مكر التاريخ لا يتوقف عن المباغتة، باغت بنيامين نتنياهو بقرار اعتقال من المحكمة الجنائية الدولية فى لاهاى الهولندية، والقرار لا استئناف فيه ولا نقض.
بهذا القرار يتحول رئيس وزراء إسرائيل، من بطل قومى إلى بطل من أبطال شكسبير، يضيع فى كل الأحوال، ينزلق إلى نفق مظلم طويل.
هل خذل التاريخ نتنياهو، وهو المولع بسردية الأجداد التراجيدية منذ ثلاثة آلاف عام؟
على مدى أكثر من ألفى عام تطاردهم روما، وأحفادها، لم يكن العرب ضالعين فى المطاردة، بل عاش اليهود بينهم معززين مكرمين، بينما نتنياهو فى خطابه الرابع فى الكونجرس الأمريكى كان يستصرخ أعضاءه بتشكيل تحالف للحرب فى بلاد العرب، يداعب خيالهم بأجواء الحرب العظمى على النازيين!
شاءت الأقدار أن يصدر قرار الاعتقال من محكمة دولية، تقع فى أراض أوروبية، وأوروبا هى التى كتبت قصة المسألة اليهودية، ومسألة الحل النهائي، وعلى أراضيها جرت المحرقة، وهى نفسها التى هجرتهم من بلادهم إلى فلسطين العربية.
أهو مكر التاريخ أن تكون أوروبا صاحبة القدر المتواصل لليهود؟
يبدو الأمر هكذا، فهى المكان الذى وقعت فيه ليلة الزجاج المكسور، ليلة العاشر من نوفمبر عام 1938، عندما اندفعت جحافل النازيين الألمان لتحطيم متاجر اليهود، والاعتداء على أحيائهم، وقتل كل من تصل إليه أيديهم.
ليلة الزجاج المكسور يعتبرها مؤرخو المحرقة البداية الحقيقية لما جرى فى ألمانيا النازية، وفى كل عام يحيى اليهود تلك الذكرى، يسردون حكاياتها المروعة فى أفلام السينما.
نتنياهو، يتذكر فى تلك اللحظة، لحظة إعلانه مجرم حرب متهمًا بالإبادة، رحلة الأسلاف من بولندا إلى الأراضى الفلسطينية، وانتزاع شعب من أراضيه، وجلب غزاة ضمن فلسفة الاستعمار التى كانت سائدة آنذاك، ولا تزال، بدعوى دينية لا يسندها تاريخ أو جغرافيا.
كان يمكن أن تستمر سردية الاضطهاد، يصدقها أو يكذبها البعض، ويتعايش الجميع على تلك الأرض ”المقدسة”، وقد ظهرت أفكار تنويرية مع بوادر الهجرة الأولى عن الدولة الواحدة، أو الموحدة لكل سكانها، رفضتها على الفور - ولا تزال - جماعة نتنياهو المؤمنة بموروث خرافي، ويبدو أنها لا تريد أن تتوقف عن المسيرة العبثية المرهقة لهم وللعالم، كأن هناك قدرًا يمنعهم من التوقف.
نتنياهو المولع بالألقاب، من ملك إسرائيل، إلى أمير القدس، يجد نفسه مطاردًا فى ثلاثة أرباع الأرض، وقد يضحى به الربع الباقى، عندما تتعارض مصالحه الإستراتيجية مع الدفاع عن متهم بالإبادة الجماعية كجريمة لا تتقادم.
أمريكا ترفض قرار المحكمة الجنائية الدولية فى الوقت الراهن، تصفه بالعار، والمشين، والمعادى للسامية، لكنها هى نفسها أمريكا التى كانت فى الماضى تعيد سفن المهاجرين اليهود من أوروبا إليها، وترفض أن يهبطوا إلى أراضيها.
اتهام نتنياهو الجاهز للمحكمة بأنها معادية للسامية، وتكره اليهود كعرق وجماعة، لم تعد تنطلى على أحد، فالرجل قتل وأصاب أكثر من 150 ألف فلسطينى علنا، مرتكبا جريمة فى وضح النهار، ليست بحاجة إلى إثبات أو دليل، بينما الروايات عن رحلة الاضطهاد مجرد كتابات تاريخية لم يعايشها أحد فى الواقع، ليس تشكيكًا فيها، إنما التأكيد على أنها مجرد سجلات وصلت إلينا، كتبها مؤرخون منحازون، وإن وقعت بالفعل، فقد جرت فى تخوم أوروبا وليست بتخوم العرب.
قرار الاعتقال لنتنياهو ليس مجرد قرار عادى كالقرار الذى لاحق ديكتاتور تشيلى، أوجستو بينوشيه، ولا السودانى عمر البشير، ولا الصربى سلوبودان ميلوشيفيتش، بل هو أعمق أثرًا، وتخشى إسرائيل أن يتم استدعاء الآلاف من السياسيين والضباط والجنود الذين ارتكبوا الإبادة.
ببساطة، القرار خطير، يحاكم كيانًا كاملًا، يحاكم داعميه بالمال والسلاح، وهو بمثابة رأس جبل الجليد، يكسر حاجز الصمت المتواطئ الذى طال أكثر مما ينبغى.