قد يملأ الشاعر الدنيا صخبًا وبرحيله لا ينتبه أحدٌ، وقد يغيب الشاعر عن الذكر، فإن صعدت روحه لبارئه تتالَت وفود المشيعين والمنتبهين، وأظن صاحبنا من الصنف الثاني؛ والسؤال الذى أراه صالحًا للمستقبل كيف ندرس ظاهرة أبى سنة (1965: 2000) والأعوام التى بين القوسين تخص سنى إثماره الإبداعي.
موضوعات مقترحة
الأحد 10 نوفمبر 2024 غيب الثرى الشاعر الكبير محمد إبراهيم أبو سنة، بعد حياة عامرة بالعمل الإذاعى والإبداعى والنقدى قرابة الخمس وثلاثين سنة من عمره، الذى امتد لنحو سبع وثمانين عامًّا، ويجمع هذه الأعمال هدوء صوت صاحبها، وعدم مزاحمته وابتعاده عن المعارك الأدبية، ويمكن تقسيمها إلى؛ ساكن مطمور وهى مراحل التكوين (1937: 1965) وعمله محررًا فى هيئة الاستعلامات، ويعود ذلك لرفض الشاعر كتابة سيرته، وقلة الحوارات التى أجريت معه.
ثم مرحلة الظهور الإبداعى والنقدى سواء من خلال عمله فى الإذاعة ونشره دواوينه ومقالاته فى المجلات الأدبية كالكاتب وغيرها ثم تجميعها فى كتب، ثم مرحلة الاعتزال (المعاش الاختياري) التى رافقت وصوله لسن المعاش الوظيفى من (2000: 2024) ولا نرى فيها إلا ملفًّا عنه فى يناير 2013 فى الثقافة الجديدة، ثم طباعة أعماله الكاملة فى هيئة قصور الثقافة، وبعض الجوائز المتباعدة.
حرص على أن يعرف الناس شعره وشعره أولاً؛ ومن دواوينه «قلبى وغازلة الثوب الأزرق»، «حديقة الشتاء»، «الصراخ فى الآبار القديمة»، «أجراس المساء»، «تأملات فى المدن الحجرية»، «البحر موعدنا»، «مرايا النهار البعيدة»، «رماد الأسئلة الخضراء»، «رقصات نيلية»، «شجر الكلام»، «أغانى الماء» و “ورد الفصول الأخيرة”، وهنا نذكر أن ديوانه “البحر موعدنا” هو درة تاجه وقمة ظهور مشروعه الشعرى، الذى إن أكمل فى هذا الاتجاه لاختط لنفسه مكانًا مميزًا.
جرب أن يكتب مسرحًا شعريًّا فكتب “حصار القلعة” و”حمزة العرب”، لكن يبدو أن الصدى لم يعجبه، أو أن النصوص ذاته، لم تصل لما يرغب فيه، أما الكتب النقدية فقد كانت تجميعًا لحلقاته ومقالاته، واللافت للنظر فيها أنها كانت عروضًا انطباعية، للمجلات التى يكتب فيها كالكاتب والآداب والمجلة أو مادة معدة للبث الإذاعى مع بعض المراجعة.
لم يغب التقدير عنه فى مرحلتى الإنتاج والاعتزال، حصل على الزمالة الشرفية من جامعة أيوا الأمريكية فى عام 1980، ثم جائزة الدولة التشجيعية فى الشعر 1984 عن ديوانه البكر “ البحر موعدنا”، وجائزة كفافيس فى عام 1990م، عن ديوانه “رماد الأسنة الخضراء”، وجائزة أندلسية للثقافة والعلوم، عن ديوانه “رقصات نيلية” فى عام 1997، وحصل ديوانه “ورد الفصول الأخيرة” على جائزة محمد حسن فقي، وجائزة جامعة شتيرن بألمانيا عن كتاب “العرب والأدب المهاجر” 2008، وكانت تتمة الجوائز جائزة النيل فى الآداب 2024.
ولد عام 1937، فى محافظة الجيزة، ثم انتقل فى العاشرة من عمره إلى حى الحسين ليتمكن من اللحاق بالأزهر الشريف، الذى تدرج فيه حتى حصل على ليسانس كلية الدراسات العربية جامعة الأزهر عام 1964م (ويرجع كبر سنه إلى التحاقه بمدرسة أولية، ثم دخوله سلك التعليم الأزهري، وإلى بدئه هذا الالتحاق وعمره عشر سنوات)، وعمل محررًا سياسياً بالهيئة العامة للاستعلامات فى الفترة من عام 1965 إلى عام 1975، ثم مقدم برامج بإذاعة “البرنامج الثانى”، عام 1976، وفى 1995 شغل منصب مدير عام البرنامج الثقافى، وعمل نائبًا لرئيس الإذاعة المصرية، وتعد فترة عمله فى الإذاعة هى فترة الازدهار لإنتاجه ولدوره الثقافي.
بدأت معرفته بالشعر منذ رأى أثره حين هجاه معلمه فى القرية، لكنه تعلق به حين طالع نصوصه فى أثناء دراسته قبل الجامعية فى الأزهر، من خلال نصوص المطالعة التى شملت عصور الأدب العربي، والتفت إلى الشعر الرومانسى فى بدايته نظرًا لطبيعته الحالمة، ثم جذبته نازك الملائكة إلى مدرسة الشعر الجديد، وظل تعلقه بالفكرة الرومانسية، ما دفع لويس عوض لرفض نشر قصائده واصفًا هذا التعلق “بالمرض” وناقشه فى كيفية علاجه، ومع محاولته للنشر والذيوع قابل قطب الشعر فى زمانه؛ صلاح عبد الصبور، وقطب الإذاعة؛ فاروق شوشة، وقد مد كل منهما يده له بكل ما استطاع، فنشر له عبد الصبور فى الأهرام بداية 1964 بعد رفض لويس ومماطلته، واستضافه فاروق شوشة ثم دعمه للعمل فى الإذاعة المصرية، وتبدو هنا الأيادى البيضاء للأزهر الشريف وللملائكة وللويس عوض ولعبد الصبور ولشوشة.
يرى أبو سنة أن يبتعد عن شعر المناسبات؛ فلا يكتب عن العواصف والقواصم التى تمر بها البلاد، فلا نكاد نجد قصيدة عن قضية فلسطين أو نكسة يونيو أو حرب أكتوبر، أو معاهدة السلام مع العدو، فى حين كانت الشوارع والأقلام تعالج قضايانا القومية، اتساقًا مع المذهب الواقعى التى ينتسب إليها الشاعر، والتى كتب فيها العرب والمصريون؛ فلم نجد قصيدة كهوامش على دفتر النكسة، أو إلى أول جندى رفع العلم أو لا تصالح، ولقد التزم بهذا المنهج، فلا نكاد نجد له قصيدة تعالج قضايانا، ولم أعثر فى كتبه النقدية عن مقال واحد عن أدب المقاومة، وما يثار من أنه كتب قصائد لم ينشرها فى عهد عبد الناصر ونشرها بعد ذلك فى ديوانه “حديقة الشتاء” يقدح فى الشاعر ويصمه بالجبن، وعند قراءة الديوان لا نجد شيئًا ينبئ عن أن صاحبه (خبأ) قصائده.. والحقيقة أن الشاعر أراد استثمار إمكانات المدرسة الواقعية فى النصوص الرومانسية.
شاعر رومانسى يتخذ الإطار الواقعى منهجًا منذ سطره الأول حتى الأخير فى شعره ونثره وحياته، الرومانسية هنا بمعناها العام وبمفهومها الاصطلاحى إنه إنسان حالم مسالم، وهو شاعر متشائمٌ، يحن لمواطن الذكريات، يفر من النزاعات، يستبطن ذاته، وهو إلى هذا وذاك يمتلك لغة تراثية ينتقى منها ما يناسب مذهبه ومنهجه، وأحسب أن الجيل الأول من الواقعيين، كان سيقابل مشكلة كبرى لو لم يظهر أبو سنة.
يرى كثيرون أن انضمامه تحت راية الشعر الجديد (التفعيلة، الحر) مكنه من الظهور، وفى هذا جزء من الصحة، لكننا نتحدث عن فترة سادها الرومانسيون كمحمود حسن إسماعيل، وشهدت ظهورًا كبيرًا للعموديين كالبردوني، لكن رؤية أبى سنة الثاقبة وهي: الاستفادة من الجديد، لدعم المُتبنى؛ ولننظر لعناوين دواوينه.. ماذا سنجد؟ لا عنوان يخلو من مفردة رومانسية أو تركيب على نسقها، بدءًا من “«قلبى وغازلة الثوب الأزرق» الذى يضع ثلاث مفردات (قلب/ شعور، غازلة/ امرأة وحب، الأزرق/ الطبيعة) ومرورًا بحديقة الشتاء. وما يحيل القارئ إليه من مشاعر ينتجها السؤال: ما الجامع بين الحديقة والشتاء، والصراخ فى الآبار القديمة الدال على التشاؤم المفرط، ثم أجراس المساء الذى يستدعى الصورة الرومانسية الأولى لمطران التى بنى عليها من تبعه تناصاته ورموزه، ولنتأمل نحن بقية العناوين لنستكنه دلالاتها الرمزية «تأملات فى المدن الحجرية»، و»البحر موعدنا» وهو درة التاج لديه، ثم تظهر عناوين الغروب والانكسار وانتظار الرحيل والذكريات «مرايا النهار البعيدة»، و»رماد الأسئلة الخضراء»، ثم العناوين التى ساد فيها عنصر الطبيعة «رقصات نيلية» الذى كتب فى ظلال بعد الشاعر عن زوجته، و»شجر الكلام» الذى جعل الكلام عنصرًا من عناصرها والجامع بينهما الإزهار والإثمار والذبول، و»أغانى الماء» وهو عنوان توحد فيه الشاعر بالطبيعة توحدًا شاملاً، أما “ورد الفصول الأخيرة” فكأنه أعلى راية من رايات الرومانسية، فهو أشبه بالبوتقة التى صُهِر فيها جل مرامى الرومانسية.
تعلق الشاعر بالرومانسية وطبيعته، جعلت موقفه الشعرى غائمًا وغامضًا، ما دفع شعراء الأجيال التالية لوضعه فى سلة “قتلة التجديد” الذى أراده عبد الصبور ورفاقه، لهذا تألم هو من هجومهم عليه، وما أراه أن الالتزام الرومانسى صنع كوابح فنية للشاعر، وأن طبيعة عمله (موظفًا) فى الدولة جعلته أكثر محافظة، وعلى حين اكتوى هؤلاء الشعراء من السادات فى مظاهرات 1972، وانتفاضة الجوع، ورفضوا صلحه مع الكيان المغتصب، فقد صرح أبو سنة كثيرًا بأن عصر السادات كان عصر حرية، لنضف أن ملامح الثورة السبعينية، لم تكن قد اتضحت لأصحابها أنفسهم، فانقسموا فى البداية إلى “إضاءة” و”أصوات” ثم انقسمت الأولى، وتشرذمت الثانية، فكيف ينجو الرومانسى منهم؟ لقد كان ما ينقمون عليه هو أجل ما لديه، وهو أن سمح للرومانسية أن تتطور وتتجدد ليس بأنها تركت البحر والقافية إلى السطر والمقطع، فهذا تغيير شكلى له دلالات لا تتسع إلا بأخذ ما وضحه نقادها فيما بعد وعلى رأسهم على عشرى زايد فى كتابه “فى ناء القصيدة العربية الحديثة”
قرب حلول الألفية الثالثة ترك أبو سنة موقعه الإعلامى الكبير، وبدا أنه اختار عزلة الأيام الأخيرة التى طالت، وأذكر أنه باح لى فى 2013 بتبرعه بمكتبته فى العقد الأول من القرن العشرين خوفًا عليها بعد موته، كما أن شاعرنا لم يعتن بأن يكون له تلامذة أو أصدقاء أقل سنًّا؛ ما جعل الدائرة الإنسانية تضيق خصوصًا مع رحيل المجايلين والأصدقاء، وبات خروج الشاعر للضرورة، أما الشعر فلا قصيدة تؤلف، ولا ديوان يناقش.
سيكون من المهم تأمل هذين الرأيين لأبى سنة: “الشاعر لا يكون عاجزًا إذا كان مسلحًا بقدرات شعرية ولغوية” و”الشعر له جمالياته الكبرى من خلال علاقته باللغة وبلاغتها التى يمكن استخدامها لبناء أرقى النماذج الشعرية” ولنضف إليها إجابته عن سؤال خاص عن بواعث كتابة النص لديه: “القراءة والاستماع” نحن هنا أمام شاعر، يرى أن الشعر لغة أولاً وأخيرًا، فهو يرفض القصدية، وهذا ما يقودنا إلى قصور وصول نصه للجمهور، وهو ما يعنى بالضرورة عدم بقائه فى الذاكرة، ويعيدنا إلى التعبير العبقرى لعبد العزيز الأهوانى حين تحدث عن خطأ الشعراء، وهو هنا فى التعلق باللغة لا بشحنتها العاطفية والفكرية، فما اللغة إن لم تعبر عن شاعرها ومتلقيها؟
قرب حلول الألفية الثالثة ترك أبو سنة موقعه الإعلامى الكبير، وبدا أنه اختار عزلة الأيام الأخيرة التى طالت، وأذكر أنه باح لى فى 2013 بتبرعه بمكتبته فى العقد الأول من القرن العشرين خوفًا عليها بعد موته، كما أن شاعرنا لم يعتن بأن يكون له تلامذة أو أصدقاء أقل سنًّا؛ ما جعل الدائرة الإنسانية تضيق خصوصًا مع رحيل المجايلين والأصدقاء، وبات خروج الشاعر للضرورة، أما الشعر فلا قصيدة تؤلف، ولا ديوان يناقش، حتى دراسة عبد الحكم “الخطا والأثر” وهى فى الأصل أطروحة علمية وصدرت عن الهيئة العامة لقصور الثقافة سلسلة كتابات نقدية، وهى فيما أظن أوفى دراسة عنه، عوملت كأنها لم تكن.
هل نحن بحاجة إلى منجز أبى سنة؟ بالطبع لأنه يمثل التعامل الملائم لتطورات الشعر، فلا يمكن لشاعر أن يبدأ من الصفر، ولا نرى أن يلتزم بما حوله فى جمود، وليت الدرس النقدى والمبدعين والقراء إلى تضفيرته للواقعية والرومانسية وإخراج نص متماسك أصيل، سيكون هذا أفضل من عودتنا بعد المندبة إلى الصمت العميم، فما هكذا تجدد الآداب نفسها.