لو دققنا النظر طويلًا لرأينا الحقيقة الغائبة عنا، حقيقة تقول بأننا ما زلنا نحتفظ بروح الطفولة الغالية، نحبها ونعتز بها، نقدر إحساسًا لنا فيها يعيدنا في كل مرة إلى أجمل محطات عمرنا، هناك حيث البراءة التي سكنت بنا فباتت تمثل مملكة لنا ولأحلامنا، عشنا بداخلها سنين، لعبنا في رحاب ساحاتها حتى صارت هى كل رصيدنا، مرحلة أشرقت فيها شمس السعادة الحانية على وجوهنا فامتدت أشعتها حتى ملأت أرواحنا سرورًا وبهجة.
حين تتجسد الطفولة وتتجلى واضحة، تأتينا السعادة الغامرة معها وسط مجموعة من كلمات داعمة ومشجعة، نفرح فيها بتقدير الآخرين لنا، نمتن لشعورهم بالاعتزاز بنجاح سعينا باتجاهه فحققناه كي يدل علينا، ننتظر وتنتظر معنا مسامعنا لحظة الاستماع لعواصف من تصفيق مغلف بانبهار لحسن صنيعنا، نترقب رسالة تؤكد لنا تميزنا، عبارة لطيفة تبرهن على نجاح سعينا.
نعم، نحن ما زلنا نشعر بأننا صغار في أعمارنا، يبدو هذا عندما نضع نجاحاتنا ومقومات إبداعاتنا جنبًا إلى جنب لبعض الوقت، حتى نعرضها على مسمع ومرأى من أغلب محيطنا، نتركها في متناولهم حينًا، نحلل ردود أفعالهم تجاه ما أحرزناه من تفوق في عمل دءوب لعله يشهد لنا، فنحن بشر عاديون لا يخجلنا إحساسنا بطفولتنا، لا نتنصل من رقة مشاعرنا، لا نؤثر على إنسانيتنا شيئًا آخر؛ فنحن نعدها مملكة أحلامنا، نسعد عندما نحقق بنودها، ونفخر حينما نتداولها فيما بيننا.
يسكن بداخلنا هذا الطفل البارع، الممتلئ إصرارًا وعنادًا الذي مرت يتصيد أمنياته عند تحليقها في سمائه، ممسكًا بأطراف أنجمها متعلقًا بها، تسكن وجدانه أحلامه الغاليات، لم يهتم يومًا بأيها يبدأ، لكنه يمتلك رغبة تمنحه الفرصة لاستكمال رحلته، يتناول حلمًا تلو الآخر مجتهدًا في السعي نحو تحقيقها، يقدر ذاته ويعلم قيمتها، لكنه يبقى هناك منتظرًا لتقدير آخر يشمله من المقربين منه في محيطه، هؤلاء الذين يشاركونه الإحساس بعظمة لحظة الوصول لمحطة جديدة من محطات نجاحاته الممتدة.
ابحث جيدًا في داخلك عن هذا الطفل، لا تنهره إن خرج من شرنقته ناشرًا أجنحته الملونة، لا تغلق نافذتك أمامه متوعدًا له أو مهددًا، فشعوره ببديع صنعه نابع من براءة وشفافية سكنت بداخله عمرًا وأنت لا تدري عنها شيئًا، مكثت بداخله واستقرت، فالفرحة لم تكتمل إلا بمحبتك وتقديرك له، يغيب أثرها عنه إن لم تبادر باقتسامك لها مع أحد غيره فلا تحجبها لأجله.
الصدق هو أهم سمة من سمات مرحلة طفولتنا، البراءة والحياد يميزان تلك الحقبة بأكملها، فلا مجال فيها لتغلب نفاق يستشري من حولنا كريح عاتية، طفولتنا تبعث فينا شعورًا فياضًا من السكينة والرضا، نطمئن به ويطمئن لنا، تعكس صورتنا التي فطرنا الله عليها كما هي، تمنحنا السعادة المفقودة بعد أن هجرتنا زمنًا وعمرًا.
هيا نطلق العنان لضحكات من القلب خرجت ولا نخجل، هيا نركض معًا تحت المطر المنهمر ولا ننزعج، لا نحسب حسابًا لنظرات تستغربنا أو تتعجب منا، دعونا لا ننشغل إلا بأنفسنا، لا نهتم إلا بالحصول على رصيدنا من شعور بالغ من بهجة وسعادة لا تنقطع.