Close ad

بوصلة الثروات السيادية

10-12-2024 | 17:58

نشأت صناديق الثروة السيادية منذ عقود بعيدة إلا أنها ظلت لفترة طويلة غير معروفة لدى الجمهور، غير أن هذا الوضع تغير تمامًا مع الألفية الجديدة، حيث توالى الانتشار السريع لهذه الصناديق في جميع دول العالم،على اختلاف نوعية الموارد والأصول المملوكة لديها، وأصبحت تلك الصناديق من أهم مصادر الاستثمار الأجنبي في جميع القطاعات الاقتصادية، بل استحوذت على الحصص الكبرى في أصول الشركات الدولية والمتعددة الجنسيات.

ففي العام الماضي، واصلت صناديق الثروة السيادية زخم النمو، وتجاوز إجمالي أصولها الخاضعة للإدارة على مستوى العالم، إلى مستوى قياسي بلغ 13.2 تريليون دولار ارتفاعًا من 11.6 تريليون دولار قبل عام، وقيمة هذه الأصول تعادل حجم اقتصادات ألمانيا واليابان والهند مجتمعة.
وصناديق الثروة السيادية عبارة عن كيانات استثمار أنشأتها الحكومات كصناديق ادخار للأجيال التالية واستقرار المالية العامة، وتتكون مواردها من أصول مختلفة كالأراضي أو الأسهم أو السندات أو فوائض الميزانية العامة للدولة أو فوائض الاحتياطيات النقدية أو فوائض ميزان المدفوعات أو إيرادات عمليات الخصخصة، وتتسم أصولها بالضخامة وعملها بالسيادة، وتستثمر تلك الفوائض بالأسواق المحلية أو الأجنبية أو فيهما معًا وفقًا لمعايير اقتصادية.
 
نشأة الصناديق السيادية
تعتبر الصناديق السيادية ليست بالحديثة نسبيًا؛ بل تعود إلى عام 1953 حينما أنشأت الكويت صندوقها السيادي والمعروف حاليًا بالهيئة العامة للاستثمار، من أجل استثمار فوائض إيراداتها النفطية للحفاظ على حقوق الأجيال القادمة في هذا المورد الناضب.

مع بداية الألفية الثالثة اتجهت العديد من البلدان في إنشاء صناديق الثروة السيادية، كما وضعت أهدافًا مختلفة تتوسع وتتغير حسب الظروف التي تمر بها الدولة صاحبة الصندوق.

ومع اتساع عملها وتسارع نموها، شرعت صناديق سيادية عدة في تكديس العملات الأجنبية وفوائض المالية العامة واستثمارها بنشاط في أصول مالية أجنبية، وفجأة صعدت هذه الصناديق باعتبارها فئة كبرى من الكيانات الاستثمارية المؤسسية العابرة للحدود.

واجتذبت هذه التطورات اهتمامًا كبيرًا في مجال السياسات والتجارة الدوليتين، وأثارت أيضًا كثيرًا من الجدل الواسع وأصبحت محملة بكثير من المضامين والإيحاءات السياسية إلى الحد الذي طلب فيه المجتمع الدولي في 2007 الاضطلاع بتحليل القضايا الرئيسية المحيطة بصناديق الثروة السيادية، وإجراء حوار معها ومع الدول المتلقية لاستثماراتها.

وأفضت هذه الجهود إلى إقدام الصناديق على وضع ما يعرف بـ مبادئ سنتياجو بالتعاون مع صندوق النقد الدولي ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية وكبريات الدول المتلقية لاستثمارات هذه الصناديق.

وهذه المبادئ أسهمت في فهم أفضل لهذه الصناديق، وعززت من مصداقيتها، بما يؤكد دورها في تحقيق الازدهار والاستقرار العالميين.
 
اللاعبون الكبار
يسلط تقرير صناديق الثروة السيادية لعام 2024 الصادر مؤخرًا عن جامعة IE الإسبانية،الضوء على مرونة إستراتيجيات الاستثمار طويلة الأجل لصناديق الثروة السيادية وأين تتجه بوصلة استثماراتها، في ظل الاضطرابات الجيوسياسية والتشرذم في جميع أنحاء العالم.

ويعد صندوق التقاعد الحكومي في النرويج أكبر صندوق ثروة سيادية في العالم (1.8 تريليون دولار)، في حين احتلت مؤسسة الاستثمار الصينية (CIC) وإدارة الدولة للنقد الأجنبي (SAFE) المركزين الثاني والثالث للعام الثاني على التوالي 1.3 تريليون دولار لـ CIC و1.1 تريليون دولار لـ SAFE. 

وتشغل صناديق الشرق الأوسط المراكز الرابعة والخامسة والسادسة حاليًا، حيث سجل جهاز أبوظبي للاستثمار حوالي 993 مليار دولار، وصندوق الاستثمارات العامة السعودي 978 مليار دولار، وحققت الهيئة العامة للاستثمار الكويتية نحو 969 مليار دولار من الأصول قيد الإدارة.

وترافق هذا النمو مع زيادة في كل من عدد وحجم الصفقات،حيث سجلت صناديق الثروة السيادية نموًا كبيرًا في نشاطها، مع 473 استثمارًا، وهو ما يمثل زيادة بنحو 50 صفقة مقارنة بعام 2023، وكان هناك أيضًا نمو قوي في القيمة الإجمالية للصفقات، والتي بلغت 211 مليار دولار، وهو ما يقرب من ضعف ما كان عليه في التقرير السابق.

وكشف التقرير تحولًا في تركيز الاستثمار من التكنولوجيا إلى التمويل، مما أدى إلى زيادة عدد الصفقات، مع اكتساب قطاعات مثل الرعاية الصحية والطاقة والصناعات أهمية.

كما تستهدف صناديق الثروة السيادية الرئيسية مشاريع البنية التحتية واسعة النطاق في مجال الطاقة المتجددة والنقل الحضري والبنية التحتية الرقمية، بما يتماشى مع اتجاهات إزالة الكربون العالمية والتحول الرقمي. وعلى الرغم من وجود بعض التحديات؛ مثل أسعار الفائدة المرتفعة، فإن استثماراتها التي تركز على الأسهم مكنتها من الاستفادة من الفرص الإستراتيجية بكفاءة تشغيلية مدهشة.
 
 صناديق الشرق
مع تصاعد التوترات بين الولايات المتحدة والصين والحمائية، تتبنى صناديق الثروة السيادية في الشرق الأوسط نهجًا حذرًا يركز على الاستثمارات الإقليمية، بصفة خاصة القطاعات الصناعية الإستراتيجية، فضلًا عن البنية التحتية الرقمية والطاقة، لاسيما الطاقة المتجددة.

وتستهدف صناديق الثروة السيادية في الشرق الأوسط بشكل متزايد الأسواق الناشئة، في حين تعمل على تعزيز الابتكار والبنية التحتية المحلية.

يُظهر التقرير أن 81٪ من الاستثمارات المباشرة لصناديق الثروة السيادية بين يناير 2023 ويونيو 2024 تمت من قبل شركة  Temasek وGI السنغافورية، ومبادلة في أبوظبي، وجهاز أبوظبي للاستثمار (ADIA)، وجهاز قطر للاستثمار، وصندوق الاستثمارات العامة في المملكة العربية السعودية.

كما كانت الصناديق الستة الكبار مسئولة بشكل جماعي عن 92% من صفقات صناديق الثروة السيادية من حيث القيمة خلال الفترة المشمولة بالتقرير.
 
جاذبية متنامية لدول الجنوب
تتجه تدفقات الاستثمار بشكل متزايد نحو الجنوب العالمي، خاصة الهند، التي تستفيد من النمو الاقتصادي القوي وسياسات التحول الأخضر. وفي حين تظل الولايات المتحدة الوجهة الأولى لاستثمارات صناديق الثروة السيادية، إلا أنه انخفضت حصتها من التدفقات العالمية، مما يؤكد النفوذ المتزايد للأسواق الناشئة.

يسلط هذا التقرير الضوء على دراسة الحالة الخاصة بهيئة الاستثمار الإندونيسية التي تم إنشاؤها مؤخرًا في عام 2021، وقد تم تمويلها بطريقة مبتكرة، وهي لا تعمل مثل صندوق الثروة السيادية الادخاري التقليدي، وهي تستخدم إستراتيجيات الاستثمار المشترك لجذب رأس المال الأجنبي في قطاعات مثل البنية التحتية والطاقة الخضراء والخدمات اللوجستية لمواجهة تحديات رابع أكبر دولة من حيث عدد السكان في العالم في القرن الحادي والعشرين. 

يدعم نهج هيئة الاستثمار الإندونيسية في تقليل مخاطر الاستثمارات الأهداف الأوسع لإندونيسيا المتمثلة في أمن الطاقة والتنويع الاقتصادي، والتي تعد بالغة الأهمية في المشهد الجيوسياسي الحالي.
 
الصناديق السيادية تدعم الابتكار
تدعم صناديق الثروة السيادية الشركات الناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي والمشاريع الموجهة نحو إنتاج الغذاء المستدام، وفيما يتعلق بالاستدامة، واستجابة لندرة المياه العالمية، تقود صناديق مثل صندوق الاستثمارات العامة السعودي وجهاز قطر للاستثمار مشاريع رائدة في مجال المياه على المستويين المحلي والدولي.

وعلى نحو مماثل، أطلق مركز حوكمة التغيير التابع لمعهد الاستثمار الدولي مبادرة التأثير السيادي، التي تهدف إلى تحويل ثقافات الاستثمار في صناديق الثروة السيادية من خلال تعزيز الاستثمار المؤثر، وبناء القدرات، والبحث. 

وأخيرًا، يشكل بناء الشراكات بين صناديق الثروة السيادية اتجاهًا متزايدًا لتحقيق أهداف المناخ والاستدامة المشتركة، وتحديد صفقات جديدة للاستثمار المشترك، وتبادل المعرفة الحاسمة.
 
الأسواق الناشئة تتصدر
أدى نمو الصناديق السيادية إلى جلب العديد من الفوائد الأخرى للدول المالكة لها، وبالأخص وقت الأزمات والاختلالات الاقتصادية من خلال مساهمتها في تنويع مصادر الدخل المحلي عبر تنويع أنماط الاستثمار للأصول المالية، كما أسهمت أيضًا في استقرار اقتصاد بعض الدول المتلقية لاستثماراتها على المدى الطويل.

ستظل الصناديق السيادية ظاهرة فريدة من نوعها، يحكمها النظام الداخلي لكل دولة، حيث تعتبر أداة يمكن استخدامها لرفعة الاقتصاد الوطني وتعزيزه ومساندته وقت الأزمات، وأداة لزيادة التنويع الاقتصادي، كما يمكن استغلالها لخلق مساحة اقتصادية آمنة للأنظمة بعيدًا عن بيروقراطية البيئة الاقتصادية المحلية ذاتها، بحيث تشجع الاستثمار المسئول وتحفزه؛ لذلك تظل متابعة نتائج أعمالها أمرًا غاية الأهمية، تعكس أولويات الدول بشكل مباشر، كما ينبغي أيضًا تطوير نموذج هذا النوع من المحافظ الاستثمارية ومعايير عملها، لضمان كفاءتها وتشجيعها للتنافسية، والتأكد من إدارة الأصول السيادية إدارة رشيدة تضمن حوكمة الصناديق السيادية.

إن صناديق الثروة السيادية مجرد وجه أو مظهر لمرحلة جديدة من العولمة، وهي مرحلة تتسم بالملكية العامة للأصول، ومشاركة الأسواق الصاعدة في الاقتصاد العالمي.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة