لم أشعر بمسافة السفر، استغرقتني الذكريات والأفكار وأنا في طريقي للمؤتمر..
أحببت أنه مُقام في بلدي الذي نشأت فيه، المنيا. تلك هي الدورة السادسة والثلاثون لمؤتمر الأدباء، دورة الكاتب الكبير جمال الغيطاني. برعاية الدكتور أحمد فؤاد هنو وزير الثقافة، واللواء عماد كدواني محافظ المنيا، ومن تنظيم الهيئىة العامة لقصور الثقافة، تحت إشراف الكاتب محمد ناصف نائب رئيس الهيئة، وبرئاسة الفنان الدكتور أحمد نوار، وأمانة الشاعر ياسر خليل. مؤتمر جاد وهادف، وقد استغرقَتنا فعالياته منذ اليوم الأول.
مشروع ثقافي
المؤتمر تمحور حول موضوع مركزي مستمد من عنوانه: (أدب الانتصار والأمن الثقافي. خمسون عاماً من العبور). ولهذا جاءت الجلسة الرئيسية فى اليوم الأول من المؤتمر معبرة عن هذا المضمون، وكانت بعنوان: (الأمن الثقافي ومكتسبات أكتوبر)،أدارها د.عصام خلف. استهلتها الدكتورة دعاء شديد بمناقشة بحثية شيقة بعنوان: (الأمن الثقافي بين الوطنية والوطنية الافتراضية).
فى هذه الإطلالة تخلت الباحثة عن عباءة الأستاذية، وارتدت عباءة الأم. إذ ربطت بين الأمن الثقافي على مستوى الأسرة وبين انتشار عدوى انصراف الأبناء إلى العالم الافتراضي من خلال مواقع السوشيال وغيرها من أدوات التأثير الثقافي العابر للحدود.
وأشارت د. شديد لأهمية الوعي بأهمية الحفاظ على هوية مجتمعنا؛ موضحة أن الأمن الثقافي حجر الزاوية لتحقيق الأمن القومي، وأضافت أن أخطر المؤثرات الحديثة على الوعي الاجتماعي العام هو العالم الافتراضي؛ لأنه جعلنا في عزلة غاب فيها التواصل الحقيقي.
والخطورة هنا لا تقتصر على المدن بل حتى الأرياف فقدت شطرًا من هويتها، واختتمت حديثها بالإشارة إلى أنها تقدمت بفكرة مشروع تكاملي بين المؤسسات، تبدأ من المؤسسات التي تهتم بالطفل ومن ورائها كل المؤسسات، بحيث نستطيع أن نحقق النجاح ونحتفظ في الوقت نفسه بهويتنا.
وفى نفس الجلسة ناقش الكاتب محمد سيد ريان إستراتيجيات الأمن الثقافي موضحًا أن المصطلح نشأ حديثًا فى أوائل السبعينيات فى إطار حقول متماسة: كالأمن الاجتماعي والغذائي والاقتصادي والسياسي. وأن العلاقة بين الثقافة وحرب أكتوبر تولدت من خلال تفاعل المثقفين والمفكرين والكتاب بهذه الحرب ومتغيراتها الاجتماعية، ومن خلال مقالات روائيين ومفكرين كبار كنجيب محفوظ وتوفيق الحكيم ويوسف إدريس ونزار قباني. حتى فيما قبل حرب أكتوبر وأثناء حرب الاستنزاف، قام نحو 300 مفكر ومثقف بزيارة الجنود على الجبهة، وتغنت أم كلثوم بكفاحهم بأقلام طائفة من الشعراء المدركين لدورهم الثقافي والمجتمعي. وأوصى ريان بأن تتبنى وزارة الثقافة إنشاء موقع إليكتروني يصبح بمثابة منصة دائمة تستقطب الشباب للاهتمام بانتصاراتنا وبتاريخنا العريق، وللتشبث بهويتنا الثقافية.
ببليوجرافيا الانتصار
فى نفس الإطار قدم الكاتب محمد ناصف بشرى بأن الهيئة بصدد إقامة مشروع: "ببليوجرافيا حرب أكتوبر". ترصد جميع قصص أبطال الحرب. وقد أكد الشاعر مسعود شومان، رئيس الإدارة المركزية للشئون الثقافية أن المشروع حالياً فى مرحلة التصديق عليه تمهيداً لتنفيذه فى القريب.
وفي مداخلة مهمة أكد (ضياء مكاوي) رئيس إقليم وسط الصعيد الثقافي أن الثقافة هي خط الدفاع الأول عن الهوية الوطنية، وأوضح الأديب أحمد الصعيدى أن التكنولوجيا أثرت بشكل سلبي على الهوية المصرية. وفي مداخلة أخرى أضاف الروائي (أحمد عبده) أحد أبطال أكتوبر أن الحرب وأحداثها تحتاج إلى مجهودات مؤسسية لتنوير وتثقيف الأجيال التي لم تعاصر الحرب.
اليوم الثاني للمؤتمر، يوم الإثنين، شهد نقاشات دارت فى إطار أكثر قربًا وتماسًا مع الأدب العربي، إذ بدأ بمائدة مستديرة عنوانها: (طه حسين، العبور بالبصيرة). أدار فعالياتها الدكتور مصطفي بيومي، وشارك بها كل من: الدكتور حافظ المغربي والدكتورة هدى عطية، والدكتورة زينب فرغلي، والدكتور جعفر حمدي. بدأ فيها الدكتور بيومي بالحديث عن طه حسين الذي تجاوز فقدان حاسة البصر، وهو فقدان حسي مادي، إلى قيادة العمل الأدبي والعبور به من التقليد إلى الانفتاح والابتكار والإبداع.
وفي حديثه تطرق الدكتور حافظ المغربي إلى "فن الإبيجرام" الذي كان طه حسين رائدًا من رواده، وأنه أول من كتب عن هذا الفن نثرًا بعد أن كان يكتب شعرًا، وهي الحكمة الساخرة القديمة فى الأدب اليوناني والعربي القديم، ثم تحولت على يد أوسكار وايلد إلى فن قائم بذاته. بينما استطاع طه حسين معالجته بأسلوب ذكي شفاف ورقيق رغم ما به من بعض الغموض، كما في كتاب: "جنة الشوك". الذي تناول هذا الفن، موضحًا كيف تطور بعد ذلك إلى مسميات ومصطلحات عدة، منها القصة القصيرة جدًا.
من ناحيتها أوضحت الدكتورة هدى عطية الفرق اللغوي بين البصر والبصيرة، وكيف يضع أصحاب البصيرة العالم بين قوسين ثم يعيدون النظر إليه بطريقة مباشرة كونهم لا يعتبرون هذا العالم والحياة نهائية، وأنه رأى أن البصيرة ليست في مقاومة عمى الذات، ولكن البصيرة لديه كانت في مقاومته للعمى الجمعي.
بدورها تحدثت الدكتورة زينب فرغلي عن كتاب "مستقبل الثقافة في مصر" الذي كتبه طه حسين منذ أكثر من مائة عام طارحًا قضايا وإشكاليات محورية لا تزال مؤثرة في مجتمعنا اليوم. أما الدكتور جعفر حمدي فقد أشار إلى مجلة: "الكاتب المصري" التي تولى طه حسين رئاسة تحريرها، وصدر عددها الأول في أكتوبر ١٩٤٥، فتح من خلالها المجال لكل التيارات الأدبية الثقافية، بل تعاون مع كبار الأدباء الأوروبيين والأمريكيين لنشر مقالات وقصص بالعربية لأول مرة، ومزج بين الاهتمام بموضوعات أدبية وعلمية وفلسفية.
وعندما فُتح المجال للمداخلات؛ تحدث الكاتب الصحفي الكبير (يسرى السيد) عن إسهامات طه حسين في العملية التعليمية خلال فترة عمله كأستاذ جامعي، مشيرًا إلى ضرورة أن تكون المقررات الدراسية قائمة على أن يتعلم الطالب كيف يفكر.
جولة سياحية فى تونا الجبل
المنيا زاخرة بالآثار من كل عصر، وقد اختارت إدارة تنظيم المؤتمر منطقة تونا الجبل لتستقبل أدباء وضيوف المؤتمر، ولتأخذهم في جولة سياحية مكثفة: بدأت بزيارة "مقبرة بيتوزيريس" برفقة الدكتور ثروت الأزهري مدير عام السياحة بالمحافظة، وبحضور (رحاب توفيق) مدير عام ثقافة المنيا. وبصحبة الشاعر (ياسر خليل) أمين عام المؤتمر. وأوضح الأزهري أن المقبرة من العصر البطلمي، وهي لكبير كهنة جحوتي تحوت رب الحكمة والعلم. وتم اكتشافها حوالي عام 1920م. وهي ثاني أثر تم اكتشافه بعد لوحات الحدود لأخناتون، وبعض محتويات المقبرة تم نقلها للمتحف المصري بالتحرير.
وصلت الجولة بالأدباء إلى (الجبانة الرومانية)، وهي تتكون من عدة مقابر تم بناؤها بين القرنين الأول والثالث الميلادي، بقوالب الطوب والطمي النييء. وطوَّفت الجولة نحو "مقبرة إيزيدورا" العائدة للنصف الأول من القرن الثاني الميلادي، وهي لفتاة صغيرة لم تتزوج، ونعاها أبوها على جدران المقبرة، ومن المرجح أنها ماتت نتيجة الغرق.
اختتمت الجولة السياحية المحدودة بزيارة (السراديب) وهي عبارة عن جبانة تحت الأرض استخدمت لدفن الطيور والحيوانات: "طائر الإيبس وقرد البابون" رمزا المعبود تحوت. وكانت الطيور والحيوانات تُحنط وتكفن بالكتان بثلاثة خامات للتوابيت: فخاري وحجري وخشي!
في هذا السياق لا يسعني إلا أن أسجل إعجابي واندهاشي من النشاط المكثف لوزير الثقافة الدكتور أحمدفؤاد هنو منذ تولَّي مسئولية تلك الوزارة المثقلة بالأعباء، والتي ورثَت عهودًا من الركود والتيبس فإذا به قد جاء وفينيته أن يحيي مواتها، ويعيد جريان ما جف من نهرها..
[email protected]