هذا المقال تلزمه مقدمة، للإيضاح لا للتمهيد. كتبتُ قبل سنوات مقالا عنوانه «لا تمدح أحدًا على قيد الحياة». لديّ أسبابي. كثيرًا ما اختلفت البدايات المثالية عن النهايات المأساوية في التاريخ العربي. وأستطيع أن أمدّ خيط العنوان الخاص بعدم مدح الحكام ليشمل أي مسئول ما دام في منصبه. فما العمل إذا أحسن هذا المسئول أو ذاك؟ وقد لا يخلو الأمر من قرار حكيم، فهل نصمت ونتجاهل الأداء؟ أم نقول له: أحسنت؟
موضوعات مقترحة
للخروج من هذا المأزق، ربما أجدُ حلا آمنا، أرجو أن يكون بالفعل آمنا يخلو من الالتباسات، بين النأي عن مدح المسئول في منصبه والعدول عن هذا الالتزام. لعل الحل يتمثل في الإشادة الجزئية وليست المطلقة. المدح الجزئي يرتبط بموقف محدد، بقرار أو سلوك إداري يؤكد الفرق بين مسئول وأسلافه.
وإشادتي الآن بوزير الثقافة الدكتور أحمد فؤاد هنو، بعد المشهد الذي بدت عليه دار الأوبرا المصرية في الدورة الخامسة والأربعين لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي (13 ـ 22 نوفمبر 2024). وأعتبر هذا الإجراء التصحيحي، في دار الأوبرا، هو الثالث للوزير، بعد أن تدخل الشهر الماضي لإزالة تشويه واجهتيْ حديقة الحيوان وحديقة الأسماك.
هناك أيدٍ غشيمة، حظُّها من الشعور بالجمال محدود، تنشط في التخريب، ولو من غير قصد؛ لأن الله حرم أصحابها من نعمة الخيال. الأجمل في مشهد دار الأوبرا هو استعادة مساحات الفارغة، التمتع بالفضاء، بعد أن تحولت الأوبرا إلى ما يشبه المساكن الشعبية الستالينية، بهدوء في عهد فاروق حسني، ثم بخشونة وغلظة في وزارة إيناس عبدالدايم. فاروق حسني عزّ عليه الفضاء الرحب، فاقتطع مساحات لأورام إدارية تشوّه التصميم العمراني للأوبرا. ذلك الهوس بافتراس الفراغ لم ينجُ منه فناء صغير أمام المسرح الصغير. فراغ محدود تقام فيه حفلات الاستقبال في المسرح الصغير. في أمسية مرسيل خليفة رُصّت الكراسي، وأقيم حفل استثنائي.
كنت هناك، حين استُضيف مرسيل خليفة عام 2006، والنجوم السماء لا يحول بينها وبين الحضور سقف. لكن العقلية التجارية رأت استثمار هذا الفناء الصغير، الذي ليس مسرحا، وأطلقت عليه «المسرح المفتوح» بتسقيفه، وهو ليس مسرحا، وبتسقفيه لم يعد مفتوحا، وأمسى المسرح الصغير مسحورا، غرفة داخل غرفة. المسرح داخل المسرح قبحٌ. وتحرير هذا الفضاء الصغير احتاج إلى ثورة، فكانت الثورة. وفي عام 2012 فوجئت برفع السقف، فاتصلت بوزير الثقافة الدكتور شاكر عبدالحميد، لتحيته على ذلك. ولم أتوقع أن دار الأوبرا ينتظرها الأسوأ في عهد إيناس عبدالدايم، بمحو ساحة النافورة أمام متحف الفن الحديث، وإنشاء مسرح «WE»، في ديسمبر 2020.
ظننت ذلك المسرح استثناء لعروض ليلية لأفلام مهرجان القاهرة. لم يكن معسكرًا مؤقتًا، بل استقر المسرح مع تغيير اسمه إلى مسرح النافورة، على الرغم من محو النافورة، ونقل تمثال عبدالحليم حافظ. وعلى الطرف الشرقي للمسرح بين مدخل قصر الفنون ونقابة التشكيليين تأسس كشك لبيع المياه الغازية والشيبسي وما شابه، وكشك آخر مضادٌّ له في الاتجاه، على الطرف الغربي، بجوار تمثال محمد عبدالوهاب. ثم أزيلا الكشكان، بعد تواصل السخرية من التشويه والعبث بفضاء الأوبرا. وبقي المسرح يتلهم الساحة، ويتفضل على رواد قصر الفنون ونقابة التشكيليين وحديقتها وقاعة سليم/الباب ومتحف الفن الحديث بحارة ضيقة، مثل حواري المساكن الشعبية بميت عقبة.
استبد مسرح النافورة، الذي دُفنت النافورة تحت مقاعده، وصار عصيًّا، بدا بقاؤه حقيقة راسخة تخضع لقانون وضع اليد، ولم تهتم وزيرة الثقافة نيفين الكيلاني بإزالته، ويئس الكثيرون من المناهدة؛ فتصالحوا مع ذلك القبح. ثم جاءت جسارة استعادة هذا الفضاء، الآن في عزّ الاحتياج إليه، في عروض مهرجان القاهرة السينمائي. وفي اليوم التالي لانتهاء المهرجان، حيث عرضت الأفلام الفائزة بالجوائز، نشط العمال، ورفعوا الألواح، وظهرت النافورة كأنها خبيئة. صوّرتُ المشهد بما تسمح به إمكانات تليفوني، والأعلام ترفرف فوق مدخل متحف الفن الحديث، كأنه عناق في خلاء فسيح بين المتحف والمسرح الكبير، أما سيارة النقل فحملت جسم الجريمة. وفي المساء اطمأننتُ تماما.
لم ينقصنا إلا احتجاج اليابان على تشويه هديتها التي تتكامل فيها المباني بالفضاء. وقد أزيل المسرح النشاز الحاجب للمسرح الكبير، مثلما استجاب الوزير سريعا في مسألة حديقتي الحيوان والأسماك. هذا الوعي بقيمة الجمال يدعوني إلى اقتراح رفع السور المصفّح الحاجب لدار الأوبرا عن عابري شارع التحرير، لعل ظروفا فرضت إضافته قبل سنوات، وبانتفاء السبب يمكن الاكتفاء بالسور القديم، فلا تكون الأوبرا أشبه بسجن نخبوي في نظر جماهير تعجز عن رؤية ما يحجبه السور المصفح. وكان السور الرمزي يتيح للجمهور رؤية نجوم حفلات افتتاح مهرجان القاهرة السينمائي، ومهرجان سينما الأطفال، والمعرض العام للتشكيليين، وصالون الشباب، وبينالي القاهرة الدولي للفنون، وتماثيل الحديقة.
هذا التفاعل يدمج الدار في محيطها البشري والجغرافي، فلا تظل صروحا مهيبة يخافها الناس أو يجهلونها. قرب منتصف الليل في مهرجان القاهرة السينمائي (2024)، سألني شاب عابر أمام البوابة: «دي صالة أفراح؟». سؤاله ذكرني بالدكتور سليمان حزيّن رائد فلسفة تطبيع الأمكنة مع أهلها. حزيّن مؤسس جامعة أسيوط، أول جامعة بالصعيد عام 1955، ورئيسها حتى توليه وزارة الثقافة عام 1965. أراد أن تكون الجامعة بلا أسوار، ولم يستوعب أساتذة آذى كبرياءهم الأكاديمية مرورُ عربجية في «حرم» الجامعة؛ اختصارا للطريق. اشتكوا إلى رئيس الجامعة، ومن حقهم أن يشتكوا، واستمع رئيس الجامعة إلى شكوى الأستاذة المشمأنطين، وتمسك باتصال الجامعة بمحيطها، لتحقيق الألفة، قائلا:
«ليس مهمًّا أن تدخل الحمير الجامعة، والأهم هو ألا تخرج منها بشهادة جامعية».
حكمة بسيطة وبليغة ألا نفخر بأن الأقصر أكبر متحف مفتوح في العالم؟
المساحة الفارغة بعد استعادة دار الأوبرا المساحة الفارغة بعد استعادة دار الأوبرا المساحة الفارغة بعد استعادة دار الأوبرا