يوم الخميس الماضي شهدت الأوساط السياسية خطوة غير مسبوقة وحدثًا فارقًا في وجه الصلف الأمريكي في المقام الأول، ثم إجرام الكيان الصهيوني المحتل، حيث قررت المحكمة الجنائية الدولية إصدار مذكرات اعتقال بحق رئيس وزراء حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، ووزير دفاعه السابق، يوآف جالانت.
وقالت المحكمة، إنها أصدرت أوامر اعتقال بحقهما بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب في الفترة من 8 أكتوبر 2023 على الأقل حتى 20 مايو 2024. وقد وجدت المحكمة "أسبابا معقولة للاعتقاد بأن نتنياهو وجالانت يتحملان المسئولية الجنائية عن جريمة الحرب المتمثلة في توجيه هجوم متعمد ضد السكان المدنيين"، وأن "هناك أسبابًا معقولة للاعتقاد بأن كلا الشخصين حرما السكان المدنيين في غزة، عمدًا وعن علم، من الأشياء التي لا غنى عنها لبقائهم على قيد الحياة".
وعلى الرغم من اعتبار هذا القرار تاريخيا في هذا التوقيت، غير أن هناك مشهدين متناقضين تمامًا في الصورة، بما يجعل الحدث مفارقًا في قراءته على أرض الواقع، المشهد في ردود الأفعال السريعة والواضحة من قبل عدد ليس قليلا من الدول في الغرب، وإن كان بعض هذه الردود مهتزًا وغائمًا، مثل فرنسا وبريطانيا الداعمتين للاحتلال، وقد أكد رئيس الوزراء البريطانى، كير ستارمر عبر متحدثه، أن بريطانيا "تحترم استقلال المحكمة"، بينما قالت الخارجية الفرنسية "إن رد فعل باريس على قرار الجنائية الدولية سيكون متوافقًا مع مبادئ المحكمة"، غير أنها لم تعلق بوضوح على ما إذا كانت فرنسا على استعداد لاعتقال نتنياهو إذا اتجه إليها.
في حين أكد جويدو كروزيتو، وزير دفاع إيطاليا أن روما سيتوجب عليها اعتقال نتنياهو إذا اتجه لها، والأمر ذاته بالنسبة لهولندا التي أكد وزير خارجيتها كاسبار فيلدكامب، أن بلاده مستعدة للتحرك بناء على أمر الاعتقال الذي أصدرته الجنائية الدولية، وأشاد كذلك سيمون هاريس رئيس وزراء أيرلندا، بالقرار في بيان أكد فيه احترام بلاده لقرارات ودور المحكمة الجنائية الدولية، ولابد لأي شخص فى وضع يسمح له بمساعدتها فى أداء عملها الحيوي أن يفعل ذلك الآن، واصفًا القرار بالخطوة بالغة الأهمية، كما قال جاستن ترودو رئيس الوزراء الكندى، إن بلاده ستلتزم بكل أحكام المحاكم الدولية، ورأت تركيا القرار مرحلة مهمة للغاية بإحالة مسئولي الكيان المحتل الذين ارتكبوا جرائم إبادة بحق الفلسطينيين أمام القضاء.
قرار اعتقال نتنياهو يعني نظريًا أن الـ 124 دولة التي وقعت على نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، وفيها تسع عشرة دولة من أوروبا الشرقية ومثلهم من المحيط الهادي وآسيا وخمسة وعشرون من أوروبا الغربية، وثلاثة وثلاثون دولة من إفريقيا، هذه الدول جميعها مطالبة بتسليم رئيس وزراء الاحتلال حال السفر لها، والقرار يمثل إقرارًا دوليًا بنزع أي شرعية تبرر الحرب الهمجية على قطاع غزة، كما أنه يقرب كثيرًا من وضع نهاية سياسية لبنيامين نتنياهو، فقد أصبح مطاردًا ومطلوبًا، كما أنه يهيئ فرصًا لملاحقات أخرى محتملة لمسئولين في الكيان المحتل شاركوا في حروب الإبادة والتجويع، وكذلك فرصة لملاحقة الداعمين للاحتلال بالسلاح ولوجستيًا من دول الغرب، وكذلك دفع كثير من المؤسسات الغربية المتعاونة مع الكيان المحتل للتفكير في هذا التعاون المشين، والخوف من التورط في دفع تعويضات لمتضرري الحرب جراء هذا التعاون، ومن الأمور المهمة كذلك اتخاذ دول الإقليم والمنطقة خطوة واضحة ولها حُجتها باتجاه تعطيل العملية السياسية مع الكيان المحتل، نظرًا للتبعات السياسية والقانونية لوجود نتنياهو كممثل للكيان.
المشهد الآخر الذي يجعل من هذا القرار حبرًا على ورق قياسًا للحظة الآنية، هو ببساطة المفارقة الأكبر في استمرار استهداف المدنيين وشراهة جرائم الحرب الممنهجة ضد الفلسطينيين مع استمرار قصف المنشآت المدنية والمنازل واستهداف النازحين ومراكز الإيواء، وزيادة وتيرة القصف في المواقع المختلفة مثل مخيم النصيرات والبريج وجباليا والشاطئ، وعلى مدار الساعة هناك استشهاد لمئات الأشخاص معظمهم من النساء والأطفال، مع إصابة المئات، وكذلك استمرار قصف المستشفيات وآخرها مستشفى كمال عدوان شمال قطاع غزة والمربع السكني حولها، والحيلولة دون دخول المساعدات، بل وتعطيل عمل المنظمات الإنسانية وقصدية تجويع الأطفال وتشريدهم، حتى إن المتحدثة باسم منظمة الصحة العالمية مارجريت هاريس، قالت نصًا "بذلنا جهودًا لتقديم الخدمات الطبية كلما سنحت الفرصة، لكن العراقيل التي تفرضها تل أبيب قد حدت من قدرتنا على الوصول إلى جميع المحتاجين"، كما أكد فولكر تورك مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان في كلمته التي ألقاها خلال افتتاح الدورة السابعة والخمسين لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في جنيف، أن هناك تجاهلًا صارخًا من جانب الكيان المحتل للقانون الدولي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وكل هذا يعني بوضوح أن الاحتلال لا يكترث بأي قرارات أو أي قوانين أو أي رادع، طالما كانت واشنطن في ظهره، إذ إن كل ذلك يحدث أمام تجبر وعنجهية أمريكية تؤكد أن أمريكا هي مصدر الشر والحروب وراعية الإجرام والمجازر في العالم، ففي موقف ليس أقل من أن يوصف بالـ"بجاحة"، استخدمت واشنطن للمرة الرابعة حق النقض "الفيتو"، في مجلس الأمن الدولي، لتعطل مشروع القرار المقدم من أعضاء المجلس العشرة المنتخبين، المطالب بوقف فوري وغير مشروط ودائم لإطلاق النار في غزة، وقد حصل مشروع القرار على تأييد أربعة عشر عضوًا من الأعضاء الخمسة عشر، ولم يعتمد بسبب الفيتو الأمريكي، كما سارع بايدن بإعلان رفضه لقرار الجنائية الدولية بشأن ملاحقة الفتى المدلل ومجرم الحرب نتنياهو، ووصف القرار بأنه شائن، كما هدد المحكمة الجنائية الدولية بالعقوبات جراء هذا الحكم، وأمام هذا الدعم غير المحدود نجد وزير الأمن القومي للاحتلال اليميني المتطرف إيتمار بن غفير ووزير المالية بتسئيل سموتريتش يطالبان بضم كامل أراضي الضفة الغربية إلى الكيان المحتل، واستمرار بناء المستوطنات في كل مكان، مع فرض عقوبات على السلطة الفلسطينية.
إذن نحن أمام مشهدين سياسيين واضحين وضوح الشمس، إدانة شعبية ورسمية لجرائم الاحتلال، ومطالبات بوقف فوري للحرب ومحاسبة مجرمي الحرب، وفي المقابل صلف أمريكي وعنجهية من قبل الكيان المحتل وضرب عرض الحائط بالشرعية والقوانين الدولية اعتمادًا على هذا الدعم، فأي المسارين سيكمل طريقه في ظل استمرار المأساة الكبيرة التي يعيشها الشعب الفلسطيني على مدار أكثر من عام، بل وإشعال حرب موازية وتكثيف الغارات وسقوط مئات الضحايا والشهداء في الأراضي اللبنانية.