اتجهت أنظار العالم إلى باكو عاصمة أذربيجان، حيث يقام مؤتمر الأمم المتحدة للمناخ «كوب 29» لعام 2024 ويختتم أعماله يوم 22 نوفمبر، ويُعقد المؤتمر هذا العام في وقت تزايدت فيه انبعاثات ثاني أكسيد الكربون العالمية، لتسجل مستوى قياسيًا مرتفعًا، في 2024، لينحرف العالم أكثر عن مساره الهادف لتجنب المزيد من الظواهر المناخية المتطرفة والمدمرة.
أحدث تقرير صادر عن 80 مؤسسة بحثية، ونُوقش في جلسات المؤتمر، كشف عن ارتفاع انبعاثات ثاني أكسيد الكربون العالمية إلى 41.6 مليار طن في 2024، مقارنة بالعام الماضي، وأغلب هذه الانبعاثات ناتج عن حرق الفحم والنفط والغاز.
لذا فإنه من الواضح أن المجتمع الدولي تقاعس عن كبح جماح أنشطة الوقود الأحفوري التي تنتج نحو 80% من الطاقة العالمية، والمُستمرة في تلويث الكوكب وحرقه في مواجهة المعاناة الإنسانية المتزايدة.
اتفاقية باريس
كان من المأمول أن يسهم الالتزام ببنود اتفاقية باريس للمناخ والمبرمة عام 2015 في الحد من ارتفاع درجات الحرارة العالمية بأكثر من 1.5 درجة مئوية، لتجنب الآثار السيئة لتطرف المناخ.
لكن ذلك لم يتحقق، فارتفعت انبعاثات الوقود الأحفوري على مدى العقد الماضي فيما هبطت انبعاثات استخدام الأراضي خلال هذه الفترة. إلا أن الجفاف الشديد في منطقة الأمازون هذا العام تسبب في اندلاع حرائق الغابات لتزيد انبعاثات استخدام الأراضي السنوية 13.5% إلى 4.2 مليار طن.
بيد أنه حتى في ظل ارتفاع درجة الحرارة بمقدار 1.5 درجة مئوية فقد يؤدي هذا إلى نزوح جماعي، وإلحاق الضرر بسبل العيش، وخسائر في الأرواح، وستكون البلدان منخفضة الدخل هي الأشد تضررًا، أما في الوقت الراهن، فالعالم يسير نحو زيادة قدرها 2.6 إلى 3.1 درجة مئوية هذا القرن، وفق تقرير منظمة العفو الدولية.
تبادل الاتهامات
تعتبر انبعاثات ثاني أكسيد الكربون المتراكمة هي العامل الأكثر تأثيرًا في التغير المناخي، إذ بدأت هذه الانبعاثات في الارتفاع خلال الثورة الصناعية- خاصة بعد عام 1850، مما يعني أن البلدان الأكثر تقدمًا مثل الولايات المتحدة وبلدان أوروبا الغربية، والتي انتقلت مبكرًا إلى نظام اقتصادي قائم على الوقود الأحفوري، لها دور كبير في التأثيرات المناخية التي نراها حاليًا حول العالم.
وعلى النقيض من ذلك، فإن البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل لديها انبعاثات تاريخية تراكمية أقل، وحتى داخل البلدان ذاتها، فإن الأغنياء نسبيًا هم المسئولون أكثر عن غالبية انبعاثات الكربون.
وإذا كانت الدول الغنية والمتقدمة هي الأكثر مساهمة في الاحتباس الحراري، فإن تأثيره على البلدان غير متساوٍ، وبالتالي فإن رفاهية الأغنياء تعد ثمنًا لـ"بؤس الفقراء" في قضية التغير المناخي.
هذا الأمر يؤكده بحث أصدرته منظمة أوكسفام، قبيل انعقاد كوب 29، أظهر أن انبعاثات الكربون الصادرة عن اليخوت الفاخرة والطائرات الخاصة المملوكة لأصحاب المليارات في العالم تؤدي إلى ملايين الوفيات الزائدة وتتسبب في خسائر اقتصادية بأموال ضخمة بسبب انهيار المناخ.
وكشف التقرير أن الشخص فائق الثراء في أوروبا من أصحاب المليارات، يطلق خلال أسبوع واحد الكمية نفسها التي يطلقها شخص واحد من أفقر 1% من سكان العالم على مدى حياته من الغازات المسببة للاحتباس الحراري.
وهذا يظهر حجم النفاق المناخي الذي يعاني منه العالم، فالدول الغنية تتملص من التزاماتها ووعودها بخفض الانبعاثات، وتلقي اللوم على الآخرين، في وقت لا تزال فيه من كبار مستهلكي ومنتجي الوقود الأحفوري.
آثار على البشر والغذاء
الآثار السلبية لتزايد الانبعاثات ألقت بآثار سلبية غير مسبوقة على كوكبنا، وهي تبدو واضحة في درجات الطقس القاسية، وتلوث الهواء المباشر، فضلًا عن تداعيات التغير المناخي غير المباشرة من خلال تعطيل النظم البيئية، وزعزعة الاستقرار الاجتماعي.
وكشف تقرير أممي جديد أن الأزمة المناخية تمثل تهديدًا مباشرًا لصحة الإنسان البدنية، والنفسية، ورفاهيته وحياته، حيث زادت الوفيات المرتبطة بالحرارة بين كبار السن مقارنة بالتسعينيات، كما فُقدت 6% من ساعات النوم نتيجة ارتفاع الحرارة في عام 2023، مقارنةً بالمتوسط بين عامي 1986 و2005.
من النتائج الخطيرة التي أوردها التقرير أيضًا أن حوالي نصف مساحة اليابسة العالمية عانت من جفاف شديد، ما تسبب في ارتفاع معدلات انعدام الأمن الغذائي في 124 دولة.
هذه التأثيرات ليست بعيدة أو مجردة، بل نعيشها الآن في شكل درجات حرارة قياسية في الهند، وفيضانات مميتة في كينيا وإسبانيا، وحرائق ضخمة في الأمازون، وأعاصير مدمرة في الولايات المتحدة.
خسائر اقتصادية
لم يسلم الاقتصاد العالمي من التغير المناخي، إذ ارتفعت الخسائر السنوية الناجمة عن الأحداث المناخية القاسية 23% لتصل إلى 227 مليار دولار، وهي تتجاوز الناتج المحلي لأكثر من نصف اقتصادات العالم، كما فُقدت 512 مليار ساعة عمل محتملة بسبب الحرارة، بتكلفة قدرها 835 مليار دولار.
تقدر دراسة لغرفة التجارة الدولية، التكلفة الإجمالية للأضرار الناجمة عن الأحداث المناخية المتطرفة المرتبطة بالمناخ على مستوى العالم بنحو تريليوني دولار بين عامي 2014 و2023 وهو ما يعادل تقريبًا الخسائر الاقتصادية للأزمة المالية العالمية عام 2008.
وفي عامي 2022 و2023، وصلت الأضرار الاقتصادية إلى 451 مليار دولار، وهو ما يمثل زيادة 19 % مقارنة بالمتوسط السنوي للأعوام الثمانية السابقة.
تُظهر بيانات العقد الماضي بشكل قاطع أن تغير المناخ ليس مشكلة مستقبلية فحسب، فخسائر الإنتاجية الناجمة عن الأحداث الجوية المتطرفة يشعر بها الاقتصاد الحقيقي الآن.
كما تسهم التغيرات المناخية فيما يُعرف بالتضخم المناخي، حيث ينعكس هذا التضخم على القدرة الشرائية للأفراد ويهدد استقرار الأسواق المالية، فضلًا عن ذلك هناك تداعيات مالية خطيرة على بعض الاقتصادات النامية التي تجد صعوبة في مواجهة التحديات الاقتصادية المتزايدة بفعل التأثيرات المناخية بشكل خاص، حيث تصبح بعضها معرضة لمخاطر حقيقية تهدد استقرارها الاقتصادي.
التمويل المناخي
تحتاج الدول النامية والأقل دخلًا إلى التمويل لمكافحة التغير المناخي، وهو ما يشكل عقبة كؤود أمام هذه البلدان. وتشير تقديرات صندوق النقد الدولي إلى أن الوصول إلى صفر انبعاثات بحلول عام 2050 يتطلب زيادة الاستثمارات منخفضة الكربون من 900 مليار دولار في عام 2020 إلى 5 تريليونات دولار سنويًا بحلول عام 2030. ويجب أن يبلغ نصيب البلدان الصاعدة والنامية من هذا الرقم تريليوني دولار سنويًا، مما يمثل زيادة قدرها خمسة أضعاف عن عام 2020. وحتى وإن أوفت الاقتصادات المتقدمة بتعهداتها بتقديم 100 مليار دولار أو أكثر قليلا سنويًا، فإن معظم التمويل اللازم لهذه الاستثمارات منخفضة الكربون يجب أن يكون من القطاع الخاص.
وهذا يتطلب زيادة حصة القطاع الخاص من تمويل العمل المناخي من 40% إلى 90% من إجمالي التمويل في اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية بحلول عام 2030؛ ويعني ذلك أيضًا وضع مزيج من السياسات الشاملة للتغلب على حواجز مثل مخاطر النقد الأجنبي ومخاطر السياسات، وأسواق رأس المال غير المتطورة، وتدني عدد المشروعات القابلة للاستثمار.
إن الطموح وحده غير كاف لمواجهة تحديات تغير المناخ، فنحن بحاجة إلى إجراء تغييرات كبيرة على مستوى السياسات لتحقيق الأهداف المناخية.
ولا يمكن لبلد واحد التصدي لتغير المناخ، لذا فإن التعاون الدولي أكثر أهمية من أي وقت مضى، فتضافر الجهود الآن هو السبيل الوحيد لضمان كوكب صحي لأبنائنا وأحفادنا.