ظل السكن بمصر الجديدة، الضاحية الراقية التي تأسست قبل 120 عامًا أحد أحلام طبقات عدة في المجتمع لعشرات السنين، تلك السنوات التي تعاظم فيها العمران، المرتكز إلى بنايات منظمة وشوارع واسعة وحدائق ومترو، وهي مفردات شكلت في مجملها ملامح الحي، الذي يحبه المصريون، حتى من خارج سكانه، وربما يتفاخرون بوجوده، مع ضواح أخرى قليلة مثل جاردن سيتي والزمالك والمعادي، اجتهدت للنجاة من حصار وتسلل العشوائيات ومازالت.
وربما اعتدنا بدلا من إنشاء أحياء منظمة في بناياتها وطرقاتها وحدائقها ووسائل المواصلات منها وإليها، أن ندمر ما هو صامد أمام معاول التشويه.
لذلك تابعت ولو بقدر يسير، مبادرة تراث مصر الجديدة، وأعتبرها نموذجًا في نشاط المجتمع المدني في مصر، صالحًا للاقتداء به في بقية الأحياء، للارتقاء بجودة حياة المصريين، والارتقاء بجودة الحياة هدف إستراتيجية التنمية المستدامة في رؤية مصر 2030 التي طرحتها الدولة،
وكانت مبادرة تراث مصر مصر الجديدة تأسست عام 2011، وأشهرت عام 2015 كمبادرة حقوقية متخصصة في التراث، الذي بدأ في سنة التأسيس وكأنه في طريقه إلى المحو، إثر ثورة 25 يناير، والتي رأيت فيها منذ نجاحها، أنها أظهرت أسوأ ما في المصريين من خصال، وفي مقدمة هذا السوء طمس وتشويه أحياء بالكامل.
ويبدو أن المبادرة أنشأت في ذلك التوقيت لمنع المزيد من الانحدار في الذوق العام، وكبح انتشار العشوائية في حي راق حافظ على نفسه منذ تأسس عام 1905.
وحسب ما قدمت نفسها فإن المبادرة تهدف أساسا إلى تحقيق نوعية أفضل من الحياة في منطقة مصر الجديدة، وتحرص على جمع خبراء ومتطوعين لتحقيق رؤية قصيرة وطويلة المدى، يمكن أن تؤثر على طريقة الحياة التي يُراد تحقيقها فى مصر الجديدة.
هي نموذج ناجح من عمل المجتمع المدني، وكثيرا ما طرحت المبادرة مشاريع حضارية تحيي بها فكرة الحفاظ على الحي، وعلى سبيل المثال فقد قامت قبل عامين بتزيين كنائس الحي في الكوربة وسانت فاتيما احتفالا بعيد الميلاد المجيد، كما قاومت وألقت الضوء على أزمة قطع الأشجار وتصدت لمحاولات تغيير طبيعة حديقتي ميرلاند وغرناطة.
وعند أعضاء المبادرة فإن الغيرة على الحي، هي الدافع من وراء جهودهم ونشاطهم، وأما اهتمامي بالمتابعة، ولست من سكان الحي ولا قريبًا منه، فهو للحرص على القيمة في أي مكان في مصر، لأن الحرص على القيمة، أحد عوامل البناء والتقدم، وكذلك الرضا عن الذات والوطن، لقد زرت العاصمة البريطانية لندن، وأطلعني صديق على كارت بوستال يحمل صورة أحد الشوارع العادية التقطت قبل مائة عام، ثم اصطحبني إلى نفس الشارع، لأشاهد نفس منظر صورة الكارت، وكأنه يقر حقيقة واقعة عندما أبلغني بأنني بعد مائة عام أخرى سيكون الشارع كما هو، وفي حال تهدم منزل فإنه سيبنى على نفس الطراز المعماري ونفس الشرفات وعدد الطوابق ولون الجدران.
قيمة مصر الجديدة أو الزمالك أو جاردن سيتي أو القاهرة الخديوية باعثة على الفخر طالما ظلت نفس البنايات من دون تشويه، لكن للأسف لم تفلت مبان وحدائق ومقابر من نسف المعنى من وراء الحفاظ عليها، فهذه التفاصيل والحرص عليها وحمايتها، باعتبارها فلسفة أخلاق وحياة وسلوك يجب أن يسود، وفي رأيي فإن الحفاظ على رونق القديم لا يتعارض مع التجديد والتحديث، ومما لا شك فيه فإن شكوى "مبادرة مصر الجديدة"، لا ينبغي أن تزعج أحدا، لأنها من المفترض أن تلتقي في النهاية مع وظيفة الأحياء نفسها، لو تم التعاطي مع المبادرة بشكل إيجابي وتعاون وتفهم.
وفي محور الثقافة في "رؤية مصر 2030" ذكرت منظمات المجتمع المدني كواحدة من آلية المتابعة والتقييم للرؤية، كما نصت على أن "العناصر الإيجابية في الثقافة مصدر قوة لتحقيق التنمية، وقيمة مضافة للاقتصاد القومي وأساس لقوة مصر الناعمة إقليميا وعالميا"، وأعتقد أن الحفاظ على خصوصية حي مثل مصر الجديدة، هو أحد العناصر الإيجابية في الثقافة المصرية.
أما محور التنمية العمرانية في رؤية مصر 2030 فقد نص على الحد من التجاوزات والتعديات بالعمران القائم وهذا هو صلب الموضوع.
ترى المبادرة أن حي مصر الجديدة يتجه بسرعة شديدة إلى العشوائية الكاملة وأن الوقت حان لتحرك جدي وفعال ومستدام، ولتكاتف السلطات لإنقاذ مصر الجديدة، وتحدث بيان المبادرة الأخير عن فوضى وعدم احترام القانون وإهدار حقوق السكان والزائرين وباعة جائلين وتعدي المحلات والكافيهات على أرصفة المشاة واللافتات العشوائية، وحصرت المبادرة التعديات بدقة شديدة، ويمكن لهذا الحصر أن يكون بداية عمل الحي في التعامل معها ولو بالتدريج، وللأسف فإن هذه المعادلة أو الخلطة الصالحة لتدمير أي حي، لأن التعدي على الأرصفة والباعة الجائلين معا ينتجان حالة بائسة في أي شارع في مصر وليس مصر الجديدة وحدها.