على المستوى الشخصي أحترم وأقدر السيدة (فاطمة محيي الدين يوسف)، الشهيرة بـ"روز اليوسف"، وصاحبة المجلة الأقدم والأهم من بين المجلات المصرية العريقة..
لهذا عندما واتتني الفرصة لتقديم سيرة حياتها ضمن سلسلة "عقول" من سلاسل الهيئة المصرية العامة للكتاب، التي أشرف برئاسة تحريرها، تحت رعاية رئيس الهيئة الدكتور أحمد بهي الدين، سارعتُ بالبحث عن مؤلفة تستطيع إبراز ملامح تلك الحياة الثرية بدافع من الحب والمودة، ووجدت ضالتي في الروائية "مرفت البربري"، التي نالت جائزة "إحسان عبدالقدوس" عن إحدى رواياتها.
ورحبَت بفكرة الكتابة عن روز اليوسف سيدة الصحافة، والفنانة الممثلة في بواكير ظهور المسرح. وكتَبت مؤلَّفًا بارع العبارة، دسم المحتوي، شمل قصة حياتها، إلى جانب قصة مجلتها "روز اليوسف"، كيف نشأت؟ وكيف لاقت ما لاقت من مصاعب وعراقيل فتجاوزتها واستمرت في تحقيق نجاح بعد نجاح، حتى تحولت "روز اليوسف" إلى مؤسسة صحفية من أهم وأقوى المؤسسات في تاريخ الصحافة المصرية.
ندوة وكتاب
كتاب: (فاطمة اليوسف، رائدة الصحافة المصرية) هو الإصدار الثامن من إصدارات سلسلة عقول، وهو من أحدث إصداراتها. وبهذه المناسبة انعقدت ندوة لمناقشة وتوقيع الكتاب بالمركز الدولي للكتاب بوسط البلد الأسبوع الماضي.
شرفت بإدارة الندوة الممتعة، بصحبة مؤلفة الكتاب الروائية: "مرفت البربري"، والشاعر حسين بكري ، ومدير تحرير السلسلة الدكتور محمود نبيل، وبحضور عدد من المثقفين والمفكرين والشعراء والصحفيين.
تطرقت الندوة بطبيعة الحال للحديث عن الفن والصحافة على عهد فاطمة اليوسف، وكيف أنها تألقت في مقتبل عمرها كممثلة أولي أمام يوسف وهبي ونجيب الريحاني، ونالت لقب: "سارة برنار الشرق"، ثم إذا بها فجأة تقرر أن تتجه للصحافة. فكرة راودتها بالصدفة وهي تجلس على مقهى بصحبة زوجها الفنان "زكي طليمات" وآخرين، فإذا بها تتشبث بالفكرة وتبدأ في تنفيذها على الفور. وتنجح بالفعل في إصدار التصاريح والتراخيص الخاصة بإصدار المجلة، وكيف أنها أصرت على تسميتها "روز اليوسف" على غير المألوف في ذلك الوقت، واشتهرت المجلة سريعاً كما اشتهرت صاحبتها من قبل.
وقد تخرج من مدرسة روز اليوسف الصحفية عدد هائل من كبار الصحفيين، قامات صحفية وأدبية كبيرة مارست الكتابة على صفحات تلك المجلة الرشيقة منذ بدايتها. ورغم أن بعض الذين كتبوا فيها أنفسهم توقعوا عدم استمرارها، وأن فاطمة اليوسف لن تستطيع أن تستمر كصحفية، إلا أنها خالفَت توقعاتهم، واستطاعت أن تثبت أن المرأة قادرة على صنع المستحيلات إذا سنحت لها الفرصة لإثبات ذاتها.
من بين الذين تخرجوا من مدرستها صحفيين أعرفهم، وتتلمذت عليهم، مثل: جلال الدين الحمامصي. وكم وددت لو أنني كنت من بين هؤلاء الذين شهدوا هذا العصر الصحفي الثري بكبار المفكرين والمثقفين الذين أسسوا للثقافة والصحافة. كنت محظوظاً أنني عملت بالأهرام، تحت قيادة واحد من أعلامها ورموزها: "مرسي عطا الله" الذي أسس "الأهرام المسائي" وقادها للنجاح والتألق، وظللت مصاحباً له في رحلته الصحفية، أشرف على الصفحة الثقافية مستمتعاً بالعمل الثقافي في تلك الفترة في بواكير حياتي الصحفية، وكم من روائيين وشعراء وأدباء خرجوا من عباءة هذه الصفحة التي تابعها الناس وأحبوها على مدى سنوات طويلة، قبل دخول عصر السوشيال ميديا، ولتطل الأهرام المسائي على جمهورها من نافذة موقعها الإليكتروني، مؤمنة برسالتها الثقافية واستمراريتها رغم طغيان الإعلام المرئي على الإعلام المقروء.
تفاعل عظيم
كان تفاعل الحاضرين مع الندوة تفاعلاً خصباً أدهشني. فقد انهمرت الأسئلة والمداخلات في محاولة للاشتباك مع ما تم طرحه من رؤى وأفكار تضمنها الكتاب. فتحدثت الزميلة دعاء فتحي الصحفية بالأخبار المسائي عن السبب الذي دفع السيدة فاطمة اليوسف للاتجاه نحو الصحافة، التي تعد اختفاء عن الأضواء إلى العمل المكتبي، وتحدثت عن دافعها لترك الشهرة والأضواء من واقع معرفتها بالصحفي "محمد عبدالقدوس" حفيدها، ابن الأديب المعروف "إحسان عبد القدوس"، وناقشها المحاضِرون في محتوى مداخلتها القصيرة.
كما حرص الناقد معتز محسن المؤرخ الفني، ومؤلف كتاب: "أم كلثوم" الصادر عن سلسلة عقول، على المشاركة بمداخلة ثرية تحدث فيها عن شخصية فاطمة اليوسف المميزة، من واقع قراءته للكتاب موضوع الندوة.
بعدها تعددت المداخلات والأسئلة، ومن بين أهم المحاور التي أذكرها من ذلك النقاش المحتدم: محور التعليم قديمًا بالمقارنة مع التعليم اليوم، وكيف أن التعليم قديمًا أفرز نماذج متعددة من المفكرين الكبار المحبين للغة العربية والمهتمين بالبلاغة في القول وأسلوب الكتابة، فكان مما قاله الشاعر حسين بكري: إنه شاهد مسرحية حديثة ناطقة بالفصحى، فإذا بكل ممثليها يخطئون النطق، إلا واحد فقط من الممثلين القدامى. ولا شك أن الاهتمام باللغة العربية اليوم في انحدار بالمقارنة بذلك العصر الذي كان الجميع فيه حريصين على النطق السليم والإلقاء البليغ والكتابة بأسلوب جذاب؛ ولهذا ازدهرت الصحافة ازدهارًا عظيمًا.
ومن الغريب أن سيدة الصحافة "روز اليوسف" وبرغم أنها لم تدخل مدرسة واحدة، إلا أنها تعلمت على يد مؤلفي الروايات والمنولوجات؛ وعلى رأسهم زوجها الأول: محمد عبدالقدوس، الذي كان مؤلفًا للمونولوج والمسرح، كما تعلمت الإلقاء على يد يوسف بك وهبي، فكانت عندما تُملي مقالاتها الصحفية الرشيقة، تمليها بمزيج من حسها الفني لكثرة قراءتها للمسرحيات وفنون الحوار والمونولوج، ثم الحِس الصحفي الذي اكتسبت الخبرة فيه بالتدريج.
كثير من المشاركين في الندوة أجمعوا، من واقع استماعهم لما قيل، أو من واقع قراءتهم للكتاب، أن قصة روز اليوسف جديرة أن تتحول لعمل فني: فيلم أو تمثيلية أو مسلسل، وحبذا لو حدث هذا قريبًا، وأتمنى أن يكون إصدار السلسلة أحد المصادر التي تمهد لكتابة مثل هذا العمل الفني.
مئوية روز اليوسف
يصادف معرض الكتاب القادم في نسخته السادسة والخمسين، والذي يفتح أبوابه يوم الخميس الموافق 23 يناير عام 2025، وينتهي يوم الأربعاء الخامس من فبراير 2025، مناسبات عديدة لعل أهمها مئوية "روز اليوسف"، إذ يكون قد مرَّ على إصدار العدد الأول منها مائة عام كاملة!
كثير من القراء لا يعرفون قصة حياة تلك السيدة التي أسست منبرًا صحفيًا دام مائة عام. فكان لابد أن يوجد عمل مكتوب يرسخ للتعرف على رموزنا في مختلف المجالات، وكان من حظنا أننا بادرنا لتسجيل سيرة "فاطمة اليوسف" لتقديمها لجيل جديد من الشباب والفتيات، قليل منهم أو منهن لديه معرفة بهذه السيرة الحياتية الثرية بالأحداث والحكايات الممتعة والموحية.
فاطمة اليوسف نموذج لسيدة مكافحة بدأت حياتها من تحت الصفر، فتاة يتيمة الأبوين وحيدة، هبطت من سفينة بالإسكندرية هربًا من المجهول إلى المجهول. ثم عملت بالفن زمنًا وصارت نجمة مشهورة من نجمات المسرح، وتزوجت قبل أن تكمل عامها العشرين، لتنجب ابنها الوحيد "إحسان" الذي صار واحدًا من كبار الأدباء، ثم قررت تنفيذ مشروعها الصحفي الأهم في حياتها ومسيرتها: "مجلة روز اليوسف". ولنحتفل بعد مائة عام من صدور أول عدد من مشروعها الصحفي الذي بدأ بسيطًا بنقود اقترضتها من أحد شركائها، وبمبلغ 20 جنيهًا فقط! ولنحكِ قصتها الممتعة المليئة بالمنعطفات العجيبة. هي سيدة تستحق أن نكتب عنها ولها عدد من المؤلفات، وأن نقيم لها عددًا من الاحتفاليات.
ولعل كتاب (فاطمة اليوسف.. رائدة الصحافة المصرية) يكون سببًا في تحفيز عدد من فتيات مصر وبناتها النابهات لإثراء الحياة الثقافية والاقتصادية بمشاريع كهذه تبقَى وتثمر وتصبح مثالًا ونموذجًا للمشروعات العابرة للأجيال.
[email protected]