أتعجب كثيرًا من هذا الخلل الذي أصاب مجتمعًا عريقًا كاد أن يفقد رصيده الهائل من إنسانيته التي ميزته عن غيره لعقود، مجتمع تخلى بعض أفراده عن نصيبهم من خلق حميد وعن التزامهم بسلوك قويم، مجتمع تنازل أغلبه عن سمات كانت تزينه وتمنحه البريق؛ مجتمعنا الآن يعيش أسوأ لحظات اغترابه؛ فالاغتراب وسط جموع البشر مؤلم حقًا، وقرار البقاء في محيط من يجهلون طرق التعامل معنا برقي شيء مرفوض مرفوض.
إن الحياة مع من يتنكرون لفطرتهم سترغمنا يومًا على اتخاذ قرارنا العاجل بالرحيل، رحيل يبتعد بنا عن كل محفل يضم فيه أشخاصًا مزعجين، سنفضل الائتناس بوحدتنا كي لا نضطر للتعايش مع فوضى لم نعتدها في مجتمع تعارضت أقواله مع أفعاله، تم استنزافه وتفريغه من محتوى قيمه الإنسانية التي تسلمها من بعده جيل غير مأمون، جيل برع في تحويل السلام إلى صدام، الهدوء إلى صراخ، والصمت إلى صخب وضجيج.
ما زلت أفتقد مجتمعي القديم الذي كنت أنعم فيه بقسط وفير من راحة حقيقية وسلام، مجتمع متزن أحلق في فضائه الواسع والممتد بكل أمان، دون قلق، دون خوف أو تهديد، مجتمع يمنحني الحق في الإقامة الكاملة وسط أناس يقبلون بي كما أنا عليه وليس كما يريدون هم لي، مجتمع ينتشل بقايا وجدان متقد كاد أن يخفت، يغرب أو يغيب، مجتمع ينقذ نفسًا من شتاتها، نفسًا تواظب على مقاومة تيار معاكس لتصد عنها فيه فيضان الجدل ولغو الحديث.
كثيرًا ما كانت تطيب لنفسي فكرة التنزه على شاطئ نهر النيل، كانت أفكاري تعانق ذكرياتي هناك، فتأتيني منسابة كأمواج من حرير، تهمس لي نسماته بحديث عذب يطول، تبعث لي برسائلها الملهمة وتفتح أمامي أبواب الشغف بلا حدود، أصبحت الآن أخشى فوضى الشارع، يرهبني عبثه ويزعجني ما وصل إليه، فأصبح الخروج من المنزل يمثل لي معنى حرفيًا للتعذيب.
عاصفة التغيير الجامحة تقترب، تدنو منا، تنذرنا وتبلغنا برسالتها العاجلة: "احذروا الفوضى" انقذوا جيلًا اغتر بنفسه، جيل أصابه التوحد والجمود، جيل تعود أن يقبع لساعات أمام شاشات تستعبده، تحركه كما تشاء، لا كما هو يريد، إنه المعترض بلا هدف، المحتج بلا داع، غير المكترث لنتائج عناده وطيشه وتسطيحه للأمور، جيل يفقد هويته يومًا بعد يوم بالتدريج.