin Kraay , Inventory of Greek Coin Hoards , International Numismatic Commission .
- Lloyd  Taylor , The Alexander Decadrachms of Babylon , KOINON: The International Journal of Classical Numismatic Studies, Vol 4 .
- Lloyd  Taylor , The Earliest Alexander III Tetradrachm Coinage of Babylon: Iconographic Development and Chronology , American Journal of Numismatics .
 Nancy Waggoner , The Alexander Mint at Babylon. Ph.D. Dissertation, Columbia University .-
- Zoë Sophia Kontes , The Dating of the Coinage of Alexander the Great , Numismatics Online Publication Category: Numismatics , May 2000 .

المراجع التاريخية

Paul Cartledge , Alexander the Great , Knopf Doubleday Publishing  Group 2005 . -

* فلافيوس آريانس : أيام الإسكندر الكبير في العراق ، ترجمة فؤاد جميل ، دار الوراق ٢٠٠٧
* علي ظريف الأعظمي : تاريخ الدول اليونانية والفارسية في العراق ، مكتبة الثقافة الدينية ٢٠٠١
* سيد أحمد علي الناصري : الإغريق تاريخهم وحضارتهم من عصر البرونز حتى إمبراطورية الإسكندر الأكبر ،  دار النهضة العربية ١٩٧٤
* أسد رستم : تاريخ اليونان من فيليبيوس المقدوني إلى الفتح الروماني ، منشورات الجامعة اللبنانية ١٩٦٩ 
* كارول جي توماس : عالم الاسكندر الأكبر ، ترجمة خالد غريب علي ، مؤسسة هنداوي ٢٠١٧
* قيس حاتم الجنابي : الإسكندر المقدوني ومشروعه العالمي في بابل ، مجلة مركز بابل للدراسات الإنسانية ، المجلد ٥ العدد ١

محمد عبد الحميد

باحث في تاريخ المسكوكات القديمة


محمد عبد الحميد باحث في تاريخ المسكوكات القديمة

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة