بعد سقوط نظام بشار الأسد في سوريا، تواجه الجماعات المسلحة التي تولت السلطة تحديات معقدة وخطيرة تهدد استقرار البلاد بشكل كبير، ورغم انتقال المدن السورية إلى سيطرة هذه الجماعات بسهولة نسبية، فإن الواقع العسكري والسياسي يشير إلى أن سوريا باتت أمام مفترق طرق قد يؤدي إلى اندلاع حروب أهلية أو انقسامات حادة بين هذه الجماعات التي لطالما تباينت مصالحها خلال فترات وجودها في محافظة إدلب، هذه الجماعات تتصارع بشكل شرس على النفوذ والمكاسب في مرحلة ما بعد الأسد، مما يضع البلاد في مأزق سياسي وعسكري.
علاوة على ذلك، فإن التحديات التي تواجه هذه الجماعات تشمل تهديدات إقليمية ودولية قد تمتد إلى دول الجوار وما بعده، من خلال إعادة قراءة تطورات لقاء الدوحة بين الدول المنخرطة في الملف السوري، يتضح أن هناك نوعاً من التوافق المؤقت بين القوى الإقليمية والدولية الفاعلة في الشأن السوري.
هذا التوافق جاء في وقت تسعى فيه هذه الجماعات ورعاتها لتثبيت سلطتها، وإعادة هيكلة مؤسسات الدولة بما يتوافق مع رؤيتها وأهدافها الإستراتيجية، يشمل هذا إعادة تشكيل المؤسسة العسكرية، الشرطة، والأجهزة الأمنية، وصولاً إلى إدارة الحياة اليومية للناس في ظل غياب حكومة مركزية قوية.
في الوقت نفسه، ستجد هذه الجماعات نفسها أمام التحدي الأبرز: معالجة القضية الكردية التي باتت أكثر تعقيداً بعد السيطرة الكردية على مناطق واسعة شرق الفرات، بما في ذلك البوكمال، بدعم وحماية من الولايات المتحدة وقواعدها العسكرية المنتشرة في سوريا والعراق، لا يمكن لتركيا تجاهل هذه المستجدات، خاصة وأنها ترى في تطلعات الأكراد نحو تحقيق نوع من الاستقلال الذاتي تهديداً مباشراً لأمنها القومي. هذا الملف يمثل أحد أبرز التحديات التي تواجه الجماعات المسلحة، التي دخلت في صدامات مباشرة مع الأكراد في شمال غرب سوريا وحول حلب.
تضاف إلى هذه التحديات مسألة الأقليات العلوية في غرب سوريا، التي تشكل الأغلبية الساحقة على السواحل السورية، حيث تقع أكبر القواعد العسكرية البحرية والجوية الروسية، بما في ذلك الحامية الروسية الإستراتيجية، ورغم ما تم تسريبه من تعهدات بضمان حماية المصالح الروسية، لا تزال هذه التعهدات عرضة للتراجع في أي لحظة، خصوصاً في ظل العداء المتزايد من قبل الجماعات المسلحة تجاه روسيا، هذه الجماعات تحمل في ذاكرتها المئات من الغارات الجوية الروسية والقصف المدمر منذ التدخل الروسي في عام 2015، فضلاً عن دعم روسيا المستمر للنظام السوري، ومن ناحية أخرى، فإن بعض هذه الجماعات قد تلقت مساعدات من أوكرانيا، التي تقاتل روسيا في سياق الحرب الحالية، ورفعوا أعلام أوكرانيا في عدة مواقع داخل سوريا كنوع من التحدي لروسيا، مما يزيد من تعقيد المشهد الإقليمي.
من جانب آخر، فإن هذه الجماعات تحمل عداءً عميقاً تجاه العلويين، ليس فقط بسبب الخلافات المذهبية، بل أيضاً بسبب الهيمنة السياسية والاقتصادية التي يعتقدون أن العلويين قد فرضوها في البلاد، ما أدى إلى استفادتهم من السلطة وموارد الدولة، وهو ما يثير مشاعر الكراهية والاحتقان، هذا الواقع قد يشكل بيئة خصبة لاندلاع اضطرابات مذهبية أو صراعات سياسية قد تفضي إلى حرب أهلية واسعة النطاق، حيث إن التنوع الطائفي والمذهبي في سوريا يشكل أحد أكبر التحديات التي تواجه الاستقرار.
ولا تقتصر التحديات على الداخل السوري فقط، بل تمتد إلى المنطقة بأسرها، فدول مثل لبنان والعراق والأردن تحمل مخاوف حقيقية من تأثير هذه الجماعات على استقرارها، هنالك قلق متزايد من أن هذه الجماعات قد تسعى لتوسيع نفوذها في دول الجوار، وهو ما قد يشمل محاولة الثأر من حزب الله في لبنان، أو الدخول في صراعات مع الشيعة في العراق، أو دعم الجماعات الإسلامية في الأردن. أي تصعيد عسكري أو سياسي يمكن أن يمتد تأثيره إلى جميع هذه الدول، ويشعل صراعات جديدة، خاصة إذا ما وقع حادث صغير مثل اشتباك مع عناصر من حزب الله في لبنان، ما قد يؤدي إلى تصعيد يعبر الحدود ويمتد إلى العراق وإيران، ويثير مخاوف الأقليات الأخرى، مثل المسيحيين في سوريا ولبنان والعراق.
هذه الديناميكيات الإقليمية تجعل المنطقة على حافة الهاوية، حيث إن أي خطوة خاطئة قد تؤدي إلى تداعيات عميقة قد تهدد الاستقرار الإقليمي والدولي.
إن الجماعات المسلحة التي باتت تسيطر على الحكم في سوريا أمام مجموعة من الاستحقاقات الكبرى التي وعدت بها الشعب السوري طوال سنوات من المعارضة، وأبرزها القضاء على الاستبداد وتحقيق الحريات الأساسية، سيكون أمام هذه الجماعات اختبار صعب في الوفاء بهذه الوعود، حيث تزداد الضغوط لتطبيق شعارات العدالة والمساواة التي رددتها كافة أطياف المعارضة طوال السنوات الماضية.
السؤال المركزي الذي يواجه هذه الجماعات هو ما إذا كانت قادرة فعلاً على بناء دولة ديمقراطية حقيقية، تضمن لجميع المواطنين حقوقهم المتساوية في ظل بيئة سياسية هشة ومعقدة.
وفي ذات الوقت، طالما أعلنت هذه الجماعات قدرتها على مواجهة إسرائيل وتحرير الجولان، واليوم أصبحت هذه الجماعات على الحدود الإسرائيلية في وضع يتطلب منها اتخاذ مواقف حاسمة، خاصة بعد أن استغل الكيان الصهيوني الأحداث في سوريا بشكل انتهازي، حيث قام باحتلال الجانب السوري من جبل الشيخ، فضلاً عن المنطقة العازلة التي تم تحديدها وفقاً لاتفاق فصل القوات لعام 1974، وهو مايضعهم أمام اختبار تاريخي، عليهم أن يعلنوا موقفاً واضحاً وفورياً تجاه هذه الانتهاكات، لأن هذه الأرض هي أرض الوطن بأسره، لا أرض النظام الذي انتهى، فهل ستتمكن من تحويل هذه التصريحات إلى أفعال واقعية، أم أن الوضع الإقليمي المعقد سيتحول إلى عامل آخر يعقد حساباتها أكثر؟
لكن ما يثير القلق الأكبر هو أن سيطرة هذه الجماعات على سوريا قد تؤدي إلى تحويل البلاد إلى نقطة انطلاق لخلق وتدريب جماعات مماثلة في المنطقة، مما يفتح المجال لانتشار مزيد من التوترات والصراعات في الدول المجاورة، هذا بالإضافة إلى احتمال أن تستغل تركيا، التي تدعم العديد من هذه الجماعات، الوضع الحالي لإعادة توظيف هذه القوى في صراعات أخرى، سواء في غرب آسيا أو في إفريقيا، خاصة في ظل ما قد يشعر به صانعو القرار التركي من نشوة نصر قد تغريهم باستخدام هذه الجماعات في نزاعات أخرى.
إننا بالفعل أمام واقع جديد يحمل في طياته تهديدات متعددة ومعقدة، فسيطرة هذه الجماعات على سوريا لا تمثل مجرد نهاية لعهد من الاستبداد، بل ربما بداية لفصل جديد من الصراعات الإقليمية والدولية.
هذا الفصل قد يكون أكثر خطورة وتعقيدًا من الفصول السابقة، إذ إن تداخل المصالح الإقليمية والدولية سيجعل من الصعب التنبؤ بما سيؤول إليه الوضع في المستقبل القريب.