في الاقتصادات المتقدمة، والنامية على السواء، لا غنى عن البيروقراطية في إدارة العمل بالمؤسسات الحكومية والخاصة، الديمقراطية في الأساس إطار لتنظيم العمل، وتقسيم المهام والمسئوليات بين المستويات الإدارية المختلفة على نحو يُسهم في تحقيق الاستقرار والتوازن في الأداء.
رغم أن إرهاصات البيروقراطية بدأت بعالم الاقتصاد الفرنسي فنسينت دو جورني في القـرن الثامن عشر تزامنًا مع الصعود الصناعي الأوروبي، إلا أن عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر (1864-1920) من أوائل المفكرين في العصر الحديث الذين صاغوا مفهومًا للبيروقراطية، حيث وضع نموذجًا مثاليًا لهذا المفهوم باعتباره طريقة عقلانية لتنظيم العمل؛ فهو يعتبرها أعلى أشكال التنظيم وأقدرها على تحقيق الأهداف، وهي إذا ما قورنت بالتنظيمات الأخرى تصبح كمن يقارن بين الإنتاج بماكينات والإنتاج بدون ماكينات.
لكن مع مرور الزمن تراكمت الإجراءات والتعقيدات الإدارية المرتبطة بها جعلها في بعض الأحيان عبئًا يعوق الأداء المؤسسي، وأصبح مصطلح البيروقراطية ذا دلالة سلبية، وبات يوصف الموظف غير المرن بـ«البيروقراطي».
في عصر تهيمن فيه أدوات الذكاء الاصطناعي على مختلف جوانب الحياة، لم يعد بالإمكان تجاهل الحاجة إلى إعادة هيكلة النظم الإدارية لتتماشى مع متطلبات العصر الحديث، وتوجه البلدان إلى «تصفير» البيروقراطية.
الحكومات الرشيقة
يشير مفهوم تصفير البيروقراطية، إلى إزالة العوائق الإدارية التي تعوق الإنتاجية والابتكار، مع تعزيز الكفاءة في تقديم الخدمات الحكومية، ومع تزايد حدة المنافسة على جذب الاستثمار الأجنبي المباشر بدأت الاقتصادات المتقدمة والنامية، في تبني مناهج ومفاهيم إدارية جديدة، تساعدها على البقاء والتكيف مع متغيرات الواقع الجديد وتحديات القرن الحادي والعشرين، وكل ذلك تطلب منها القيام بعملية الإصلاح الإداري الشامل لهياكلها الحكومية، والعمل بأساليب ومناهج جديدة.
ومن أحدث المداخل في الإصلاح الحكومي ما يُعرف بالحد من الإجراءات البيروقراطية، وهو منهج ظهر لأول مرة في مطلع التسعينيات من القرن العشرين في الولايات المتحدة، ويسعى للوصول إلى حكومة رشيقة وفاعلة تُدار بطريقة منظمة وذكية، بحيث تصبح الحكومة جهاز تحفيز، يتولى تهيئة الظروف وصياغة السياسات، وتقديم أوجه الدعم والمساندة للمجتمع، بدلًا من اتباع المركزية وتعقيد الإجراءات.
ماسك وراماسوامي
وأعاد الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب هذا المفهوم إلى الواجهة من جديد عقب إنشاء «وزارة الكفاءة الحكومية»، والتي ستدار من قبل إيلون ماسك، أغنى رجل في العالم، بمعاونة رجل الأعمال فيفيك راماسوامي.
المهمة الأساسية للكيان الجديد هي تحسين كفاءة العمل الحكومي من خلال تفكيك البيروقراطية، وتقليص اللوائح التنظيمية، وخفض الإنفاق الفيدرالي غير الضروري لأكبر اقتصاد في العالم.
والوزارة المستحدثة دورها استشاري إذ تقدم المشورة والتوجيه من خارج الحكومة، وتتعاون مع البيت الأبيض ومكتب الإدارة والميزانية لدفع الإصلاح الهيكلي على نطاق واسع، وخلق نهج ريادي للحكومة، وإجراء تغييرات على البيروقراطية الفيدرالية مع التركيز على الكفاءة، وفي الوقت نفسه، تحسين الحياة لجميع الأمريكيين.
التجربة الإماراتية
في عالمنا العربي تجربة رائدة لدولة الإمارات التي أطلقت قبل عام برنامج "تصفير البيروقراطية الحكومية" لتبسيط وتقليص الإجراءات الحكومية وإلغاء الإجراءات والاشتراطات غير الضرورية، في مرحلة جديدة للعمل الحكومي، بما يرتقي بمستويات الكفاءة والجودة والمرونة الحكومية.
وتعمل الجهات الحكومية الإماراتية وفق هذا البرنامج على إلغاء نحو ألفي إجراء حكومي وخفض نصف المدد الزمنية للإجراءات، وتصفير جميع الاشتراطات والمتطلبات غير الضرورية خلال عام، بهدف إحداث نقلة نوعية واستثنائية في الإجراءات الحكومية.
ويركز هذا البرنامج على الانتقال من إجراءات مطولة كثيرة المتطلبات إلى إجراءات حكومية مبسطة ومختصرة، من خلال دمج الإجراءات المتشابهة وإلغاء الإجراءات غير الضرورية، واختصار المدة الزمنية لإنجاز أي إجراء عبر الحد من المتطلبات غير الضرورية وتبسيط شروط الإجراءات القائمة.
ورغم أنه سيتم الإعلان عن نتائج هذا البرنامج أواخر العام الجاري، فإن مخرجات البرنامج تستهدف الوصول إلى نموذج حكومي جديد يكون الأبسط والأسرع والأسهل والأكفأ، وإحداث نقلة نوعية واستثنائية في الإجراءات الحكومية، بما يعزز ريادة العمل الحكومي.
الفساد الإداري
إن البيروقراطية غير الجيدة أو الرديئة هي أحد أسباب ارتفاع معدلات الفساد الإداري حول العالم، وهي أيضًا العائق الأكبر لحركة الإبداع والتطور وجذب رؤوس الأموال والتكنولوجيا، خصوصًا في العصر الحالي، حيث السرعة والتجربة وتداول الأفكار وتنفيذها هي العناصر التي يقوم عليها النجاح لكل من الدول والمؤسسات.
وتوفير المناخ الاستثماري الجاذب أهم بكثير للمستثمر، المحلي أو الأجنبي، من الحصول على حوافز فهو يهمه بالدرجة الأولى عنصر الوقت، والذي إذا طال يترتب عليه ضياع فرص وفقد أرباح، ولذلك يفضل الانسحاب من مشروعه والتوجه إلى دول أخرى توفر له الوقت، وتختصر الإجراءات، من خلال إيجاد نافذة واحدة يحصل من خلالها على الموافقات اللازمة لبدء مشروعه، ورحلة المستثمر مع البيروقراطية في الأجهزة المختلفة في أي بلد لا تنتهي بمجرد حصوله على الترخيص بالاستثمار، بل إنها تستمر خلال مدة إنجازه للمشروع وبعده، فهو يتعامل بصفة دورية ومنتظمة مع هذه الأجهزة.
لذا فإن الحكومات حول العالم في حاجة إلى تحولات جذرية نحو تبني أنماط إدارية مرنة وذكية، لتقليل التعقيدات الإدارية إلى الحد الأدنى باستخدام التكنولوجيا وتقنيات التحول الرقمي، لتصفير البيروقراطية.
والتجارب الدولية أثبتت أن عدم معالجة البيروقراطية تمهيدًا للقضاء عليها، يُؤدي إلى تحولها إلى فيروس معدٍ بالغ الضرر يمتلك المقدرة على التحور وإعادة إنتاج نفسه بطرق جديدة، والتسرب من خلال الثغرات الإدارية والتأقلم مع مختلف الظروف.