Close ad

التهديد النووي.. والأديب الياباني‬

24-11-2024 | 18:01

‬في ظل التهديد النووي بين روسيا والغرب وأمريكا في الآونة الأخيرة جراء الحروب الجارية خلال هذا العام 2024 مثل حرب أوكرانيا وروسيا، والحرب الجارية في غزة ولبنان والسودان واليمن وغيرها من المناطق في العالم.. وتزامنًا مع هذه التهديدات.. أعلنت الأكاديمية السويدية المانحة لجائزة نوبل عن فوز المنظمة اليابانية "نيهون هيداكيو" بجائزة نوبل للسلام لعام 2024.. تقديرًا لجهودها في مجال تحقيق عالمٍ خالٍ من الأسلحة النووية.. تأسست هذه المنظمة على يد الناجين من القنبلتين الذريتين اللتين ألقيتا على هيروشيما وناجازاكي في عام 1945.. وأعربت المنظمة الفائزة عن أن الوضع الحالي في غزة يذكرنا باليابان قبل 80 عامًا.

وفي سياق متصل أعرض هنا الأديب "أويه كنزابورو Ooe Kenzaburo" جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية الذي عبر عن الهزيمة المريرة لليابان والرعب النووي الذي صاحب إسقاط القنبلة النووية على هيروشيما ونجاساكي.

ولد الأديب أويه كنزابورو Ooe Kenzaburo في الحادي والثلاثين من شهر يناير عام 1935 بجزيرة شيكوكو "Shikoku" ‬وتربى فيها.

جلس الكبار حول أجهزة الراديو وأخذوا يبكون، أما الأطفال فقد تجمعوا في الخارج على الطريق المترب وتهامسوا بحيرتهم، لقد كنا مضطربين ومحبطين؛ لأن الإمبراطور قد تكلم بصوت إنسان.. صوت لا يختلف عن صوت أي واحد من البشر.. وبعد لحظة شعرنا بخوف ونظرنا إلى بعضنا البعض.

هكذا تربى ونشأ الأديب أويه كنزابورو على قيم أخلاقية تختلف عن القيم المستوردة من الغرب أي الديمقراطية.. وهي فجوة كبيرة بين اليابان قبل هيروشيما، ثم اليابان بعد هيروشيم.. فعلى الرغم من تأثره بفلاسفة الغرب وأدبائه، فإن لديه اهتمامًا كبيرًا بالهوية الجماعية للثقافة.

فالكاتب من كتَّاب ما بعد الحرب الذين يعانون الاغتراب في المجتمع المعاصر، وفقدان الهوية اليابانية التي شغلت الكثير من الكتاب بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.. وعلاوة على ذلك التجربة المأساوية الشخصية؛ وهي ولادة طفل معاق في مخه، وانعكاس هذا الحدث المأساوي على نتاجه الأدبي وظهوره في العديد من قصصه ورواياته الأدبية.

فيقول الأديب: -
"إن رواياتي الأدبية تناولت موضوعين أساسيين هما التهديد النووي الدائم، والحياة مع طفل معاق"، فهو واحد من أكثر كتاب ما بعد الحرب في اليابان أصالة وإثارة.

المرحلة الأولى.. وهي مرحلة الخمسينيات والتأثر بالغرب والأدباء والفلاسفة الغربيين أمثال الروائي الروسي "ثيودور دستويفسكي".. والكاتب الفرنسي "رابليه فرانسوا" بلزاكأورنودو" " كامو البيرت".. وبخاصة الفيلسوف الروائي الفرنسي "جان بول سارتر" الذي لعبت أفكاره الوجودية دورًا حاسمًا بالنسبة إليه.

المرحلة الثانية.. وهي مرحلة الستينيات، وتعتبر السنوات الأولى من الستينيات هي الأكثر غزارة في حياة الكاتب، تخرج الأديب في جامعة طوكيو عام 1959، وبدأ يبحث عن هوية اليابان الضائعة بعد الحرب، والتي شغلت الكثير من الكتاب بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، فبدأت تتحول كتاباته الأدبية نحو القضايا السياسية والاجتماعية والمطالبة بتأكيد القيم الجوهرية الإنسانية وقضايا السلام واحترام حق الإنسان في الحياة، وخصوصًا قضايا ما بعد الحرب العالمية الثانية التي كانت الشغل الشاغل لجيل ما بعد الهزيمة العسكرية التي كان لها انعكاسات هائلة على جميع مظاهر الحياة الاجتماعية والثقافية والأدبية.. فأصبح الأديب منشغلًا بأخلاقيات ذلك الجيل، وما تركته الحرب الذرية من بصمات ضاربة على المسار الأخلاقي لجيل تلك الحقبة المعتمة من تاريخ اليابان.

وخلال هذه المرحلة الأدبية حدث حدثان مهمان كان لهما الأثر الواضح على حياته الشخصية والأدبية معًا، أولهما عام 1963 إنجاب طفل مشوه بورم في الجمجمة بخلفية رأسه، فهي من الأحداث المصيرية في حياة الأديب.. وكان على الروائي أن يختار ما بين الموافقة على إجراء عملية جراحية لابنه لاستـئصال هذا الورم قد تؤدي إلى تلف حاد بالمخ، أو أن يترك ابنه لمصيره المحتوم.

ولما كان الخيار صعبًا بالنسبة له فلم يحتمل الموقف، فهرب إلى مدينة هيروشيما، وتقابل مع مدير مستشفى الناجين والأحياء من القنبلة الذرية، وقال والدا الطفل "يبدو أن الطفل يستمتع عندما نقوم بتشغيل له أحد الأشرطة المسجلة الذي يحتوي على قرابة مائة وخمسين صوتاً مختلفاً من أصوات الطيور.. ذلك هو كل ما استطعنا تقديمه لهذا الطفل كوالدين، أن نجعله ينصت إلى مسجل بأغاني طيور برية".. 

ولكن عندما بلغ الطفل عامه السادس فاجأنا بأنه يستطيع أن يميز بين الأصوات المختلفة، وليس هذا فحسب.. بل استطاع أن ينطق بأسماء كل هذه الطيور التي تعرف إليها عبر المسجل.

وقد أثرت هذه الولادة كثيرًا في الكاتب الذي اعتبر أن ما أصاب الابن بمنزلة أحد آثار التلوث النووي الذي أصاب أبناء جيله، وكان ذلك الحدث البشع في حياته سببًا لتحوله إلى النضال العام ضد التسلح النووي.. 

وأثَّر ذلك أيضاً على نتاجه الأدبي كله.. فجعل ابنه المعاق بطلًا لعدد لا بأس به من الروايات الأدبية والقصائد الشعرية.. لذا قرر الكاتب أن يُدخل هذا الابن ليس فقط في حياته اليومية، بل أيضًا في عالمه الروائي الذي يخلو من السقوط في التكلف العاطفي.

انعكس هذا الحدث في عمله الأدبي الطويل "تجربة شخصية Kojintekina Taiken"، ويبدو أن تجربته القاسية مع ابنه أخمدت نيران المغامرة والتمرد التي كانت مشتعلة في أعماله التي سبقت ميلاد ابنه، وحول ميلاد ابنه داخل الرواية قال- :"أصابتني الشجاعة وأنا أمني نفسي بأن يكون لي طفل، لكن هذه الأمنية لم تلبث أن أصبحت مأساة  "فتحكي لنا هذه الرواية عن أحزان أب يتردد بين أن يتحمل مسئولية الابن المعاق، وأن يقوم الأب بخنق الابن لكي يريحه من العذاب الذي ينتظره، ومنذ ذلك الوقت خصص الكاتب أعماله للحديث عن هذا الابن المعاق وتطوره وتفاعله مع الحياة.

يقول أيضاً في روايته : -  
"الشيء الأكثر أهمية في هذا العالم هو ابني هيكاري، إنه يعيش الآن في مؤسسة لرعاية المرضى العقليين.. إنه يعزف على البيانو، وهذا يدفعني دائمًا إلى أن أتكلم عن الشيء نفسه.. ماذا أفعل من أجل ابني، إنني عاجز عن فعل شيء له، في الوقت الذي نستطيع فيه أن نغزو الفضاء، ولذا فقد كرست أدبي كي يجيب أحد عن مثل هذه التساؤلات". 
وفي نهاية الأمر استطاع أويه كنزابورو أن يجعل من ابنه إنسانًا مستقلًا، وبالفعل أصبح موسيقيًا معروفًا.. وبعدها أعلن أويه كنزابورو أنه سيتوقف عن الكتابة عن ابنه المعاق.. الذي حقق الاستقلالية بنفسه.

والحدث الثاني كان عام 1964.. وهو زيارته لمدينة هيروشيما للاطلاع على الدمار الذري الذي لحق بها.. فوظف قلمه الأدبي في كتابة المقالات والكتب من أجل مناهضة التسلح النووي وتهديده مثل "ملاحظات على هيروشيما Hiroshima Noto 1965" والعمل الأدبي "قولوا لنا كيف نتجاوز جنونناWarera no Kyoki o Ikinobirumichi o oshieyo 1969".. والعمل الأدبي "ملاحظات على اوكيناوا Okinawa Noto ".. ومجموعة المقالات "الخيال في العصر الذري Kakujidai no Sozo 1970".

المرحلة الثالثة من حياة الأديب وهي فترة التسعينيات، وفيها نال الأديب أرفع جائزة أدبية في العالم وهي جائزة نوبل في الآداب عام 1994م، وفوزه بهذه الجائزة الأدبية الكبرى مفاجأة له، واستقبل النبأ بتواضع دون أن يخفي فرحًا عظيمًا وتمنى أن يتقاسم هذه الجائزة مع أقرانه اليابانيين الكبار الذين رحلوا عن الحياة.. 

ويقول الأديب أويه :-
"بفضل ما ورثناه عنهم، ولأن الصدفة أرادت أن أكون على قيد الحياة حتى الآن، لي الشرف أن أحمل هذه الجائزة.".. وهو ثاني أديب ياباني ينال جائزة نوبل في الآداب بعد ربع قرن من الأديب كاواباتا ياسوناري Kawabata Yasunari الحائز على الجائزة في عام 1968.. وبهذا يصل الأدب الياباني إلى العالمية.

"إن تجربة الحرب وانهيار اليابان في العام 1945 أثَّرا على تطوره بشكل قوي "وتابعت أنها اختارت أويه كنزابورو الذي شكَّل بقوة وشاعرية عالمًا خياليًا؛ حيث تتكثف الحياة والأسطورة في صورة مؤثرة لوضع الإنسان في العالم المعاصر.

 وأضافت :- 
"إن استسلام اليابان بعد إلقاء القنابل الذرية في العام 1945.. شكل للشاب أويه كنزابورو صدمة عنيفة، وترك هذا الذل في نفسه أثرًا عميقًا وميَّز الكثير من أعماله.

وأضافت الأكاديمية :-
"إن رواية رهان القرن 1967 أو الصرخة الصامتة هي عمل أساسي لأويه".. وأوضحت الأكاديمية أيضًا: "عرفت دراساته توجهًا غربيًا، وتأثر بقوة بثقافة الغرب، ومن بين الكتاب الذين نعددهم نرى دانتي ورابليه وبالزاك وبخاصة سارتر الذي لعبت أفكاره الوجودية دورًا حاسمًا بالنسبة إليه.. 

وما جاء أيضًا في حيثيات قرار الأكاديمية السويدية يبين سبب اختياره لهذه الجائزة، فقد عُرف منذ بداية حياته الأدبية في الخمسينيات بالشخصية المناضلة المدافعة عن حقوق الإنسان، والمعارضة للتسلح النووي.

وقال الأديب أويه كنزابورو في مقابلة صحفية غداة منحه جائزة نوبل من قبل الأكاديمية الملكية السويدية في استوكهولم: "هذا الشرف هو شرف لكل الكتاب الآسيويين"  مضيفًا: "آمل أن أستطيع بفضل هذه الجائزة أن أنشر الأدب الآسيوي في باقي العالم".

* أستاذ الأدب الياباني جامعة القاهرة، وأستاذ زائر بكلية اللغات جامعة الأهرام الكندية

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة