Close ad
16-11-2024 | 11:10

الشعب المصري يشبه "اللافا والحمم البركانية" التي صهرها الزمن وتعاقبت عليها المحن، فصار كالأحجار الكريمة الصلبة الجميلة في جوهرها مهما تراكمت على سطحها أتربة ليست من معدنه الأصيل..

أزمنة هي من عمر هذه الأرض تعاقبت على مصر، وظلت هي وشعبها ونيلها في اتحاد وانسجام وصبر كصبر هذه الأرض نفسها وصلابتها وحنوها، جينات موروثة من قديم الزمن امتصها الإنسان المصري فصارت شخصيته من خارجها صلدة شفافة كالزجاج تبدو للناظرين هشة سريعة الكسر، بينما هي في حقيقتها وباطنها في صلابة الماس وقوته ولمعانه وأصالته تحتمل في ثبات، وتنزع عنها قشرتها الهشة كلما مرَّ بها خطب أو غزاها غازٍ غاشم، وتظل كامنة كمون اللآلئ في محارها تنتظر انفراج الأزمة وانقشاع الغمة، وهنا يظهر المعدن الحقيقي لشعب قهر الزمن، وتحدى الصعاب عهدًا بعد عهد، وجيلًا بعد جيل.

شخصية المصري أثارت ذهن هيرودوت فتحدث عنها بانبهار، ورأي أن المصريين أشد تدينًا من سائر أهل الأرض! وأنهم أول من حفر الصور والرسوم على الأحجار، وتغزل في نيلها وأدهشته طبيعتها ونسائم جوها المعتدل، ورأي أن ملابس المصريين هي الأنظف والأجمل. 

وعندما وفد على مصر كل وافد رحالة سرد عنها أعاجيب لا ينفك التاريخ يذكرها ذاهلاً مدهوشاً. 

فكتب عنها ابن خلدون فصولاً يصفها وصف العاشق المحب، وذكرها المقريزي في خططه وكشف حقيقة صلابة المصري، وأن مداهنته للحكام جاءت نتيجة لقهر قديم، وأنها ممالأة سطحية لا تنم عن طبيعة أصيلة، وأن المصريين في حقيقتهم لهم هِمم وعزائم تطاول الجبال.

تمعَّن جمال حمدان الجغرافي المصري في حقيقة شخصية مصر، ونظر إليها نظرة المتعمق في أصولها وجذورها الباحث في طبقات تكوينها العريق، فلاحظ كيف أنها تجمع بين الأضداد وتوحد بين المتناقضات، ثم تختار الاعتدال، والوسطية فيها أصيلة؛ فهي تتوسط العالَم القديم كأنها رمانة ميزان ثلاث قارات التحمت في هذه البقعة المضمومة بين كفيّ بحرين من أجمل بحار العالم وأعرقها، ويشقها من منتصفها نهر هو الأطول والأجمل والأحلى مذاقاً.

ذلك التكوين الجغرافي العبقري الفريد، جعل مصر لا تشبه أي بلد من بلدان العالَم، واستطاعت جغرافية مصر هزيمة تاريخها، فبقيت مصر، وذهب غزاتها، وابتلعت بطنها هذا التاريخ، لتكشفه بعد آلاف السنين كأنها تحتفظ داخل أرضها بسجلّ الأرض والتاريخ.
 
هذا التاريخ التليد أبهر كل دارسيه المعاصرين، المصريين منهم والمستشرقين، وحاول كل منهم تفسير حقيقة مصر وجوهرها من دراسته لتاريخها فأعجزته الحيلة، واحتار في أمرها. 

وراح كل باحث يراها على ضوء دراساته العميقة من زاوية؛ فكتب ميلاد حنا عما أسماه: "الأعمدة السبعة للشخصية المصرية". وبحث الدكتور محمد عودة عن جذور هذه الشخصية ووصفها في كتابه "التكيف والمقاومة الجذور الاجتماعية والسياسية للشخصية المصرية".

وراح الدكتور عاطف غيث يدرس القرية المصرية العريقة، وصفات الفلاح المصري الذي ورث عن أجداده الثبات والرسوخ.

جلد المصري كأنه رقائق بردي، كل طبقة منها تكشف عن حقبة تاريخية عايشها أجداده؛ فالحقبة الفرعونية تداخلت مع عهد البطالمة فالرومانيين، ثم انسلخت حقبة قبطية عانت الاضطهاد فجاء الإسلام منقذًا ودرعًا ضرب قبته الشفافة حول ربوع مصر يحميها من الغادرين.

تشكلت الشخصية المصرية من عناصر، أولها العقيدة، واجتمع الباحثون على أن المصري مفطور على الإيمان الراسخ، وأنه آمن منذ القدم بالبعث والحياة الآخرة، فبنى الأهرامات ومراكب الشمس تكريسًا لاهتمامه بالحياة الآخرة. 

وعندما لاحظ اليونانيون ارتباط المصريين بعقيدتهم، حاولوا النفاذ إليهم من هذا الباب؛ واحترموا عقائدهم. 

والمصريون الذين احتضنت أرضهم ألواح موسى وإنجيل عيسى باتوا في عقيدتهم المسيحية كأنهم الفنار الذي أضاء ما حوله؛ فبمجرد وصول رسالة السيد المسيح للإسكندرية، أصبحت أحد أهم مراكز انتشار الدين الجديد، ورغم الاضطهاد صبر المصريون وطووا صدورهم على عقيدتهم حتى باتت المسيحية هي الدين الرسمي للبلاد، ثم انتقم المسيحيون لأنفسهم من الوثنيين، ورفضوا كل ما ينتمي لليونانيين، ثم ظهرت الرهبانية، وبُنيت الأديرة، واحتفى المسيحيون بقدِّيسيهم وأقاموا الموالد التي باتت طقسًا مشتركًا بين المسلمين والمسيحيين كعادة اكتسبوها منذ القدم. 

ومع الإسلام بدأت فترة جديدة مشرقة من الحرية الدينية، وأما عملية التحول للدين الإسلامي فاستمرت إلى ما يقرب من ثلاثة قرون لتصبح الغالبية إسلامية ومَن بقي على المسيحية عرف فيما بعد باسم قبطي.

العنصر الثاني للشخصية المصرية مستمد من صلابة أرضها وخلودها، وهو عنصر الرسوخ والثبات والاستمرارية.

فالمصري لا ينبذ ماضيه، بل هو يجمع تاريخه بين جوانحه وفى ذاكرته ويعيش به دون انقطاع عن حاضره، القديم والجديد مجتمعان في شخصيته دون تنافر أو تعارض.

عنصر ثالث استمده المصري من هذا النيل الجاري منذ آلاف السنين كأنه نابع من علياء السماء؛ هو عنصر الحكمة والاعتدال.

إن أهم سمة لهذا الشعب أنه وسطي معتدل هادئ ثابت الجنان لا يثور ولا يتمرد، كما لا تفزعه النوائب، وهو لا يحب العنف، ولا يمارسه. 

إن الطبيعة الزراعية لوادي مصر الخصيب أثمرت عند الفلاح المصري ثباتًا وصبرًا وارتباطًا بالماء والأرض، الفلاح الذي واجه الفيضان السنوي وآفات المواسم الفتاكة بصبر، لم يهتم بتعاقب الحكام، لأنهم يذهبون ويبقى هو، وتبقى أرضه وثمارها تحدب على هذا النيل العجوز حدب الوليد على أمه.

الحكم الروماني عندما جاء في أعقاب هزيمة أنطونيو وكليوباترا في معركة إكتيوم عام 31 ق.م. بدأ وثنيًا مع "أوكتافيوس أغسطس" وانتهى مسيحيًا مع قسطنطين الذي اعتنق المسيحية، وأنشأ مدينة القسطنطينية. 

ومنذ أيام البطالمة كان هناك نظام لإدراج أسماء السكان في قوائم فأدخل الرومان نظام التعداد المنظم الذي كان يجري كل أربعة عشر عامًا واحتفظ الرومان بتقسيم البلاد القديمة إلى أقاليم على رأس كل منها مدير ولو أنهم جردوه من جميع اختصاصاته العسكرية وكان يعاونه كاتب ملكي. 

واقتطع الرومان للقادة منهم ضِياعًا وأراضي هي الأجود والأكبر، لكنهم ذهبوا وعادت الأرض للمصريين.

لقد أقام الرومان حكومة مركزية قوية ذات جهاز إداري واضح المعالم تسندها قوة عسكرية كافية لحفظ الأمن الداخلي، ونظام بيروقراطي محكم حافل بالسجلات والأجهزة الرقابية، ومجتمع هرمي الشكل منقسم إلى طبقات ممتازة وطبقات أدني.

خضع المصريون في القرن الأول الميلادي لمبدأ الإلزام الذي أجبرهم على شغل وظائف إدارية لصالح الدولة الرومانية؛ كشيخ القرية ومحصل ضرائبها، وباتت القرية ككل ملزمة بدفع ضرائب أفرادها من الفلاحين. 

وبدأت الأمية تنتشر بين المصريين وبخاصة النساء، بعد أن كان المصريون على عهد الفراعنة روادًا في مجالات عديدة كالهندسة والطب والقضاء والعمارة والفنون والأدب. 

[email protected]

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة