تقف سوريا ما بعد بشار الأسد، أمام حزمة أخطار وتحديات مصيرية سيحدد أسلوب مواجهتها مساراتها المستقبلية، ومدى قدرتها على الصمود، والابتعاد عن الوقوع في فخ أخطاء الماضي ومثالبه الكارثية، التي قادت "بلاد الشام" إلى حافة الهاوية وتشريد شعبها في بقاع الأرض، وخسارة مقدراتها وثرواتها واستنزافها في "لعبة الأمم" الدائرة على رقعتها خلال السنوات العشر الماضية، وأسفرت عن تقسيمها عمليًا بين القوى الدولية والإقليمية المتنازعة والمتناحرة.
نبدأ بأخطر وأعقد التحديات السورية الآنية والعاجلة المتمثل في المصالحة الوطنية بين مكونات وأطياف السوريين، الذين دب بينهم الخلاف والشقاق والتباعد، وتوحيدهم على كلمة سواء تعلي من المصلحة الوطنية، والحفاظ على مؤسسات الدولة، وعدم الاعتداء عليها أو نهبها أو إضعافها، وأن تتوحد صفوفهم بغية إخراج بلادهم من مستنقع الخراب والدمار والتناحر، وألا ينزلق البلد إلى الفوضى الشاملة التالية لسقوط الأنظمة، وما يجرها ويصاحبها من غياب تام للقانون، وشيوع عمليات الانتقام والثأر، التي نتابع بعض مظاهرها، لتصفية حسابات قديمة بين المواطنين الذين تعرضوا لظلم فيما مضى.
التحدي الثاني، هو المحافظة على وحدة أراضي سوريا الموزعة حاليًا بين مناطق تسيطر عليها ميليشيات تابعة للولايات المتحدة تارة ولتركيا تارة أخرى، بخلاف تلك التي تهيمن عليها فصائل وجماعات إرهابية ومتطرفة تفرض فيها قوانينها الجائرة وضرائبها، وزادت إسرائيل من الطين بلة بانتهاكها السيادة السورية بغزوها الجولان، واستيلائها على أراضٍ جديدة تحت زعم حماية حدودها، ومنحها الضوء الأخضر لقوات الاحتلال الإسرائيلية للتوغل داخل سوريا، والإعلان عن أن الجولان ستبقى إسرائيلية للأبد، حسبما أعلن بنيامين نيتانياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي المتطرف.
لم تكتف "تل أبيب" بانتهاك السيادة السورية، لكنها أمعنت وتمادت في الانتقام والانتهازية بشنها غارات على منشآت وأهداف عسكرية للجيش السوري أدت تقريبًا لتدمير البنية التحتية له، حيث استهدفت القوات البحرية والجوية والدفاع الجوي ومخازن أسلحة وذخيرة، وحتى تعيد دمشق بناء قوتها العسكرية بعد الاعتداءات والهجمات الإسرائيلية الغاشمة، وتستهدف من خلفها إقرار أمر واقعي، فإنه يلزمها سنوات طويلة، وإنفاق مليارات الدولارات، وحينما تشرع السلطات السورية الجديدة في تنفيذ هذه المهمة الثقيلة والإجبارية، فإنها مطالبة بمراعاة إعادة تأسيس الجيش على قواعد وطنية وليس طائفية، ويجب أن يكون جيشًا وطنيًا بكل ما تعنيه وتحمله الكلمة من معانٍ والتزامات.
وما من شك في أن إسرائيل تعد المستفيد الأكبر مما جرى في سوريا وما شهدته من تطورات دراماتيكية، فقد تخلصت من عدة عصافير بضربة واحدة، وفقًا لحساباتها وتقديراتها، فقد اختفى النفوذ الإيراني هاجسها الأكبر بعد سقوط نظام بشار الأسد، الذي تحالف مع طهران ألد خصوم تل أبيب، وكذلك عناصر حزب الله اللبناني، الذي شارك في القتال ضد معارضي بشار، والحزب يعد أحد أقوى وأهم أذرع إيران في المنطقة، وتعتبر ذلك مكملًا لما فعلته ضد قياداته في لبنان وتوجيه ضربات قاصمة لقدراته العسكرية هناك ودكها الضاحية الجنوبية، واغتيالها قائده التاريخي حسن نصر الله، ومن بعده العديد من معاونيه من الصف الأول، وتحسب إسرائيل أن المجريات على أرض الواقع تمهد لها التربة الصالحة لإعادة صياغة وبناء الشرق الأوسط الجديد بمواصفاتها واشتراطاتها.
التحدي الثالث هو انتشال الاقتصاد من بئر أزمة خانقة أصابته بالشلل، وأفقدته توازنه تحت وطأة تداعيات الأحداث بالداخل وبدول الجوار ودوليًا، فضلا عن بقائه أسيرًا للنهج الاشتراكي العقيم لإدارته، الأمر الذي كبله وحد من حيويته وانطلاقاته، وأبعده عن مقتضيات اقتصاد السوق، وأدى إلى سيطرة أشخاص بعينهم على كل ما له علاقة بالنشاط الاقتصادي، واحتكارهم السلع الإستراتيجية وتغليبهم المصالح الذاتية، وتشجيعهم السوق السوداء على حساب الاقتصاد الوطني ومناعته وصلابته في مواجهة التقلبات والأزمات العاصفة، ووصل الاقتصاد السوري في أواخر أعوام بشار الأسد لمرحلة أشبه بالعجز التام، مما فاقم من معاناة غالبية السوريين، ومن ثم فإن الجهد المطلوب سيكون هائلًا ومرهقًا، ويحتاج إلى تضافر سواعد الجميع داخليًا ومعهم الأسرة الدولية، التي يتعين عليها مد يد العون لدمشق، وعدم تركها في العراء بمفردها، وأيضًا على الدول العربية مساعدتها بقدر المستطاع للعبور إلى بر الأمان والسلامة.
التحدي الرابع والأخير هو التوافق على شكل الحكم والنظام السياسي المرتقب، وهل سيجنح ناحية قوى التطرف والتشدد الديني المشاركة ضمن هيئة تحرير الشام أم سيكون منفتحًا ومستوعبًا ومتقبلًا للجميع، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية والطائفية والسياسية؟ فبشار كان يقدم الطائفة على ما عداها، وهو ما سبب احتقانات واختناقات بين مكونات المجتمع، وشروخًا وتصدعات مريعة ومروعة، والأهم ألا تنجر ثانية باتجاه المحاور والتحالفات مع أطراف ودول ستجعلها تتحمل دفع فواتير لا قِبل لها بها، كما حدث سابقًا، وحول البلاد لساحة صراع أممي نال من سيادتها ووحدة أراضيها.
إن سوريا أمام مفرق طرق، وعليها أن تحسن الاختيار فيما بينها، وألا تنجرف للاستغراق الزائد على الحد أمام رواسب وآثار الماضي الأليم الذي عاشته، وأن تبدأ في فتح صفحة جديدة، عمادها الوحدة الوطنية وتقوية مناعة الدولة ومؤسساتها الوطنية، وهو ما يستدعي وقوف الجميع إلى جانبها.