باريس.. مدينة الجن والملائكة؛ سمعت ذلك الوصف لأول مرة وأنا طفل صغير على لسان نور الشريف في مسلسل "أديب"، وعرفت أن الدكتور طه حسين هو من أطلقه عليها عندما زارها، وأثارت العبارة حيرتي، كنت صغيرًا، وكل ما جال بخاطرى أنها مدينة تملؤها العفاريت والملائكة، هكذا تصورت ولطالما تساءلت ببراءة الأطفال كيف يجتمع أولئك وهؤلاء ويعيشون جنبًا إلى جنب في مكان واحد؟
لم تكن زيارتي الأولى لمدينة الجن والملائكة تخطر على البال أو الخاطر، كانت مفاجأة من العيار الثقيل لي ولزملائي الباحثين في جامعة برجن، قنبلة فجرها المدير بمنتهى الهدوء: لقد قررت الجامعة مشاركتكم في مؤتمر ذي صلة بعملكم سوف تعقده منظمة اليونسكو في باريس، حيث ارتأت الجامعة أن تلك المشاركة سوف تكون نافعة ومجدية وذات أثر في البحث الذي تقومون بإعداده حول تطوير الجامعات البحثية في حوض النيل.
لم يدرِ المدير أو يتصور وقع تلك المفاجأة علينا، كل ما حدث أن رأيناه وقد انتفض على كرسيه عندما اخترقت صرخاتنا أذنيه، وابتسمت عيناه وهو يرانا نغنى ونقفز حوله من فرط السعادة.
هبطنا إلى مطار شارل ديجول ومنه إلى مترو الأنفاق الذي أخذنا إلى الفندق، كانت الزيارة لمدة خمسة أيام، خططنا قبلها ألا نقضي لحظة واحدة في الفندق، وأن نظل مستيقظين قدر الإمكان للتمتع بكل لحظة، بالطبع.. إنها باريس، خاصة أن الزيارة جاءت في وقت الاستعداد للاحتفال برأس السنة.
كنا نقضى النهار في مقر اليونسكو لحضور المؤتمر، وباقي اليوم في الشوارع نتجول ونمتع أنظارنا بالنظام والنظافة، وإن كنت قد شعرت في بعض محطات مترو الأنفاق أن وضع مترو الأنفاق في مصر أنظف كثيرًا، وكم سعدت حينها بتلك الملاحظة، كان ذلك في عام 2008.
إذا زرت باريس فلا يفوتك أن تتناول الوجبات المتميزة التى تقدمها المطاعم المغربية، كان أحدها مجاورًا للفندق، تعرفت عليه وكان غدائي كل يوم هناك.
بالطبع تعتبر زيارة برج إيفل من أساسيات زيارة باريس، ذلك العملاق الحديدي العجيب الذي يشعرك برهبة شديدة عندما تقف تحته وتنظر لأعلى لترى نهايته، لم أقو على تحمل فكرة الصعود إلى قمته، أرعبتني الفكرة واكتفيت بزيارته يوميًا، حيث كان قريبًا من الفندق؛ بحيث يمكننا مشاهدته منذ لحظة الخروج من باب الفندق.
في زيارة أخرى لباريس قال لي أحد الأقارب المصريين المقيمين هناك، اليوم سوف نذهب للجلوس على الترعة، ضحكت من مقولته، وعندما خرجنا فوجئت به يأخذني إلى نهر السين بجوار برج إيفل، لنجد أناسًا كثيرين جاءوا بالطعام والمشروبات ليقضوا بعض ساعات النهار ويستمتعوا بمشهد النهر، لم تكن المرة الأولى التي أرى فيها نهر السين، لكن بالفعل كانت المرة الأولى التي أنتبه فيها إلى حجمه الذي لا يتجاوز مساحة ترعة صغيرة في مصر، رغم ذلك ترى جمالًا ونظافة لا مثيل لها.
أجمل ما وجدت في باريس أن أسير وحدي في شوارعها القديمة ليلًا، وأن تجلس على أحد المقاهي في ميدان الباستيل، وفي الشوارع الصغيرة الجانبية، وأن تسير في شارع الشانزليزيه، بداية من عند قوس النصر، وصولًا إلى ميدان الكونكورد؛ حيث المسلة المصرية الشهيرة والنافورة الأثرية والساقية الكبيرة.
ربما كان ذلك هو الجانب الملائكي الذي أظهرته لي باريس، الجانب الذي قرأت عنه وتصورته، المقاهي في الحي اللاتيني وحي الرسامين، الأدباء وتبادل الفكر والثقافة، رقة اللغة وعذوبتها، الفن والمتاحف والموسيقى، وأحمد الله أنني لم أصادف الفريق الآخر "الجن" حتى تبقى باريس في مخيلتي بلاد الملائكة فقط.
موقف وحيد شعرت فيه بأن الجن ربما يحاول مداعبتي، حين ذهبت في أحد الأيام للتسوق، ودخلت أحد المحلات لأجد فتاة سمراء ذات عيون زرقاء تبتسم وتسألني بمنتهى الرقة هل يمكنني مساعدتك؟ أجبتها بلغتي الفرنسية المتواضعة، وذهبت لإحضار المطلوب، عاينت المشتريات وأخبرتها برغبتي في زيارة المحال الأخرى لأرى ماذا لديهم، وأنني سوف أعود إذا لم أجد ضالتي إلا لديها.
كانت بائعة ماهرة جدًا، ظلت تحاول إقناعي بأنني لن أجد ذلك إلا لديها، وأنها سوف تحاول أن تخفض السعر، وأنني ربما لا أجد هذا الصنف مرة أخرى حين أعود...إلخ.
حاولت التملص منها لأنني تعودت ألا أشتري أول شيء أجده، لم أجد إلا أن أقول لها للأسف ليس معي نقود الآن سوف أعود إليكِ غدًا، قالت قد لا تجدها غدًا، ووجدتها تقترح أن أشتريها ويذهب معي مندوب إلى الفندق لأخذ الثمن!!
الحق أقول إن مهارتها في البيع والشراء قد أثارت انتباهي وإعجابي!! فسألتها هل أنتِ فرنسية الأصل؟ وقد أثار فضولي المزيج الغريب بين لون بشرتها السمراء المقترن بلون عينيها الزرقاوين؟ قالت لي لا.
ابتسمت ابتسامة المنتصر الذي صدقت توقعاته، وقلت لها كنت أتوقع ذلك، أنت بلا شك إفريقية؟ قالت لا، فترت ابتسامتي وغلبتها الحيرة، وقلت إذن من أمريكا اللاتينية؟ قالت لا، فسألتها إذن من أين أنتِ؟ قالت أنا من إسرائيل.. ضاعت الابتسامة، وما أتذكره في تلك اللحظة هو تجمد وجهي؛ كما حدث لوجه عادل إمام في مسلسل دموع في عيون وقحة، عندما أخبرته جوجو أنها إسرائيلية.
لاحظت الفتاة ذلك فسألتني ومن أين أنت؟ قلت لها بابتسامة هادئة -وأنا أشعر بفخر واعتزاز لم أشعر بهما من قبل، وكأنني من فرسان حرب أكتوبر- أنا مصري!! رمقتني بنظرة سريعة، ثم قالت أهلًا بك في باريس.. ودون إضاعة للوقت وجدتها تقول: حسنًا هل أرسل معك المندوب إلى الفندق؟ كان أثر التجمد لا يزال يسري في عروقي، ولم أجد سبيلًا إلا أن أنهي الحديث فورًا بلباقة وأنصرف، وكلي يقين أن المخرج لم يبالغ على الإطلاق في التعبير الذي رسمه على وجه عادل إمام في المسلسل.