لم يسلم بعض القادة من رماح المستشارة الألمانية.. وصفت ترامب بأنه مفتون بالاستبداد وبوتين بالسادية
موضوعات مقترحة
منذ أن غادرت أنجيلا ميركل منصبها فى المستشارية فى نهاية عام 2021 ، لم تقل سوى القليل، فخلال ستة عشر عامًا فى السلطة عاصرت المستشارة السابقة أربعة رؤساء أمريكيين، وعددًا مماثلًا من الرؤساء الفرنسيين، وكانت فى قلب الأحداث الرئيسية من خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى إلى أزمة اليورو، وهو ما كان يكفى لكى تقوم بنشر مذكراتها، والتى ظهرت الأسبوع الماضى بعنوان «الحرية«.
تمت كتابة الكتاب مع بيتى باومان، رئيسة الأركان السابقة والمقربة من المستشارة السابقة، حيث تبدأ المذكرات من سن الطفولة والشباب لدى ميركل، وتتحدث بلهجة شخصية غير عادية تروى من خلالها طفولتها فى جمهورية ألمانيا الديمقراطية، التى كانت تعيش فيها كابنة لأحد القساوسة، لكن فى دولة تعانى من التشكيك فى الدين ،اختارت ميركل أن تدرس الفيزياء وهو علم ليس للأيديولوجية أى تأثير عليه، بدأت حياتها كباحثة فى معهد فى برلين الشرقية. تتمتع بمستوى جيد من اللغة الروسية وتزور الاتحاد السوفيتى بانتظام، مما أدى إلى إقامتها لفترة طويلة فى دونيتسك فى الثمانينيات.
امرأة من الشرق على طول الصفحات، نتذكر معها الاضطرابات التى أعقبت سقوط الجدار فى نوفمبر 1989 وكان عمرها آنذاك 35 عامًا، حيث انضمت إلى حزب صغير، وسرعان ما ذابت واختفت داخل نسيج اتحاد الديمقراطيين المسيحيين وبناء عليه كرست نفسها للسياسة، وتمكنت هذه الشابة الشرقية من ترسيخ نفسها داخل هذا الحزب المحافظ الكبير الذى يهيمن عليه زعماء الغرب رغم وجود عوائق عديدة وتعليقات متحيزة جنسية ومتعالية.
لكن بفعل باراك أوباما عرفت أنجيلا ميركل كيف تتجاوز المصير الذى أوكلت إليه، وكان هذا التفرد هو أصل العلاقة الخاصة بين المستشارة الألمانية والرئيس الأمريكى الأسمر، ارتبط صعود أنجيلا ميركل عام 1989 بحقيقة أنها وقفت على الفور إلى جانب إعادة التوحيد، فقد كان هناك شيء واحد لم يكن موضع شك فى نظرها، وهو أن جمهورية ألمانيا الديمقراطية بحكم بنيتها لا يمكن إصلاحها من الداخل، حيث تقول عبر سطور كتابها: “يبدو الأمر كما لو أنك عندما تزرّر قميصك بشكل غير صحيح، عليك أن تبدأ كل شيء من البداية”.
فى وقت لاحق وبعد أن أصبحت نائبة، ظهرت كواحدة من أوائل الذين طالبوا بالتغييرات، بينما تعرض هيلموت كول لفضيحة مالية، عرفت ميركل كيفية العثور على حلفاء بفضل قدرتها على الحوار، فرغم أنها لا تتمتع بالإستراتيجية الكافية فإنها واثقة من قيمها وهى لا تضع أى حدود لطموحاتها.
تتخذ لهجة الكتاب بعدا أكثر حدة فور انتقالها إلى الحديث عن السنوات التى أمضتها فى السلطة، حيث تستعرض مذكراتها بدقة وتقشف. إذ تمتنع عن الإدلاء بأى تصريحات كبيرة حول مصير أوروبا، أو التعليق على أولئك الذين كانوا شركاء لها. بالكاد اعترفت أنه فى اليوم التالى للهجوم على شارلى إيبدو، اضطرت إلى الإصرار على المشاركة فى مظاهرة باريس مع فرانسوا هولاند، الذى رأى فى البداية أن وجوده لم يكن ضروريا.
لم يسلم بعض القادة من رماح المستشارة الألمانية، وكان أحد هذه الرماح موجها لدونالد ترامب، الذى على وشك أن يبدأ ولايته الثانية كرئيس للولايات المتحدة، والذى رفض مصافحتها سابقا، حيث انتقدته ميركل بشدة ووصفته بأنه مفتون بالاستبداد، وأنه يعشق الزعماء “المستبدين والديكتاتوريين”، وأنه يحكم على كل شيء من وجهة نظر المطور العقارى.
لم يسلم إيلون ماسك هو الآخر من الانتقادات، خصوصا بعدما تم تكليفه بقيادة وزارة أمريكية جديدة مكلفة بالكفاءة الحكومية، حيث وصفته فى أحد تصريحاتها، قبيل إصدار الكتاب، بأن هناك تحالفا واضحا بين ترامب ووادى السيليكون، ولكن أقوى رماحها كانت مسددة لفلاديمير بوتين، الذى ورد ذكره 136 مرة فى الكتاب، وهو الذى ترك الانطباع الأكبر، حيث وصفته بالسادية، ودللت على ذلك عندما أحضر الرئيس الروسى كلبه الكبير خلال مقابلة له مع ميركل عام 2006، وهو يعلم جيداً أنها تعانى من رهاب الكلاب، وإنها حاولت أن تبدو متماسكة أمام الكاميرات، بينما بدت المتعة والسعادة على تعابير وجه بوتين، فى اللحظة التى استشعر فيها رهبة ميركل من الكلب، ومحاولتها إخفاء ذلك حفاظا على صورتها العامة.
وصفته ميركل عبر سطور الكتاب قائلة: "رجل بالمرصاد دائمًا" خائف من سوء المعاملة ومستعد دائمًا لتوجيه اللكمات، بما فى ذلك اللعب بممارسة سلطته مع "كلب"، وإجبار الآخرين على ذلك،" ورغم كل هذه الانتقادات لشخص بوتين، فإنها تصرح فى مذكراتها، بأنها لا تزال تعتقد أنه على الرغم من كل الصعوبات، فقد أحسنت صنعا بإصرارها على عدم السماح بانهيار الاتصالات مع روسيا، والحفاظ أيضا على العلاقات من خلال التجارة، بما يتجاوز المنافع الاقتصادية المتبادلة، فروسيا تعد إلى جانب الولايات المتحدة إحدى القوتين النوويتين الرئيسيتين فى العالم وهى تجاور أوروبا.
لأن الهدف من كتابة مذكرات الشخصيات السياسية، هو تبرير القرارات السابقة، خصوصا لو كانت خاطئة، فإن ميركل استرجعت فى مذكراتها قيامها بدعم من نيكولا ساركوزى، بسد الطريق أمام أوكرانيا وجورجيا للانضمام إلى حلف شمال الأطلنطى فى قمة بوخارست، لكنها بررت موقفها بأنها لو كانت أعطت للدولتين الضوء الأخضر، كان هذا سيدفع فلاديمير بوتين إلى دخول الحرب قبل ذلك بقليل.
تعرضت أنجيلا ميركل لانتقادات كثيرة بسبب التخلص التدريجى من الطاقة النووية، وجعل ألمانيا تعتمد على الغاز الروسى الرخيص، لكنها كالعادة بررت ذلك، أنها خشيت من مخاطر الذرة بعد كارثة فوكوشيما (مارس 2011) وإنشاء خط أنابيب الغاز “نورد ستريم 1" تم التوقيع عليه من قبل سلفها الديمقراطى الاشتراكى جيرهارد شرودر، الذى أصبح فيما بعد رئيسًا للجنة المساهمين والمجلس الإشرافى لهذه الشركة.
كما تعرضت أيضا لانتقادات أشد بعد قرارها بفتح الباب أمام المهاجرين فى عام 2015، ما ساعد على صعود اليمين المتطرف من خلال سياستها الخاصة بالحدود المفتوحة. لكنها أيضا بررت الموقف بأنها أرادت مواجهة حالة الطوارئ والوقوف إلى جانب المهاجرين، لقد أرادت بذلك أن تجعل الألمان يشعرون بالفخر، وأن تقدم صورة مشرفة لبلادها.
طوال المذكرات يظهر مفهوم فريد لممارسة السلطة لدى ميركل، حيث تؤمن باقتصاد السوق الاجتماعية وحرية الأعمال وكرامة الإنسان، وبرغم ذلك لم تجعل وظيفتها مقدسة، بل إنها كانت تسعى دوما إلى تقديم التنازلات، فهى عقلانية وتكرس نفسها لمهامها، لذلك فهى غالبا ما تكون سعيدة بمصيرها، كما أنها نتنبه للآخرين.
تتحدث فى مذكراتها كثيرًا عن حبها لألمانيا، ولكنها نادرًا ما تتحدث عن قناعاتها الأوروبية، فهذه الأخيرة تظهر كخيار للعقل أكثر من خيار للقلب، فميركل تصر على أنها كانت سعيدة فى طفولتها، حتى لو كان "كل شيء يمكن أن يتغير فى ثوان معدودة"، فى ظل الديكتاتورية الشيوعية، فهى وفية لتراثها باعتبارها ابنة قس، وتدربت فى أكاديمية العلوم فى برلين الشرقية، حيث تظهر متسقة مع الصورة التى قدمتها دائمًا عن نفسها، حيث تدافع عن السنوات الست عشرة التى قضتها على رأس ألمانيا، مدعية أنها لم تندم على شيء، فقد قادت ميركل ألمانيا خلال أحداث زلزالية متعددة، بما فى ذلك الأزمة المالية وأزمة المهاجرين عام 2015، وضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014 ، بعد انتخاب دونالد ترامب لولاية أولى فى البيت الأبيض عام 2016 لقبت بزعيمة العالم الحر بعد الخطاب الذى ألقته ودعت فيه إلى الوحدة. ذكرت ميركل فى كتابها أنها تعذبت نتيجة استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى فى عام 2016 عندما صوتت المملكة المتحدة بأغلبية ضئيلة لصالح مغادرة الاتحاد الأوروبى، اعتبرت التصويت “وصمة عار” على الاتحاد الأوروبى وشعرت بالفزع إزاء الإشارة إلى أنه كان بإمكانها بذل المزيد من الجهد للمساعدة خلال المفاوضات السابقة للاستفتاء مع رئيس الوزراء البريطانى آنذاك ديفيد كاميرون، الذى كان هو نفسه يريد بقاء المملكة المتحدة.
حملت المذكرات عنوان «الحرية»، وتقول فى مقدمته: يروى هذا الكتاب قصة لن تتكرر أبدًا مرة أخرى وذلك ببساطة لأن الولاية التى عشت فيها لمدة 35 عامًا لم تعد موجودة منذ عام 1990. ولو عُرضت هذه المذكرات على ناشر باعتبارها رواية خيالية، لكان تم رفضها، هذا ما قاله لى أحد المحاورين فى بداية عام 2022 بعد أسابيع قليلة من مغادرتى منصبى كمستشارة. قصة غريبة بقدر ما هى حقيقية.
أصبح من الواضح بالنسبة لى أن تتبع الخطوط، وإيجاد الخيط المشترك، وتحديد الأفكار الرئيسية يمكن أن تكون ذات صلة بالمستقبل. لفترة طويلة لم أستطع أن أتخيل كتابة كتاب مثل هذا. ولكن هذه الفكرة تغيرت للمرة الأولى فى عام 2015، على الأقل قليلاً. فى ذلك الوقت قررت عدم السماح بإعادة اللاجئين القادمين من المجر إلى الحدود الألمانية النمساوية ليلة 4 إلى 5 سبتمبر.
لقد شهدت هذا القرار، وشهدت عواقبه خصوصاً كنقطة تحول فى فترة رئاستي. كان هناك ما قبل وما بعد، فى ذلك الوقت، قررت أنه فى يوم من الأيام، عندما أنهى وظيفتى كمستشارة سأصف مسار الأحداث، والدوافع وراء قراري، وفهمى المرتبط بأوروبا والعولمة، بشكل لا يمكن وصفه إلا فى كتاب.
لم أرغب فى ترك المزيد من الوصف والتفسير للآخرين بل احتفظت بالمسألة لنفسى، لأننى كنت ما أزال فى منصبى، وأعقب ذلك الانتخابات الفيدرالية لعام 2017 وولايتى الرابعة فى المنصب، فى العامين الماضيين، كان احتواء جائحة فيروس كورونا هو الموضوع المهيمن. لقد كان الوباء، كما قلت علناً عدة مرات، فرضاً ديمقراطياً واحداً: شخصياً ووطنياً وأوروبياً وعالمياً.
وفى الوقت نفسه كان الدافع لإلقاء نظرة للكتابة عن سياسة اللاجئين على نطاق واسع وليس محدودا، فقلت لنفسى إذا كان الأمر كذلك فسأفعل هذا مع “بيت باومان” لقد كانت تقدم لى المشورة منذ عام 1992 وهى شاهدة معاصرة. لقد تركت منصبى فى 8 ديسمبر 2021 بعد ستة عشر عامًا. تركته بسعادة بالغة. فلقد كنت فى النهاية أشتاق حقا لهذه اللحظة. لقد كان هذا كافيا وحان الوقت لأخذ قسط من الراحة، والراحة لبضعة أشهر، وترك ضيق التنفس من السياسة خلفى، من أجل بدء حياة جديدة بهدوء وبشكل مبدئى اعتبارًا من أوائل صيف عام 2022، صحيح أنها لا تزال حياة عامة، ولكنها لم تعد نشطة سياسيًا. كانت الخطة هى العثور على إيقاع للظهور العام – وتأليف هذا الكتاب.
ثم جاء يوم 24 فبراير 2022، يوم الهجوم الروسى على أوكرانيا. وأصبح من الواضح على الفور أن كتابة هذا الكتاب والتغافل عما يحدث، هو أمر غير وارد على الإطلاق. كانت الحروب اليوغوسلافية فى أوائل التسعينيات قد هزت أوروبا بالفعل. لكن الغزو الروسى لأوكرانيا أثار المزيد من التساؤلات. فلقد كان عملاً مخالفاً للقانون الدولى هز نظام السلام الأوروبى بعد الحرب العالمية الثانية، الذى كان يحافظ على وحدة أراضى وسيادة دوله.
وتلا ذلك خيبة أمل عميقة سأكتب عنها أيضا. فهذا ليس كتابا عن روسيا وأوكرانيا سيكون هذا كتابًا مختلفًا، بل أود أن أروى قصة حياتى الأولى فى ظل الديكتاتورية حتى عام 1990 والثانية فى ظل نظام ديمقراطى منذ عام 1990.
وبحلول الوقت الذى يحمل فيه القراء الأوائل هذا الكتاب بأيديهم، ستكون الحياتان بنفس الحجم تقريبا. فكل واحدة منهما استغرقت 35 عاما بالطبع، لا توجد حياتان. إنها حياة واحدة، ولكن فى الحقيقة فإن الجزء الثانى لا يمكن فهمه دون الجزء الأول. فكيف تكونت المرأة بعد أول 35 سنة من حياتها؟ خلال حياتها فى جمهورية ألمانيا الديمقراطية، كيف سُمح لها بتولى أقوى منصب يمكن أن تقدمه جمهورية ألمانيا الاتحادية لتظل فى منصبها لمدة ستة عشر عامًا؟ من الذى غادر دون الاضطرار إلى الاستقالة أو التصويت للخروج خلال فترة ولايتها؟ كيف كان الأمر عندما نشأت فى جمهورية ألمانيا الديمقراطية كابنة قس وعاشت ودرست وعملت فى ظل ظروف الديكتاتورية؟ كيف كانت تجربة انهيار الدولة؟ وكيف تصبح حرا فجأة؟ هذا ما أريد أن أخبرك به. بالطبع الوصف شخصى للغاية.
لقد حاولت الانخراط فى التأمل الذاتى الصادق، اليوم سأقوم بتسمية ما يعتبر خطأ والدفاع عما يعتقد، أنه صحيح هذا ليس تقريرا كاملا، وليس كل من يفترضه أو يتوقعه سيرى نفسه فيه، ولهذا أطلب تسامحك الآن، هدفى هو تحديد الأولويات التى أحاول من خلالها ترويض الكتلة الهائلة من المواد، وجعلها مفهومة لكيفية عمل السياسة. وما المبادئ والآليات الموجودة فيها؟ وما أرشدنى فى السياسة ليس علم الصواريخ فالسياسة يصنعها الناس بتأثيراتهم وخبراتهم، وغرورهم ونقاط ضعفهم ونقاط قوتهم ورغباتهم وأحلامهم ومعتقداتهم وقيمهم واهتماماتهم. الناس الذين يتعين عليهم النضال من أجل الأغلبية فى دولة ديمقراطية، إذا أرادوا إنجاز شيء ما .“يمكننا أن نفعل ذلك” لم أسمع أى جملة فى مسيرتى السياسية بأكملها مثل هذه الجملة، لم يكن أحد مستقطبًا إلى هذا الحد.
لكن بالنسبة لى كانت هذه الجملة تعبيرا عن الموقف. يمكنك تسميتها الثقة، أو ببساطة الإصرار على حل المشكلات والتعامل مع النكسات والتغلب على نقاط الضعف وخلق أشياء جديدة” يمكننا أن نفعل ذلك وعندما يقف شيء ما فى طريقنا يجب التغلب عليه، وعلينا أن نعمل على ذلك”.
هكذا كنت أمارس السياسة هذه هى الطريقة التى أعيش بها. هكذا جاء هذا الكتاب كل شيء ممكن، لأن السياسة لا تسهم فى تحقيق ذلك فحسب، بل يمكن لكل شخص أن يلعب دوره.