مَنْ لم يطرقْ بابَنا، والروحُ ترتجفُ، فلا مرحبًا به، والنبضُ منتظمُ!!
عندَما أصابتِ الرصاصةُ قلبي، لم أمُتْ، ولكنَّني مِتُ لما رأيتُ مُطلقَها.. قالَها جبرانُ، إذ ضاعَ الوفاءُ، وغلَبتِ المنفعةُ، وسادَ النفاقُ، وغَابَ الحُبُ.
يبدأون معكَ حياةً نصفَ ميتةٍ، فتبدأُ معهم موتاً فيه نصفُ حياةٍ، وما البالُ ببدايةٍ ليسَ فيها إشراقٌ، بدايةٍ تأتي، ومعها النهايةُ!
يأتي على النَّاسِ زمانٌ، تكونُ العافيةُ فيه، على عشرةِ أجزاءٍ، تسعةٍ منها في اعتزالِ الناسِ، والعاشرةِ في الصمت، كما أرشدَ أميرُ المؤمنين، عليٌّ ابنُ أبي طالبٍ، رضي اللهُ عنه وأرضاه..
قالَ أحدُهم: يا رسولَ اللهِ ما النَّجاةُ؟ قالَ أمسِكْ عليكَ لسانَكَ، وليسعْكَ بيتُك، وابكِ على خطيئتِكَ..
ثلاثُ نصائحَ سطرَها التاريخُ بالذهبِ، للمُعلمِ الأولِ، صلي اللهُ عليه وسلمَ، وهي إجابةٌ عن سؤالٍ شديدِ الأهميةِ والخطورةِ، عن كيفيةِ النجاةِ، أَوَلَيْسَ سؤالاً مهماً؟ بلي، مهمٌ للغاية، أَوَلَيْسَتِ النجاةُ غايةَ الإنسانِ؟ بلى، هي غايتُه فعلاً.
تنجو بنفسِك، بروحِك، بقلبِك، بعقلِك، بكُلِّ حواسِك وجوارحِك، نصرٌ عظيمٌ، لا شكَ.
وعبقريةُ الإجابةِ، تكمنُ في الإمساكِ عن الكلامِ، والتزامِ البيتِ، والبُكاءِ على الذنبِ..
أمسِكْ عليكَ لسانَكَ: توقفْ تمامًا عن الحديثِ عن الناسِ، عن أذاهم، عن تجربتِك المؤلمةِ معهم، عن عتابِهم، عن سبِهم، عن ذمِهم، وكأنَّهم والعدمُ سواءٌ، ويكفيك في شأنِهم: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ..
ومادُمتَ ستُمسِكُ لسانَك عن حديثِ السوءِ، فيقينًا ستُطلقُه بحديثِ الخيرِ، الكلامِ الطيبِ، الذِكرِ، الأمرِ بالمعروفِ، النهيِّ عن المُنكرِ.
عندَها ستشعرُ بأنَّك إنسانٌ حقًا، وستكونُ محبوبًا ومطلوبًا، إذ عفَّ لسانُك، وحَسُنَ كلامُك.
وليسعْكَ بيتُك: بيتُك أوسعُ البيوتِ، وإنْ كانَ عُشًّا صغيرًا، بيتُك الصغيرُ سترُك، فيه كرامتُك، أنتَ ملكُه وأميرُه، وصاحبُ الرأيِّ والقرارِ فيه، فيما أنتَ في قصورِ الناسِ ضيفٌ، قد يكونُ ثقيلاً، وقد تُسَاءُ معاملتُه، لقد خلقَ اللهُ لكَ نفسًا كريمةً، فلا تُعذبْها بالتذللِ للناسِ، والاحتياجِ إليِّهم، وطرقِ أبوابِهم، والأكلِ على موائدِهم، والانبهارِ بما لديِّهم من عَرَضٍ زائلٍ.
وابكِ على خطيئتِكَ: فهو طريقُ التوبةِ والإنابةِ، إذ صمتُ اللسانِ، والزهدُ فيما في أيدي الناسِ، يفتحانِ الطريقَ واسعًا نحوَ الأُنسِ باللهِ تَعَاَلي، ودائمًا، التخليةُ قبلَ التحليةِ، البكاءُ بالتوبةِ، قبلَ الطلبِ والرجاءِ.
قالَ ابنُ تيميةَ: وما يفعلُ أعدائي بيَّ؟! إنْ قتلوني، فقتلي شهادةٌ، وإنْ نَفَوني، فنفْيي سياحةٌ، وإنْ سجنوني، فسجْني خلوةٌ مع ربيِّ..الناسُ مصالحُ، يا صديقي، وعدالةُ الأرضِ مُذ خُلِقَتْ مزيفةٌ، والعدلُ في الأرضِ، لا عدلٌ ولا ذممُ.
لقد استشعرَ هَذَا النازفُ قلبُه، كيفَ إخلاصُ الكلابِ، وكيفَ خيانةُ البشرِ؟! فقالَ:
وما زالَ يرعى ذِمّتي ويَحُوطُني،،
ويَحفَظُ عِرضي، والخليلُ يخونُ ..
فيا عجٙبًا لِلخِلِّ يَهتِكُ حُرمَتي،،
ويا عجبًا للكلبِ كيفَ يصونُ ..
إخوانُ النبيِّ، أبناءُ النبيِّ، عن يوسفَ عليه السلامُ أتحدثُ، لما كانتْ لهم مصلحةٌ، قالوا لأبيهم : فَأَرْسِلْ مَعَنَآ (أَخَانَا) ولما انتهتِ هَذِهِ المصلحةُ، قالوا: يَٰٓأَبَانَآ إِنَّ (ٱبْنَكَ) سَرَقَ .. في الأولى، كانَ أخًا لهم، وفي الثانيةِ، هو فقط ابنُ أبيهم!!
بانتهاءِ مصلحتِهم، تغيرَ خطابُهم!!
وبانتهاءِ المصلحةِ، يتبددُ الودُ (المصطنعُ) وتتوقفُ الهواتفُ عن الاتصالِ، وكأننا أمامَ نهايات قصيدةِ الأطلال:
يَاحَبِيْبي كُلُّ شَيْءٍ بِقَضَاءْ **
مَا بِأَيْدينَا خُلِقْنَا تُعَسَاءْ ..
رُبَّمَا تَجْمَعُنَا أَقْدَارُنَا **
ذَاتَ يَوْمٍ بَعْدَمَا عَزَّ الِّلقَاءْ ..
فَإِذا أَنْكَرَ خِلٌّ خِلَّهُ **
وَتَلاَقَيْنَا لِقَاءَ الغُرَبَاءْ ..
وَمَضَى كُلٌّ إِلَى غَايَتِهِ **
لاَ تَقُلْ شِئْنَا! فَإِنَّ الحَظَّ شَاء..
وبعدَ ذلكَ كُلِّه، سامحْ، والتمسِ الأعذارَ، ونقِ قلبَك من الحُزنِ، وأغلقْ بابَ العتابِ، فإنَّك تُتاجرُ مع اللهِ، لا مع البشرِ، وبينَك وبينَه، سُبحانَه، حساباتٌ كثيرةٌ، ستكونُ سهلةً يسيرةً، لو كُنتَ عفوًا حليمًا..
(وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).. بلي، نعفو ونصفحُ ياربُّ، تمامًا كما فعلَ مع الآياتِ، الصديقُ أبوبكرٍ، فعفا وسامحَ وأعادَ الصدقاتِ لمَنْ خاضَ في عرضِ ابنتِه، التقيةِ النقيةِ، أمِ المؤمنين عائشةَ، رضي اللهُ عنهما وأرضاهما ..
نعفو ونصفحُ لا بأسَ، نعتزلُ ما يؤذينا، لا بأسَ أيضًا، ولا تعارضَ بينَهما على الإطلاقِ.
ونْكْتَفِي مع الناسِ، بهَذَا القَدْرِ!