الانتخابات التشريعية المبكرة كانت موضوع مواجهة لعدة أيام حيث تعانى البلاد من أزمة صناعية خطيرة
موضوعات مقترحة
جاء إعلان المستشار الألمانى أولاف شولتز، عن إقالة وزير ماليته كريستيان ليندنر، بتهمة محاباة حزبه على حساب المصلحة المشتركة، بمثابة وضع حد فعلى للائتلاف الثلاثى، الذى يتولى السلطة فى ألمانيا، ما أجبر هذه الأخيرة، على الاتجاه نحو إجراء انتخابات تشريعية مبكرة فى 23 فبراير لتشكيل حكومة جديدة.
الانتخابات التشريعية المبكرة فى ألمانيا، كانت موضوع مواجهة لعدة أيام حيث تعانى البلاد من أزمة صناعية خطيرة، إذ أدى الانهيار المفاجئ للائتلاف الثلاثى الذى قاده أولاف شولتس لمدة ثلاث سنوات، إلى إغراق أكبر اقتصاد فى أوروبا فى أزمة غير مسبوقة، زادها القلق من تداعيات انتخاب الجمهورى دونالد ترامب، رئيسا للولايات المتحدة.
لم تنتظر الأحزاب الاتفاق على موعد للانتخابات، لتطلق حملاتها الانتخابية، حيث يأتى المحافظون مع زعيمهم فريدريش ميرز، فى مقدمة استطلاعات الرأى بنحو 32%، مؤكدا أن العالم يتوقع ظهور جمهورية ألمانيا الفيدرالية القادرة على العمل.
وحتى لو فاز المحافظون كما تقول آخر استطلاعات الرأى، التى نشرت بعد تفكك الحكومة، فإن تشكيل الحكومة لا يبدو سهلاً، فالمحافظون لا يريدون فى الوقت الحالى أى تحالف، مع حزب البديل من أجل ألمانيا هذا الحزب اليمينى المتطرف الذى حصل على 19.5%، فى الاستطلاع الأخير، إذ يرغب فريدريش ميرز فى، تجنب تشكيل ائتلاف ثلاثى، فإن نتائج الأحزاب الأخرى لن تسمح له بذلك، فى هذه المرحلة مع حصول الحزب الاشتراكى الديمقراطى على 15.5%، مثله فى ذلك مثل حزب الخضر.
ويأمل فريدريش ميرز، الذى احتفل للتو بعيد ميلاده التاسع والستين فى الاستفادة من الزخم الذى خلقه سقوط حكومة شولتز التى لا تحظى بشعبية كبيرة، فقدرة حزب الاتحاد الديمقراطى المسيحى على الاقتراب من 35% سوف تعتمد على وزنه السياسى فى الحكومة المقبلة، وبالتالى على مدة المحادثات لكتابة “عقد الائتلاف”، وهى خارطة الطريق التى صاغها الطرفان اللذان اختارا الحكم معًا، ولكن حتى لو تم إعدادها مسبقًا فمن المتوقع أن تستمر هذه المفاوضات عدة أسابيع، بعد انتخابات 23 فبراير، وبالتالى لا يمكن للحكومة المقبلة، أن تتولى مهامها حتى إبريل 2025 على أقرب تقدير.
ويعتزم أولاف شولتز، على الرغم من تراجع شعبيته فى استطلاعات الرأى قيادة حملة الحزب الاشتراكى الديمقراطى، فى حين يُعَد وزير دفاعه بوريس بيستوريوس هو السياسى الأكثر شعبية فى ألمانيا على الإطلاق.
الانهيار المفاجئ
كان الانهيار المفاجئ للائتلاف الثلاثى، الذى ظل فى السلطة لمدة ثلاث سنوات، والذى ارتبط بالخلافات حول السياسة الاقتصادية، التى أصبح من الصعب التغلب عليها سبباً فى دفع أكبر اقتصاد فى أوروبا، إلى وضع غير مسبوق، ومع هذه الأزمة يرى زعيم المحافظين فريدريش ميرز المنافس الكبير السابق لأنجيلا ميركل، أن حلمه فى الوصول إلى المستشارية يقترب، حيث أصبح حزبه هو الفائز الواضح فى الانتخابات.
نهاية مرعبة أفضل من رعب بلا نهاية
بهذا المثل الألمانى لخصت صحيفة التايمز، ما قام به المستشار أولاف شولتز من إقالة وزير ماليته كريستيان ليندنر، وتعيين يورج كوكيز، والذى يعد أقرب مستشار اقتصادى له لشغل المنصب المؤقت، وقد كتبت صحيفة لوموند أن يورج كوكيز هو تكنوقراطى مؤهل للغاية، ومصرفى سابق من الحزب الديمقراطى الاشتراكى، وذو خبرة فى الأزمات أى أنه باختصار شخص مثالى بحسب الصحيفة الفرنسية للحفاظ على الموارد المالية فى الظروف المضطربة.
الخبير الاقتصادى الإيطالى فرانشيسكو جيافاتزى، يرى أن خروج الليبراليين المؤيدين لصرامة الميزانية يعد خبرا جيدا لألمانيا ولأوروبا أيضا. فاستقالة كريستيان ليندنر، وعودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، تضع برلين أمام خيارات حاولت حتى الآن تجاهلها، ولكن لم يعد بإمكان دول الاتحاد الأوروبى، أن تخدع نفسها بالاعتقاد، بأن المظلة الأمريكية تستمر فى حمايتها مجانا، فقريبا سوف تنشأ مشكلة إعادة بناء أوكرانيا، فقد أكد الأمريكيون دائماً أن الأوروبيين، لابد وأن يتحملوا هذه التكاليف، ويعتقد كثيرون أن الخوف من دونالد ترامب من شأنه أن يعيق أوروبا، فإن الإشارة التى جاءت من برلين، لابد أن تدفع أوروبا إلى الإسراع فى مسار يهدف إلى ضمان النمو والاستقلال.
الحفاظ على الحرية
وسط ابتهاج شعبى يتناقض مع أجواء اللحظة المظلمة المرتبطة بشكل خاص بالأزمة الحكومية الخطيرة التى تمر بها البلاد، احتفلت ألمانيا بسقوط جدار برلين الذى انهار قبل 35 عاما، مرددين شعار الحفاظ على الحرية، فى محاولة لعدم إغفال رمزية هذا الحدث التاريخى، الذى وقع فى 9 نوفمبر 1989.
ويجد هذا الشعار صدى خاصا، فى وقت تتراجع فيه الديمقراطية فى جميع أنحاء العالم، وتستمر الحروب فى غزة وأوكرانيا، وفى الوقت الذى يواجه فيه العالم أيضا صعود الشعبوية والمعلومات المضللة والانقسام الاجتماعي، فقد سجل حزب البديل من أجل ألمانيا اليمينى المتطرف نتائج عالية تاريخيا، فى حين حققت مجموعة جديدة من اليسار المتطرف تقدما كبيرا. ويعارض الطرفان المساعدات العسكرية لأوكرانيا لصد الهجمات الروسية، كما سلطت الانتخابات التى أجريت فى سبتمبر فى ثلاث مناطق فى جمهورية ألمانيا الديمقراطية الضوء، على الانقسامات السياسية المستمرة بين ألمانيا الشرقية والغربية.
ويأتى الانهيار الذى طالما خشيته الحكومة فى الداخل فى أسوأ وقت بالنسبة لألمانيا، ولكن بالنسبة للمطلعين على سياسة برلين، فإن هذا ليس مفاجأة على الإطلاق، حيث كانت الشقوق تتسع فى ائتلاف “إشارة المرور” حيث اشتبك اللون الوردى الديمقراطى الاشتراكى والأخضر البيئى أكثر فأكثر مع اللون الأصفر الليبرالى، وانتهى الأمر بهذا التحالف إلى غرق ألمانيا فى أزمة نموذجها الصناعي، وتحيط حالة من عدم اليقين بالموازنة الفيدرالية لعام 2025 والذى يعد إعدادها أصل الأزمة الحالية، التى أدت إلى انقسام بين الليبراليين واليسار داخل الائتلاف الحكومي.
فتمزق الائتلاف نادر للغاية فى ألمانيا، إذ كان أولاف شولتز يريد أن يقود حكومته حتى الانتخابات التشريعية المقبلة، المقرر إجراؤها فى 28 سبتمبر 2025 لكن الفريق الحكومى تعرض للتقويض لعدة أشهر، بسبب الخلافات السياسية والاقتصاد والهجرة والمشاجرات الشخصية. وتتركز الخلافات حول حلول إنعاش أكبر اقتصاد فى أوروبا، والمهدد بالركود للعام الثانى على التوالى.
يريد الديمقراطيون الاشتراكيون بقيادة أولاف شولتز، الحفاظ على أولوياتهم الاجتماعية ويدفع حزب الخُضر تحت زعامة روبرت هابيك إلى مكافحة تغير المناخ، فى حين يظل الليبراليون متمسكين باحترام الحدود الدستورية الصارمة التى فرضتها ألمانيا، فيما يتصل بعجز الميزانية والديون.
وكانت الفجوة بين أحزاب الائتلاف غير المتجانس، الذى يجمع الديمقراطيين الاجتماعيين ونشطاء البيئة مع الليبراليين فى الحزب الديمقراطى الحر، قد تفاقمت للغاية خصوصا فى الأيام الأخيرة، وكان تسريب وثيقة لكريستيان ليندنر، تهدف إلى “نقطة تحول اقتصادية” ليبرالية ضد الخط الوسطى للحكومة هى القشة الأخيرة، وكان وزير المالية نفسه هدد عدة مرات بالانسحاب من الائتلاف قبل نهاية العام، إذا لم يفز بقضيته.
ومن غير المؤكد أن يؤدى رحيل شولتز الحتمى، إلى تأثر شركائه الأوروبيين ولذا عمل شولتز خلال قمة المجموعة السياسية الأوروبية على طمأنة شركائه، وكذلك الرئيس الأوكرانى فولوديمير زيلينسكى التى تعتبر برلين ثانى أكبر داعم عسكرى له. وإذا كانت هذه فرصة لاستعادة بعض التماسك السياسى لألمانيا، فإن تغيير السلطة فى برلين قد تسمح للأوروبيين بإيجاد حلول للعواصف المقبلة.
ومع ذلك فإن عودة حزب الاتحاد الديمقراطى المسيحي، لن يكون مفروشا بالورد، فعلى الرغم من قوة ميرز وحزبه فإنهم سيتعين عليهم أيضًا الالتزام بقانون الائتلافات القاسى تحت أنظار اليمين المتطرف الذى يزداد حضوره، فحزب البديل من أجل ألمانيا اليمينى المتطرف يلعب على الشعور بالحنين، فمنذ إعادة التوحيد أصبحت جمهورية ألمانيا الديمقراطية منطقة غزو لليمين المتطرف، فهو يرتكز على معاداة قوية للشيوعية وعلى ذكرى المعارضة الراديكالية للنظام فى الفترة 1989-1990 وعلى خطاب مجتمعى يبعث على الحنين من زمن جمهورية ألمانيا الديمقراطية.
لكن قبل كل شيء كانت “أزمة” الهجرة فى عام 2015، هى التى دفعت حزب البديل من أجل ألمانيا، إلى جعل ألمانيا الشرقية معقله الانتخابى الجديد، وكان إنهاء الدعم العسكرى لأوكرانيا أحد موضوعات الحملة التى قادها حزب البديل من أجل ألمانيا، فهو يعارض استمرار تسليم الأسلحة ويؤيد المفاوضات مع روسيا كضمان للسلام مع ألمانيا، ومن خلال هذا الخطاب يعيد الاتصال بالدعاية «السلمية» للكتلة الشرقية، وتكمن قوة هذا الحزب فى أنه تم إنشاؤه بعد إعادة التوحيد. ومن الناحية الرمزية لا يظهر هذا الحزب كحزب «مستورد من الغرب» بل إنه يعد بتقديم عرض جديد للناخبين الذين يشعرون بخيبة أمل متزايدة.