في إحدى بلادِ أوروبا المتقدمةِ، ومنذُ عقودٍ، أصبحَ نقيبُ العمالِ، وزيراً للعملِ، وعُينَ نقيبٌ جديدٌ، ذهبَ الأخيرُ بدورِه، لتهنئةِ الوزيرِ الجديدِ، فقالَ له: سيدي الوزير، لنْ أطلبَ منكَ إلا ما كُنتَ تطلبُه أنتَ، وأنتَ مكاني، من الوزيرِ الذي جئتَ مكانَه! فقالَ الوزيرُ: لكنَّني وقتَها كنتُ أحْمِلُ الآمالَ، وأنا اليومَ، أُديرُ الأموالَ! فغضِبَ النقيبُ من هَذِه الإجابةِ الصادمةِ، وقالَ له: إذنْ تذكرْ، سيادةَ الوزيرِ، أنَّك كُنتَ ماسحَ أحذيةٍ! قالَ الوزيرُ، أتذكرُ عزيزي، والأهمُ أنَّني أتذكرُ أنَّني كنتُ أُتقنُ هَذِهِ المهنةِ تماماً.
العملُ إتقانٌ، والصناعةُ إتقانٌ، وهي قاطرةُ التنميةِ، في كُلِّ زمانٍ ومكانٍ، وإذا أرادَ مجتمعٌ من المجتمعاتِ أنْ يتقدمَ، فعليه أنْ يأخذَ بأسبابِ الصناعةِ، بتعميقِها، وتطويرِها، وتحديثِها، لتُغطيَ الاحتياجاتِ الداخليةَ، من ناحيةٍ، وتقودَ مسيرةَ التصديرِ والحصولِ على النقدِ الأجنبيِّ، من ناحيةٍ أُخري.
والكلامُ عن الصناعةِ كثيرٌ، ومحاورُه متعددةٌ ومتنوعةٌ، وقد أفاضَ في الحديثِ عنها المتخصصون، وقدموا من أجلِها تصوراتٍ كثيرةً.
واليومَ أتناولُ موضوعَ الصناعةِ، من زاويةٍ أُخري، إذ شدَّني كثيراً، حديثُ القرآنِ الكريمِ، عن الصناعةِ!
والصناعةُ خلقُ، واللهُ تَعَاَلى أعظمُ الخالقين، فصناعةُ اللهِ، هي صناعةُ الكونِ الذي نعيشُ فيه، بسماواتِه، وأراضيه وجبالِه، ومجراتِه، وأنهارِه ومحيطاتِه، ومخلوقاتِه من الناسِ والدوابِ والنباتِ والشجرِ والحجرِ، وكُلِّ ما فيه..
عندَما تتأملُ هَذِهِ المخلوقاتِ الكثيرةَ، تقولُ: الله!! أتدري لماذا تقولُ هَذِهِ الكلمةَ الرائعةَ ؟ للإبهارِ والإبداعِ والإعجازِ في صناعةِ اللهِ..
صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ..
تأملْ هَذِهِ اللآلِئَّ القرآنيةَ المُذهلةَ، البدايةُ بالتأكيدِ، مَنْ الصانعُ ؟ هو اللهُ، جلتْ قدرتُه. وما شكلُ هَذِهِ الصناعةِ ؟ متقنةٌ تماماً، لا عيبَ لها، ولا عوجَ فيها، بل فاقتْ دقتُها قُدراتِ تفكيرِ البشرِ. وفِيمَ الاتقانُ تحديداً ؟ في كُلِّ شئٍّ، دونَ استثناءٍ!! رأتْه العينُ، أم خَفي عنها.
درسٌ وافٍ ومتكاملٌ، من اللهِ، لكُلِّ صانعٍ، خُلاصتُه: الصناعةُ اتقانٌ، والاتقانُ علمٌ وفنٌ، يبدأُ من الفكرةِ، ويستمرُ في جميعِ مراحلِ التنفيذِ، وحتى العرضِ في الأسواقِ.
هَذَا مصباحٌ، يتلفُ بعدَ ساعاتٍ قليلةٍ من استخدامِه، و هَذَا مصباحٌ آخرُ، شركتُه الصانعةُ، تمنحُك ضماناً مدى الحياةِ! ما هَذِه الثقةُ المفرطةُ ؟ كلمةُ السرِ (الصناعةُ مُتقنةٌ) ففيما الأولُ خدعَك بالمظهرِ فقط، دونَ الجوهرِ، تفانى الثاني في الاهتمامِ بالمضمونِ، من البدايةِ وحتى النهايةِ، فكانَ النجاحُ حليفَه، وأعطاك ما يُطمئِنُك لجودةِ مُنتجِه، ومن ثم تُقْبِلُ على شرائِه دوماً، وبلا ترددٍ، ومن الصعبِ أنْ يُقنعوك ببديلٍ غيرِه.
في صناعةِ اللهِ تَعَالَي، السماءُ مرفوعةٌ بلا أعمدةٍ، والشمسُ لا تتخلفُ يوماً، ولا تُدركُ القمرَ، ولا الليلُ سابقُ النهارِ، والهواءُ مددُه متواصلٌ، ليلاً أو نهاراً.
قلبُك وعقلُك وجميعُ أجهزتِك تعملُ، وأنتَ مستيقظٌ، وأنتَ نائمٌ كذلكَ، وجسدُك مُحملٌ بكُلِّ أسلحةِ الزَودِ والردعِ.
كُلُّ شيء في هَذَا الكونِ الفسيحِ، تحكمُه الدقةُ غيرُ المتناهيةِ، وإنْ عجزَ الإنسانُ عن الإدراكِ.
يُحكى أنَّ رجلاً وابنَه جلسا تحتَ نخلةٍ في بستانٍ، فارادَ الابنُ أنْ يُجادلَ أباه، فقالَ له: يا أَبَتِ، انظرْ إلى هَذِهِ النبتةِ الصغيرةِ، نبتةِ البطيخِ، تُثمِرُ ثمرةً كبيرةً، بينَما هَذِهِ النخلةُ، على طولِها وحجمِها وشموخِها، ثمرتُها صغيرةٌ، وكانَ المتوقعُ أنْ تكونَ ثمرةُ النخلةِ، في حجمِ البطيخةِ، لتتناسبَ مع النخلةِ ذاتِها، فيما تكونُ ثمرةُ البطيخِ، في حجمِ التمرةِ، فقالَ له: يا بُنَيَّ، لعلَّ للهِ حكمةً لا نعرفُها.
استلقى الفتى على ظهرِه ليستريحَ، و أبوه إلى جوارِه، وما كادَ الشابُ يغفو قليلاً، حتى سقطتْ من أعلى النخلة تمرةٌ، فأصابتْ وجهَه وآلمته، وصاحَ مذعوراً، فقالَ له أبوه: ماذا بكَ؟ فحدثَه بما كانَ، فقالَ الأبُ: يا بُنَيَّ، اِحْمَدِ اللهَ أنَّها لم تكنِ بطيخةً!! عجيبُ صُنعِ اللهِ، يبدو جلياً!
وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا..
توجيهٌ من اللهِ تَعَاَلي، لنبيه نوحٍ، عليه السلامُ، كانَ من الممكنِ، ونوحٌ نجارٌ أصلاً، بل بَنَّاءٌ للسفنِ، أنْ يكتفيَ ربُّنا بتوجيهه لصناعةِ السفينةِ، لكنَّ اللهَ تَعَاَلى يعلمُ، أهميةَ الدقةِ في الصناعةِ، فهي سفينةٌ ستبحرُ وسطَ أمواجٍ عاتيةٍ (وَهِىَ تَجْرِى بِهِمْ فِى مَوْجٍۢ كَٱلْجِبَالِ) إنْ لم تكنْ مؤهلةً، قد تغرقُ، وربما حتماً ستغرقُ، ولذلك أخبرَ اللهُ نبيه، أنَّه معه في هَذِهِ الصناعةِ (بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا)..
ولذلكَ نجتِ السفينةُ بالإيمانِ، ونجتِ السفينةُ بالعلمِ الذي أمدَّ اللهُ تَعَاَلى به نبيَّه..
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلاً أَنْ يُتْقِنَهُ. هكذا علمَنا المُعلمُ الأولُ، صلى اللهُ عليه وسلمَ.
أيُّ عملٍ، وإنْ قلَّ أو استصغرَه الناسُ، شريطةَ الإتقانِ والتجويدِ، يُصبحُ عملاً عظيماً.
كانتِ الحدادةُ مهنةَ نبيِّ الله داوود، وهي كل ما يُصنعُ من الحديدِ، الذي يدخلُ في معظمِ الصناعاتِ، ولذا كانَ تيسيرُ اللهِ لسُبُلِ هَذِهِ الصناعةِ، من توفيرٍ وتذليلٍ، لتتحققَ الكفاءةُ المنشودةُ:
وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ..
وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ..
بكل فخر صُنع في مصرَ، شعارٌ رائعٌ لا شكَ، والأروعُ أنْ يتحولَ إلى واقعٍ عمليٍّ ملموسٍ، نستشعرُ معه أنَّ مصرَ تتطورُ، وأنَّ اقتصادَها يتعافي، وأنَّها على الطريقِ الصحيحِ..