موقف البنتاجون يمزج بين التحفظات الأمنية والإستراتيجية ويرى أن هذا القرار قد يفتح الباب أمام عودة الجماعات المتطرفة.
موضوعات مقترحة
الانسحاب يشكل تحولاً جذرياً فى الديناميات السياسية والعسكرية للمنطقة حيث يثير العديد من التساؤلات حول كيفية تفاعل القوى المحلية والإقليمية مع غياب أمريكا
فى خضمّ تناقضات السياسة الأمريكية فى الشرق الأوسط، يبرز نهج الرئيس دونالد ترامب، كرؤية مغايرة تطمح إلى تقليص التدخلات الخارجية، مُستلهمة من شعاره الشهير «أمريكا أولاً. هذه الإستراتيجية التى قد تبدو براقة للوهلة الأولى، تعيد تعريف دور الولايات المتحدة فى العالم، وتدفع بواشنطن نحو تحرير نفسها من عبء الحروب والصراعات الخارجية، لكن هذا النهج يصطدم بشكل مباشر مع مؤسسات الدولة العميقة، خصوصا البنتاجون، ووكالة الاستخبارات الأمريكية، ورؤيتهما فى تراجع الدور الأمريكى تهديدًا إستراتيجيًا، يضرب جذور المصالح الوطنية فى منطقة الشرق الأوسط.
منذ أن طرح ترامب فكرة الانسحاب الأمريكى من سوريا، ظهرت معارضة قوية من قبل البنتاجون وأجهزة الأمن القومى، التى تدرك أن هذا القرار يحمل فى طياته أكثر من مجرد تخفيض فى تكاليف الدفاع، فهو يُنذر بفراغ أمنى قد يُفقد الولايات المتحدة، سيطرتها على معادلات القوى الإقليمية، وفى منطقة تتشابك فيها المصالح وتتنازع فيها القوى، فإن انسحابًا كهذا قد لا يهدد نفوذ واشنطن فحسب، بل يُشكل تهديدًا وجوديًا لحليفها الإستراتيجى، الكيان الإسرائيلى، الذى يرى فى استمرار الوجود الأمريكى ضمانةً لأمنه.
تُواجه هذه السياسة إذن، تحديًا مزدوجًا، فمن جهة، هى محاولة لتنفيذ وعود انتخابية تهدف إلى تعزيز الاقتصاد الأمريكى، وإعادة بناء الداخل، ومن جهة أخرى، تقابلها مخاوف قادة المؤسسات العسكرية والاستخباراتية الأمريكية، الذين يرون فى هذه الخطوة استسلامًا غير مباشر لتطلعات خصوم الولايات المتحدة كروسيا وإيران، فى هذا المقال التحليلى، نستعرض أبعاد هذا التوجه ونتناول تداعياته المعقدة على التوازنات الإقليمية فى الشرق الأوسط.
منذ تولى الرئيس الأمريكى السابق، دونالد ترامب منصبه، كان موقفه من الوجود العسكرى الأمريكى فى سوريا واضحًا: تقليل الانخراط العسكرى الأمريكى فى الشرق الأوسط، والتركيز على مصالح "أمريكا أولًا"، شهدنا إعلانه فى عام 2018، عن انسحاب القوات الأمريكية من سوريا باعتباره استكمالًا للهدف الأساسى، وهو إضعاف تنظيم "داعش"، ومع عودة ترامب إلى الساحة الرئاسية يعود القرار إلى الواجهة، حيث يتطلع إلى تخفيف العبء العسكرى مع تعزيز التحالفات المحلية.
ومع ذلك، فإن هذا القرار يواجه تحفظات قوية من جانب وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون)، التى ترى أن الانسحاب غير المحسوب قد يُعرض المنطقة لفراغ أمنى، يزيد من قوة الخصوم التقليديين للولايات المتحدة مثل روسيا وإيران، ويخلق بيئة ملائمة لعودة تنظيمات متطرفة مثل تنظيم "داعش"، سنعمل هنا على استعراض أبعاد هذا القرار وأثره على التوازن الإقليمى فى ظل التوترات الحالية.
الأبعاد السياسية والدبلوماسية
يأتى قرار الانسحاب الأمريكى المحتمل من سوريا، ليشكل نقطة خلاف داخل الإدارة الأمريكية، فبينما يسعى ترامب لتحقيق وعوده بالحد من التدخلات الخارجية، فإن البنتاجون والعديد من الدوائر الدبلوماسية ترى أن هذا القرار قد يضعف موقف الولايات المتحدة، كحليفٍ موثوق وشريكٍ قادر على حفظ الاستقرار فى المنطقة.
بالنسبة للأكراد، الحليف الرئيسى للولايات المتحدة فى سوريا، فإن الانسحاب سيتركهم أمام تهديدات مستمرة من تركيا، التى تعتبرهم مصدر تهديد لأمنها القومى، ولعل التخلى عن الحلفاء الأكراد سيؤثر سلبًا على مصداقية واشنطن، خصوصا وأنّ الأكراد لعبوا دورًا رئيسيًا فى مواجهة تنظيم "داعش"، بدعم من الولايات المتحدة، ومن جانب آخر، فإن العلاقات الأمريكية -التركية ستتأثر بشكل مباشر.
على الصعيد الدولي، فإن انسحاب القوات الأمريكية قد يُفسح المجال أمام روسيا لتعزيز تحالفاتها فى سوريا، خصوصا مع حلفائها مثل إيران وتركيا، ضمن ما يُعرف بمحادثات "أستانا". وفى هذا السياق، قد ينظر الحلفاء الغربيون إلى انسحاب الولايات المتحدة، كخطوة تضعف الموقف الغربى أمام روسيا فى المنطقة.
مخاوف البنتاجون والتحديات الأمنية
يبدو أن موقف البنتاجون، من قرار سحب القوات الأمريكية من سوريا يمزج بين التحفظات الأمنية والإستراتيجية، إذ يرى قادة وزارة الدفاع أن هذا القرار قد يفتح الباب أمام عودة الجماعات المتطرفة، وعلى رأسها تنظيم "داعش"، الذى - رغم تعرضه لضربات متكررة - لا يزال يمتلك القدرة على إعادة بناء خلاياه النائمة.
التحذيرات من خطر عودة التنظيمات الإرهابية، لم تكن جديدة، فالتقارير الصادرة عن وزارة الدفاع، ووكالات الاستخبارات الأمريكية تشير إلى أن "داعش"، لا يزال يحتفظ بوجود له فى بعض المناطق الريفية والصحراوية، وأن أى انسحاب أمريكى سيؤدى إلى فراغ أمنى يمكن استغلاله، البنتاجون يرى أيضًا أن الوجود العسكرى الأمريكى يشكل رادعًا للتنظيمات المتطرفة، ويسهم فى الحفاظ على نوع من التوازن الأمنى الضرورى لردع هذه التهديدات.
من ناحية أخرى، فإن البنتاجون يدرك أن الانسحاب سيضعف السيطرة الأمريكية على المنطقة، ما يُسهّل على خصوم الولايات المتحدة، مثل روسيا وإيران، توسيع نفوذهم. بالنسبة للبنتاجون، يشكل هذا التوسع الروسى - الإيرانى تهديدًا مباشرًا لمصالح واشنطن، وحلفائها فى الشرق الأوسط، إذ يُعتبر هذا الوجود بمثابة تحالف مضاد قادر على تشكيل توازن إستراتيجى جديد يُضعف قوة الردع الأمريكية.
كل هذه التحديات تجعل وزارة الدفاع تُبدى تحفظات شديدة على قرار الانسحاب، وتدفعها للضغط من أجل الحفاظ على وجود محدود يسمح بمراقبة الأوضاع، مع توفير الدعم اللازم للحلفاء المحليين فى سوريا لمواصلة ملاحقة التنظيمات الإرهابية.
النفوذ الروسى والإيرانى
فى ظل غياب القوات الأمريكية، من المتوقع أن تستغل روسيا وإيران هذا الفراغ لتعزيز وجودهما فى سوريا. فروسيا، التى حافظت على دعم ثابت للنظام السورى منذ بداية الأزمة، ستحرص على تعزيز دورها كفاعل رئيسى فى البلاد، وهو ما يعطيها نفوذًا إضافيًا فى منطقة الشرق الأوسط.
الوجود الروسى لا يُمثل مجرد دعم عسكرى أو سياسى للنظام السورى، بل يُعد جزءًا من إستراتيجية موسكو، الأوسع للتوسع فى الشرق الأوسط، وتحقيق مكاسب على حساب النفوذ الغربى، هذا النفوذ لا يقتصر فقط على سوريا، بل يتجاوزه إلى حلفاء أمريكا فى المنطقة.
أما إيران، فستسعى لاستغلال الانسحاب الأمريكى لتعزيز وجودها العسكرى فى سوريا، مما يتيح لها مجالًا أكبر للتحرك بين سوريا ولبنان، وبالتالى تعزيز دعمها لحزب الله كقوة موازية لأى تدخل خارجى.
المخاطر والسيناريوهات المستقبلية
يشكل انسحاب القوات الأمريكية من سوريا، تحولًا جذريًا فى الديناميات السياسية والعسكرية للمنطقة، حيث يثير العديد من التساؤلات حول كيفية تفاعل القوى المحلية والإقليمية مع غياب الولايات المتحدة، وتأثير هذا الغياب على توازن القوى، ولعل هذا التحول يمثل اختبارًا حقيقيًا للأطراف المتنافسة، إذ يضع كلًّا من روسيا وإيران وتركيا فى موقع مسئولية كبرى فى إعادة تشكيل المشهد السياسى والأمنى لسوريا.
أولًا: تحالفات جديدة وتوازن الرعب
مع انسحاب الولايات المتحدة، تصبح الساحة مفتوحة لتكتلات إقليمية جديدة، فروسيا التى دعمت النظام السورى عسكريًا وسياسيًا طوال سنوات الحرب، تسعى لتعزيز موقفها كلاعب رئيسى يحل محل الولايات المتحدة فى تحديد ملامح المستقبل السياسى لسوريا. وفى هذا السياق، من المتوقع أن تعمل موسكو على تنسيق جهودها مع إيران وتركيا ضمن إطار يتيح لهذه القوى تقاسم النفوذ وتجنب الصدامات المباشرة، بينما يشكل ذلك ما يُعرف بـ"توازن الرعب" مع (إسرائيل).
بالنسبة لإيران، فإن غياب الولايات المتحدة يتيح لها فرصة ذهبية لتعزيز وجودها العسكرى والميدانى على الأرض السورية، مما يضعها على مسافة قريبة جدًا من الحدود الإسرائيلية. هذا النفوذ المتزايد يمثل تهديدًا مباشرًا لإسرائيل، التى ترى فى الوجود الإيرانى فى سوريا خطرًا وجوديًا، ما قد يؤدى إلى تصاعد التوترات العسكرية والاشتباكات غير المباشرة بين الطرفين، وهو ما قد يدفع المنطقة إلى شفا مواجهات أكبر.
ثانيا: تصاعد التهديد الإرهابى
قد يشكل الانسحاب الأمريكى فرصة ذهبية للتنظيمات المتطرفة مثل "داعش" لإعادة بناء قوتها واستقطاب المزيد من الاتباع، خصوصا فى ظل التوترات والصراعات بين القوى المحلية والإقليمية، وفى ظل الفراغ الأمنى الناجم عن غياب الوجود الأمريكى، قد تتمكن هذه التنظيمات من تجديد عملياتها ونشاطاتها، مستغلةً عدم الاستقرار لتعزيز نفوذها فى المناطق النائية أو غير الخاضعة لسيطرة مباشرة، هذا السيناريو قد يُجبر الحلفاء الإقليميين على اتخاذ تدابير فردية لمكافحة التطرف، مما قد يُعقّد الوضع الأمنى أكثر.
ثالثا: الانعكاسات الإستراتيجية
إن انسحاب الولايات المتحدة من سوريا، لن يقتصر أثره على الوضع السورى، بل سيمتد ليؤثر على مجمل التوازنات الإقليمية، حيث ستنظر باقى القوى الإقليمية بعين القلق إلى غياب الدور الأمريكى التقليدى، ما قد يدفع هذه الدول للبحث عن تحالفات جديدة، أو تعزيز التعاون العسكرى، فيما بينها لمواجهة أى تهديدات مشتركة محتملة، من جهة أخرى، قد تسعى روسيا إلى استثمار هذا الوضع لإقناع الدول العربية بقدرتها على ملء الفراغ الذى تتركه واشنطن، الأمر الذى سيشكل تحولًا محوريًا فى التحالفات الإقليمية، ويدفع القوى الغربية نحو إعادة تقييم إستراتيجياتها.
ختاما: فى خضم السعى لتحقيق شعار "أمريكا أولاً"، يتّخذ نهج ترامب موقفًا جريئًا قد يُعيد رسم أدوار القوى العظمى فى الشرق الأوسط، لكنه يواجه اختبارًا صعبًا أمام مصالح متجذرة للدولة العميقة، التى ترى فى انسحاب واشنطن تهديدًا لا يمكن تجاهله، فالمنطقة لم تكن يومًا مجرّد ساحة نفوذ؛ بل هى ركيزة أساسية للهيمنة الأمريكية، وساحة صراع مستمر تُناط بها مصالح الغرب الإستراتيجية، ومصير حليفها الأبرز، إسرائيل، الذى يخشى أن يُصبح عرضة لأخطار حقيقية دون المظلة الأمريكية.