سقوط نظام عائلة الأسد كان حتميًا، ولعل أبلغ ما قيل عن ذلك من قبل السوريين أن جذور النظام قد انهارت منذ زمن بعيد بفعل الاستبداد والطائفية والفساد، والرهان على الآخرين لحماية واستمرار النظام، وتشريد شعبه خارج وداخل سوريا، وصولًا إلى تحوله إلى عبء لم يعد جنرالاته ولا جنوده ولا حلفاؤه راغبين في الدفاع عنه، والآن سقط النظام، ومستقبل سوريا في المجهول، إلا أن اللحظة تفرض على الجميع التوقف لدراسة درس سقوط الأسد.
وفي محاولة لتجميل الأمور جرى تسريب تقارير عدة بأن بشار الأسد لم يكن هناك خيار آخر أمامه، وكان على بشار أن يتخذ قرارًا سريعًا بإطلاق مبادرة سياسية تفتح باب الحوار مع المعارضة، وتستبق انطلاق عملية (ردع العدوان). هذا كان جوهر «النصيحة» العاجلة التي قدمتها روسيا للرئاسة السورية.
وهنا نسجل الملحوظة الخالدة الخاصة بتأخر القرار، ودومًا ما تنطبق عليه مقولة "قليل ومتأخر"، ولقد علمتنا تجارب المنطقة أن رجال الرئيس كثيرًا ما يكونون ضمانة الاستقرار، أو العكس، وأن "المهرجين والمشجعين المنتفعين" هم أقصر طريق للهاوية، وأن بلادنا بحاجة لمؤسسات قوية على درجة عالية من الكفاءة، وتحظى بمصداقية، وذلك حتى تكون الملاذ الأخير لحفظ البلاد في لحظة الخطر.
ووفقًا للمستشار رامي الشاعر، المقرب من أوساط اتخاذ القرار الروسي، فإنه بعد انطلاق الهجوم، الذي توافرت لموسكو معلومات دقيقة حول توقيته وحجمه وأهدافه كان الوقت قد تأخر، وسرعان ما اتُّخذ القرار في موسكو بترتيب خروج آمن يضمن عدم انجرار البلاد نحو حرب طائفية مدمِّرة كانت نتائجها ستكون كارثية.
وقال الشاعر في تصريحات صحفية مؤخرًا إن المعطيات التي توافرت لدى موسكو حول الإعداد لهجوم واسع النطاق، دفعتها إلى التحرك العاجل قبل 48 ساعة من بدء الهجوم على أكثر من محور، وتم إبلاغ السلطات السورية بأنه سيتم التقدم من قوات تابعة للفصائل المسلحة باتجاه حلب، ومنها نحو مدن سورية أخرى.
ووفق الشاعر، فقد جرت اتصالات عاجلة عبر قنوات ساخنة مع الطرفين التركي والإيراني، وكان الهدف منها محاولة وقف العملية والاتجاه نحو تحريك حوار سياسي، لكن سرعان ما تبين لموسكو أن القرار النهائي قد اتُّخذ والفصائل لن تتراجع عن شن الهجوم، وإذا سلمنا بصحة ودقة رواية الشاعر فنحن أمام إحدى المآسي العربية –ويبدو أنها روسية-، وهي المتعلقة "المفاجأة بأن القرار قد اتخذ".
وربما مما يشكك في دقة تفاصيل رواية الشاعر، أنه قبل أيام من سقوط نظام بشار فقد كانت كتابات الصحف الروسية توحي بنهاية نظام الأسد، بل بدأت في دخول مرحلة "ما هي دروس روسيا في سوريا"، وتوقف الكتاب الروس عند ملحوظة صادمة "في غضون أيام قليلة، تمكن الإرهابيون من الاستيلاء على ما يقرب من محافظة ونصف من المحافظات السورية، والتي كان الجيش الروسي، مع السوريين والإيرانيين، قد استغرق سنوات عديدة لاستعادتها"، وأحسب أن الأمر لا يحتاج للكثير من الشرح فقد باتت سوريا الأسد "عبئًا ثقيلًا"، وفقدت قوات النظام الرغبة والقدرة على القتال، ولم يعد لروسيا وإيران الرغبة في الحفاظ على نظام لم يعد قادرًا على الاستمرار.
وعلى الرغم من كل أهمية سوريا وضرورتها لروسيا وإيران، فقد خلصتا إلى أنه ليس من المهم تحرير حلب مرة أخرى، بل الأهم من ذلك تعلّم الدروس من النجاح الحالي الذي حققه المسلحون، وها هي الحقائق تتكشف بأن الأطراف كلها أسرعت في وضع اللمسات الأخيرة على سقوط النظام، وإجراء عملية انتقال للسلطة بأقل الخسائر، وبما يحفظ الحد الأدنى من مصالح الجميع.
وهنا لعل الدرس الأول هو أن لا أحد يخوض حروب الآخرين، بل يخوض معاركه هو، ويتوقف وفقًا لحسابات الأمن القومي ومصالح دولته في المقام الأول، والدرس الثاني، أن تجميد الحرب لا يؤدي إلى النصر، بل يؤدي فقط إلى إعادة تسليح وتجهيز العدو المهزوم تقريبًا، والذي يمكنه بعد ذلك الانقضاض عليك في لحظة مناسبة.
ويقول الكتاب الروس إنه إذا بدا لأحد ما أننا نتحدث عن سوريا؛ حيث (لم يتم القضاء على المسلحين، بل تم التوصل إلى هدنة معهم في العام 2020، والآن حانت لحظة مناسبة لهم)، نقول لا، نحن نتحدث عن أوكرانيا.
والدرس الثالث هو أن الإرادة السياسية تكون في بعض الأحيان أكثر أهمية من النفعية على المدى القصير. ففي 2019-2020، أتيحت الفرصة لروسيا وسوريا وإيران لتنظيف خَرّاج إدلب، لكن تركيا عارضت ذلك.
ويحذر الكتاب الروس من أن روسيا قد تجد نفسها في موقف مماثل إذا لم تُرغم الغرب على قبول كافة شروطها بقوة الإرادة، ولا يقتصر الأمر على رفض تجميد الصراع مع كييف وإجبارها على الاعتراف بالمناطق الروسية، بل يتعلق الأمر بضمان أن ما تبقى من أوكرانيا لم يعد يشكل تهديدًا لموسكو على الإطلاق.
ويبقى أن الدرس الأهم والخالد هو "وعي الشعوب"، وأن تتعلم هي أن الحفاظ على الوطن هو مسئوليتها هي في المقام الأول، وأن التلاحم والحوار أهم شيء في هذه اللحظات الصعبة، وأن "المتغطي بغير رضا شعبه" فهو عريان، بل هو ووطنه في مهب الريح، وعلى مائدة الذئاب التي لا تعرف سوى مصالحها، ولا تخوض حروب الآخرين، وأنه "ليس هناك تحالفات؛ بل شراكات مؤقتة"، وفي لحظة الحقيقة عندما يأتي الطوفان يضع الجميع أغلى ما يملكون تحت أقدامهم رغبة في النجاة.