Close ad

فرصة العرب مع ترامب

20-11-2024 | 12:56

تبدو ثمة "نافذة ضئيلة" من الأمل للعالم العربي في التأثير على الإدارة الأمريكية، وذلك إذا ما أيقنت الدول العربية أنها تملك الكثير من الأوراق، ولديها الكثير ما تخسره لو لم تعمل معًا، وتقف في وجه عاصفة التطرف الإسرائيلي، وترسل بالأفعال لإدارة ترامب أن لديها مصالح حيوية سوف تدافع عنها، وأنها مصرة على صفقة أفضل من ترامب.

ووسط المؤشرات شديدة القتامة يبرز بصيص أمل في أن العرب لديهم خبرة امتصاص الحماقة الأمريكية، ولديهم قوة مصر وحنكتها، والتي تتعرض لأقسى اختبار، ولحظة توافق نادرة ما بين معسكر الاعتدال ومعسكر المقاومة، وحاجة أمريكية ماسة لئلا يقف العرب بعيدًا ناهيك عن عقد علاقات دافئة مع الصين وروسيا.

وهذه فرصة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، والذي نجح في بناء علاقة متميزة مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ودائرته الضيقة على مدى سنوات، سواء وهو في الحكم أو وهو خارجه.

وعلى الإدارة الامريكية القادمة أن تفهم أن بايدن قد تمكن من تبديد ما تبقى من رصيد سياسي واجتماعي في العالم العربي؛ بما في ذلك المملكة العربية السعودية.

وأحسب أن العالم العربي عليه أن يدرك أهمية إعداد إستراتيجية جديدة متميزة، وأن يلعب محمد بن سلمان دور رأس الحربة في التعامل مع واشنطن، انطلاقًا من بوابة "العلاقة الشخصية" مع ترامب، وهذه "فرصة ثانية" تلوح لتحسين أحوال العلاقات العربية الأمريكية.

وعلى الأغلب سيقول البعض "ما الذي تغير، ولماذا السعودية، ولماذا بن سلمان؟"، والإجابة الواضحة هي أن حالة الغزل الأمريكي للسعودية واضحة للعيان، وطريقة لعب الساسة الأمريكيين باتت مكشوفة، وبدون إبداع؛ فهي تتأرجح ما بين التهديد والابتزاز من جهة، والتلويح بالإغراء والإطراء والتملق الكبير.

ولقد رأينا من أين بدأت إدارة جو بايدن وأين انتهت في تعاملها مع السعودية ومحمد بن سلمان، ولقد فشل بايدن في الابتزاز "التهديد بمعاملة السعودية كدولة منبوذة"، فقد انتهى به الأمر مهرولًا تجاه الرياض وولي العهد السعودي.

وفي الوقت نفسه فشلت إدارة بايدن في إغراء بن سلمان في عقد صفقة اتفاقية الدفاع المشترك المرهونة بالتطبيع مع إسرائيل، وحتى اللحظة لم ينجح بايدن في تحقيق هذا الإنجاز، وأغلب الظن أن بن سلمان لا توجد لديه أي دوافع لمكافأة رئيس صهيوني جرى اهانته من الدولة العميقة، وإزاحته من المشهد السياسي بأسوأ صورة، وذلك بإجباره على الانسحاب من السباق الرئاسي في مشهد مهين للغاية.

وفي المقابل علينا أن نسجل هنا لولي العهد محمد بن سلمان أنه بمرور الوقت يثبت أنه "من الدهاة" في غابة السياسة الدولية، فقد قام بتعزيز علاقته مع الصين وروسيا بقوة، وخاصة علاقته مع القيصر فلاديمير بوتين، فضلا عن حفاوته الشديدة بالزعيم الصيني شي شين بينج، وفي خطوة جريئة للغاية قام بتبريد الحرب في اليمن، وبدء جهود دبلوماسية لتسوية عادلة للأزمة هناك.

وفي الوقت نفسه تجاوب مع جهود الصين في رغبتها في تحقيق مصالحة بين السعودية وإيران، وتجاوب مع مساعي طهران تجاه الرياض وبقية دول العالم العربي من أجل المصالحة مع دول الجوار.

لقد منح بن سلمان الصين "جائزة كبرى" في الشرق الأوسط، وبعث برسائل "خطيرة للغاية" للدولة الأمريكية العميقة، فقد سحب ورقة "التهديد الإيراني" بالمصالحة مع طهران، وبالحياد في أثناء حرب إيران وإسرائيل، ولم يسمح بعبور اي طائرات مقاتلة او مسيرة لأجواء بلاده، بل وندد بهجوم إسرائيل على "إيران الشقيقة"، وبالتالي سحب ورقة الابتزاز والتخويف.

واحتفظ بعلاقة تنسيق جيدة مع موسكو من خلال "أوبك بلاس"، ولم يغرق سوق النفط لتركيع موسكو، كما سمح بأن يتم التعامل على النفط بعملات أخرى غير الدولار.

والآن واقع الحال يقول إن الصين وآسيا من أكبر المشترين للنفط السعودي، والرياض تطور علاقاتها مع مجموعة بريكس، والعلاقة مع بكين تتوسع وتتمدد من مجالات التنسيق السياسي والنفط والاستثمارات والتكنولوجيا الحديثة إلى التعاون العسكري والتنسيق الأمني.

وأغلب الظن أن ترامب سوف يجد واقعًا آخر، وسعودية جديدة وبن سلمان آخر، فقد نجح ولي العهد في تجاوز أوقات صعبة، وبدهاء شديد زاد من أوراق اللعب لدى بلاده، وساعدته الأزمات لتحسين وضع الخليج والشرق الأوسط كطرف فاعل على المسرح الدولي، فقد ساهمت الأحداث الدولية والأزمات الأخيرة؛ كوفيد وحرب أوكرانيا والحرب على غزة ولبنان وهجمات إسرائيل وإيران المتبادلة، وأزمة الطاقة، وأزمة الديون؛ سواء في أمريكا أم بقية العالم، والصراع التكنولوجي الرهيب، وبروز عنيف لعالم متعدد الأقطاب.. في إبراز نواحي القوة والضعف في النظام الدولي الحالي الذي يهتز وتتراجع قبضة القوة العظمى الوحيدة عليه بصورة صارخة.

وأبرز التجليات أن ترامب يقولها بصراحة أن بلاده في ظل أزمة ديون غير مسبوقة وعدم قدرة على منافسة الصين لا تستطيع أن تتحمل نفقات الدفاع عن الشركاء والحلفاء، وهو لا يريد "الحروب التي لا نهاية لها".

وأحسب أن الخبراء وأنصار وخصوم واشنطن يدركون الآن أن واشنطن هي في حالة استدارة، أو محاولة "هبوط آمن" لوقف التدهور، فهي تعاني أعراض الترهل التي عانى منها الاتحاد السوفيتي قبل سقوطه؛ وبالطبع الديناصورات تأخذ "زمنًا طويلًا" قبل السقوط المروع.

ولم يعد خافيًا وضع واشنطن الحالي، وذلك بعدما حذر إيلون ماسك في تصريحات أثارت الفزع بين الأمريكيين، من أن الولايات المتحدة تتجه إلى الإفلاس بسرعة كبيرة، وأن البلاد تعيش حالة شبيهة بـ"ورطة بطاقات الائتمان"، أي العيش من أجل دفع الفوائد فقط.

فقد تطرق في برنامج "بودكاست" إلى مسألة حساسة غالبًا ما يتفادى السياسيون، ومن يخوضون السياسة التعرض لها، وهو ميزانية وزارة الدفاع الأمريكية. وقال ماسك إن ميزانية الوزارة كبيرة جدًا، وأضاف بلهجة مندهشة: "تريليون دولار سنويًا!"، ولفت إلى أن مدفوعات الفائدة على الدين الوطني تجاوزت ميزانية وزارة الدفاع؛ حيث تتراكم الفائدة سنويًا، "نحن نضيف تريليون دولار إلى ديوننا سنويًا، والتي سيتعين على أطفالنا وأحفادنا سدادها بطريقة ما، ثم ستصبح كل ثلاثة أشهر، ثم قريبًا كل شهرين ثم كل شهر، وبعد ذلك، الشيء الوحيد الذي سنعمل على سداده هو الفوائد، وهذا يشبه الشخص الذي تراكمت عليه ديون بطاقات الائتمان بشكل مفرط"، واختتم بالقول: "نهاية هذا المسار ليست سعيدة.. علينا خفض الإنفاق الحكومي".
 
وهنا لابد للسعودية، ولولي العهد السعودي من اغتنام اللحظة، ومحاولة إقناع واشنطن بأن تكون أكثر إنصافًا، وأن يؤمن لبلاده وللعالم العربي صفقة جيدة.

ولابد للرياض من مراجعة سجل أمريكا، فقد اعتمدت واشنطن على القاهرة وعمان لفترة طويلة؛ كدعامتين أساسيتين للدبلوماسية في العالم العربي، وكان هذا كمكافأة لاستعدادهما لإحلال السلام مع إسرائيل، ولأن مصر والأردن راهنتا على المساعدة الغربية، والاهتمام الأمريكي بالمنطقة، وفوجئت الدولتان بالفوضى الخلاقة، وتورط وتنكر واشنطن للشركاء خلال الربيع العربي.

وبعد ذلك جاء الدور على اتفاقيات إبراهام، وطبعت دول أخرى، ولم يتحقق لا السلام ولا الرخاء، وبات الجميع مهدد.

والآن تبحث الدبلوماسية الأمريكية عن مزايا سياسية وأمنية واقتصادية هائلة من السعودية، وذلك بالترويج لأنها ترغب في أن تجعل من الرياض النقطة المحورية للمبادرات الكبرى في المنطقة العربية، وهو ما يدعو له جوشوا يافي بمقال في صحيفة ناشيونال إنترست الأمريكية، تحت عنوان "فرصة ترامب في السعودية"، ولكنه يضع شرطًا بقوله "يجب أن يعلم الرئيس أن لديه شريك موثوق به، وجاهز لتزويده بمنصة لإعلان سياسة رئيسية في لحظة حرجة عندما يكون الرأي العام العربي ضد الولايات المتحدة".

"وهنا مرة أخرى تطالب النخبة الأمريكية بمنصات عربية جديدة لإعادة إطلاق سياسات واشنطن المنحازة لإسرائيل، والتي ثبت فشلها من قبل، والتي تفجر موجات غضب وكراهية في العالم العربي.

وأحسب أن السعودية هي أكثر حصافة، ويكفي للتدليل على ذلك أن محمد بن سلمان لم يستجب ويشارك مهرولًا في اتفاقات إبراهام، وأثبتت الأيام أن تريثه انعكاس لميراث "الحكمة الدبلوماسية" السعودية.

كما أحسب أن السعودية والعالم العربي عليهما الاقتراب أكثر من الأصوات المنددة بسياسات واشنطن المدمرة في الشرق الأوسط، فقد، انتقد نائب الرئيس المنتخب جيه دي فانس العام الماضي "إجماع السياسة الخارجية" الأمريكية على محاولة إعادة تشكيل الشرق الأوسط بالقوة، وكتب فانس في صحيفة وول ستريت جورنال: "لقد دعمت القيادة في كلا الحزبين غزو العراق، ومشروع بناء الدولة الذي استمر عقودًا من الزمان في أفغانستان، وتغيير النظام في ليبيا، وحرب العصابات في سوريا، وكل هذه السياسات كلفت الكثير من المال، وقتلت الكثيرين، ولم يخدم أي من هذه الصراعات المصلحة الوطنية في الأمد البعيد".

ولكن من المؤسف في الشرق الأوسط أن صناع السياسات الأمريكيين لم يتعلموا بعد من هذه القائمة الطويلة من الإخفاقات، وربما كان هذا أمرًا حتميًا، فكيف كان بوسع الولايات المتحدة أن تنجح، وهي لا تسلك أي طريق آخر، وتنظر إلى أعدائها باعتبارهم أشرارًا لا يمكن إصلاحهم؟

وعلينا جميعًا أن نتذكر ونحن في مفترق طرق أن مستقبل الشرق الأوسط لن يكتب بالحديد والنار، وأن محاولة فرض شرق أوسط جديد تهيمن عليه إسرائيل سوف تقاومه الدول الصديقة لواشنطن وخصومها على حد سواء.

 ومن ناحية أخرى يذكرنا د. وحيد عبدالمجيد بدروس التاريخ في مقالة مهمة بعنوان "نحو إحباط محاولة خامسة لتغيير المنطقة"، ويبشرنا بأن المحاولة الراهنة سوف تفشل مثل المحاولات السابقة.

ويرى عبدالمجيد أن العدوان الواسع على لبنان، في الوقت الذي تتواصل جرائم الإبادة الجماعية في قطاع غزة، وتمتد إلى الضفة الغربية، يقترن بمحاولة جديدة لتغيير المنطقة العربية، والشرق الأوسط عمومًا، وخلق ما يرجو المعتدون الصهاينة وحلفاؤهم في الغرب أن يكون واقعًا جديدًا؛ يُقصد بهذا الواقع تكريس هيمنتهم على البلدان العربية التي تتعاون حكوماتها معهم، ويصل تعاون بعضها إلى مستوى قريب من التحالف، من موقع التابع، أو الشريك الأصغر في أفضل تقدير، وتغيير سياسات حكومات الدول التي لا تقبل هذه الهيمنة أيًا كانت طريقة تعبيرها عن عدم القبول.

ويشير إلى أن محاولات تغيير المنطقة عادةً ترتبط بحدث أو تطور كبير عسكري أو تفاوضي، إذ يعمد الصهاينة أو حلفاؤهم، والأمريكيون منهم بصفة خاصة، إلى محاولة استغلال عدوان يشنه هؤلاء أو أولئك أو اتفاق سياسي يُسمى سلميًا، لتحقيق ما يطمحون إليه، أو قل يحلمون به، منذ أن ظهرت البوادر الأولى لما يُطلق عليه شرق أوسط جديد أو كبير، بعد توقيع إطاري كامب ديفيد عام 1978، ثم المعاهدة المصرية – الإسرائيلية عام 1979.

ويعبر حديث رئيس الوزراء الصهيوني منذ توسيع نطاق العدوان على لبنان وتعميقه في منتصف سبتمبر الماضي، عن هذا الطموح أو الحلم بتحقيق ما فشل فيه الصهاينة وحلفاؤهم أو تم إحباطه أربع مرات من قبل، ولكن هذا يتوقف على نتيجة العدوان على لبنان وقدرة المقاومة على مواجهة ضربات عسكرية هائلة مقترنة بجرائم إبادة في المناطق الخاصة لهذه المقاومة، وكذلك على مواصلة المقاومة في قطاع غزة صمودها الإعجازي المُلهِم، ومن ثم إحباط الخطة الشيطانية الجديدة.

ومما يبعث على الأمل أن العدوان الصهيوني الحالي على لبنان هو الرابع في 26 عامًا؛ وقد فشلت الغزوات الثلاث السابقة أعوام 1978 و1982 و2006، في تحقيق أي نجاح إستراتيجي، ومع ذلك لم يتعلم المُعتدون، ولم يستوعبوا الدرس، ولم يعوا أنه ما دامت فلسطين محتلة، فلا يمكن إلا أن توجد مقاومة.

ويبقى أن هذه الوقائع على الأرض، وتفاعلات المشهد الدولي والإقليمي، ودروس التاريخ القريب، والتي تقول إن العرب لديهم فرصة في مواجهة تطرف قادة إسرائيل وعاصفة ترامب.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا: